المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

* مثلث بيرتس- أولمرت- حالوتس متهاوي الأضلاع * بيرتس يواجه ضغوطا للاستقالة وأولمرت يحافظ على صمت طالما أن "نار الضغط" بعيدة عنه * قرارات بيرتس المستقبلية بشأن مكانته في الحكومة ستكون مرهونة بمدى ما تسهم في فوزه ثانية بزعامة حزبه * أولمرت غير معني بعمير بيرتس في منصبه، لكنه سيبتعد عن أية هزّة في حكومته إلى حين إقرار ميزانية الدولة حتى نهاية العام * كالعادة حكومة إسرائيل منشغلة بنفسها *

كانت المحادثة الهاتفية التي جرت في مطلع الأسبوع الماضي (19/11) بين وزير الدفاع، عمير بيرتس، والرئيس الفلسطيني، محمود عباس، قشة مصطنعة، وعود ثقاب بنار خافتة جدا، "لتفجر" العلاقات بين رئيس الحكومة إيهود أولمرت والوزير بيرتس، اللذين يواجهان حملة ضغط متصاعدة منذ انتهاء العدوان على لبنان مطالبة بإستقالتهما.

وهذه الحملة تشمل بالأساس ثلاثة، فإلى جانب أولمرت وبيرتس هناك وبنفس المستوى رئيس هيئة الأركان، دان حالوتس. وإذا راقبنا هذه الحملة التي انطلقت في اليوم التالي لإعلان وقف إطلاق النار في الحرب على لبنان، نجدها متنوعة، بمعنى أنها بدأت بالمطالبة باستقالة الثلاثة سوية، ثم تراجعت قليلا، لتصبح أشبه بمناوبة بين الثلاثة.

فقد شهدنا قبل أسابيع حملة مركزة على رئيس الحكومة، سعيا لإثبات تورطه في صفقات عقارية تشتم منها رائحة الفساد، واحتمال بدء تحقيق جنائي معه. ثم بدأت لجان التحقيق الخاصة بالجيش تصدر تقاريرها، لينتقل الضغط على حالوتس، ومطالبته بالاستقالة. أما الأسبوع الأخير فقد كان "دور" عمير بيرتس، حيث اشتدت الضغوط عليه، ووصلت علنا إلى داخل حزبه، لحثه على الاستقالة.

وفي كل واحدة من هذه الجولات ضد أضلاع مثلث أولمرت- بيرتس- حالوتس، لم نشهد أي دعم من أي من الضلعين للضلع الثالث، والانطباع العام أن كل ضلع من الأضلاع الثلاثة يسعى لإنقاذ نفسه على حساب الآخرين، فالمهم أن يكون بعيدا عن مركز الضغط.

وفي حين أن حالوتس هو في منصب خاضع للاثنين الآخرين أولمرت وبيرتس، من خلال منصبيهما وبقرار منهما، فإن التعامل مع المطالبة باستقالة أولمرت وبيرتس يختلف عن قضية حالوتس.

"موسم بيرتس"

في الأسبوع الماضي بدأ "موسم بيرتس". وهناك من سعى لتفجير هذا الموسم بأي شكل، والسبب كان ثانويا، مكالمة هاتفية بين بيرتس وأبو مازن، من خلال عضو الكنيست محمد بركة، رئيس الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، على خلفية طلب مجموعة من الحاخامات لقاء أبو مازن، توجهت للنائب بركة لفحص الإمكانية، وكان على بركة الاتصال بمكتبي الرئيس الفلسطيني والوزير بيرتس لفحص الأمور والتنسيق، وهناك ولدت فكرة المحادثة بين أبو مازن وبيرتس، وتمحورت حول إمكانية تجاوب إسرائيل مع إعلان فلسطيني لوقف إطلاق النار.

وفور انتهاء المحادثة توجه بيرتس على الفور لرئيس حكومته أولمرت لإبلاغه بالأمر، قبل أن يبلغ أحدا، بمعنى أنه حافظ على احترام صلاحيات رئيس الحكومة، إلا أن أولمرت رأى في هذا فرصة لإشعال فتيل قد ينتهي باستقالة بيرتس، ليخفف عن نفسه بعضا من عبء الضغط الشعبي، رغم أن مصلحة أولمرت قد تتضرر باستقالة بيرتس بالذات.

ويقول المحلل السياسي في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، ناحوم بارنياع، "إن أولمرت شعر بمهانة"، بزعم أن بيرتس أجرى اتصالات مع أبو مازن، رغم أن هذه صلاحياته. ويضيف بارنياع "إن بيرتس أيضا لم يكن لديه مفر"، فمنذ إقامة السلطة الفلسطينية كان شريك وزير الدفاع الإسرائيلي في السلطة وزير الداخلية، وبغياب الاتصال مع الحكومة الفلسطينية لم يبق أمام وزير الدفاع سوى رئيس السلطة الفلسطينية.

إلا أن كل هذا هو أبعد من الحقيقة، ففي ظروف عادية كان من الممكن أن يمر الأمر من دون أزمة، ولكن أولمرت من جهة وبيرتس من جهة أخرى، ينظران إلى استطلاعات الرأي التي عادت بغزارة إلى وسائل الإعلام الإسرائيلية على مختلف أشكالها وأنواعها. ففي الأسبوع الواحد بتنا نقرأ لا أقل من خمس استطلاعات رأي على الأقل، وكلها بصوت واحد، وكأنها جوقة لفرقة أوركسترا فلهرمونية، تقول إن ثقة الجمهور بالاثنين، بيرتس وأولمرت، في حضيض غير مسبوق، حتى أن مليارديرا مشبوها بتورطه بجرائم مالية دولية، أركادي غايداماك، يتقدم عليهما.

فاستطلاع "يديعوت أحرونوت" الذي نشرت معطياته يوم الجمعة الماضي، دلّ على أن 7% من الجمهور فقط يرى أن أولمرت صالحا ليكون رئيس حكومة، ونسبة مماثلة حصل عليها غايداماك، أما عمير بيرتس فإنه لم يحصل على أكثر من 3%، ونسبة مماثلة حصل عليها بيرتس حول أهليته لتولي منصب وزير الدفاع، وهي نسبة تساوي 20% من قوة الحزب البرلمانية.

كذلك فإن حزبيهما في نفس الاستطلاعات يتلقيان ضربة قاصمة، فحزب "العمل" بزعامة بيرتس سيهبط وفق هذه الاستطلاعات إلى 15 مقعدا، من أصل 19 اليوم، وهناك استطلاع واحد منح الحزب 12 مقعدا، أما حزب "كديما" بزعامة أولمرت، فإنه سيحصل على 18 مقعدا من أصل 29 مقعدا اليوم، فيما لو جرت الانتخابات في هذه الفترة.

وكدولة بات الرأي العام فيها أكثر فأكثر مرهونا بدرجة قصوى بوسائل الإعلام المملوكة من خمس عائلات ثرية، وبنتيجة أن وسائل الإعلام الكبرى قد أصدرت حكمها على الاثنين، في الأشهر الثلاثة الأخيرة، فإن كل واحد منهما بات يبحث عن حبل النجاة، ولربما أن المشهد الحاصل هو أن كليهما في قاع الجُبِّ وكل واحد يحاول الخروج منه على كتف الآخر.

حسابات بيرتس

حتى الأيام الأخيرة كان بيرتس يعتقد أن بإمكانه تحمل الضغط الشعبي، اعتقادا منه انه محاط بعدد من قادة الحزب، خاصة من الوزراء، الذين سيدعمونه في معركته، وحتى الآن كان الضغط يأتي من وسائل الإعلام واستطلاعاتها، مع بعض الانتقادات من منافسي بيرتس في داخل الحزب، الذين خيّب أملهم في توزيع الحقائب الوزارية، مثل النواب عامي أيالون وأفيشاي برافرمان وداني ياتوم وغيرهم.

وكانت الصحف تنقل "تسريبات" حول أن وزراء في الحزب يدعون بيرتس للإستقالة، وكان النفي يلاحق هذه الأنباء لحظة بلحظة، إلى أن ظهر الوزير من دون حقيبة إيتان كابل، السكرتير العام للحزب، في الإذاعة الإسرائيلية يشرح لماذا على بيرتس الاستقالة من منصبه، ليحمل حقيبة أخرى.

فقد تكلم كابل بوضوح عن ضرورة إستقالة بيرتس من منصبه "تجاوبا مع رغبة الجمهور"، وأيضا "لأن هذا أفضل له، لأنه ليس خبيرا في شؤون الأمن، وعليه العودة إلى القضايا الاجتماعية التي كان يقودها"، كما قال كابل للإذاعة.

وتزامن هذا مع الأحاديث عن أن بيرتس سيكون مستعدا لبحث مسألة تركه منصب وزارة الدفاع، في حال عرض عليه منصب وزير المالية، الذي طالب به عند بدء المفاوضات مع حزب "كديما" بزعامة إيهود أولمرت، كشرط للانضمام إلى الائتلاف.

إلا أن "المقربين" من أولمرت سارعوا للإعلان عن أن أولمرت لن يقبل بأي حال من الأحوال نقل حقيبة المالية لبيرتس، "لأنه يتخوف من إدارته المالية"، وهذا لأن بيرتس وحتى وصوله إلى زعامة حزب "العمل"، قبل عام من الآن، كان رئيسا لاتحاد النقابات العامة في إسرائيل (الهستدروت)، وتعيين بيرتس سيثير مخاوف أرباب العمل وأصحاب رأس المال.

كذلك فإن بيرتس أعلن أمام اللجنة المركزية لحزبه أنه لن يقبل بترك منصبه، وهاجم منتقديه من داخل الحزب وخارجه، وزعم أن "أمن إسرائيل أمانة في عنقه"، واعتبر أن الوضع الأمني الحالي في إسرائيل هو نتيجة عمل سابقيه، "العسكريين"، من أمثال شاؤول موفاز وإيهود باراك، اللذين يجري الحديث عنهما كمرشحين لتولي منصب وزير الدفاع في حالة إستقالة أو إقالة بيرتس.

حقيقة أن تكهن المستقبل على الصعيد الشخصي في الحلبة السياسية الإسرائيلية بات عملية "مخاطرة"، لأنه من فترة إلى أخرى تستفحل ظاهرة إتباع السياسة والقرارات المصيرية على أساس شخصي، بمعنى أن بيرتس قد يصر على البقاء في منصبه في انتظار انتقال حلقة الضغط إلى أحد ضلعي المثلث الآخرين في المثلث (بيرتس- أولمرت- حالوتس)، أو أنه يقرر فجأة إلقاء كل شيء من خلفه والإستقالة.

ولكن الأمر لا يبدو كذلك، ولا يظهر أن بيرتس قرر وهو في الرابعة والخمسين من عمره اعتزال السياسة، ولهذا فإن بقاءه في الحلبة السياسية بات مرهونا بشكل كبير، إن لم يكن كليا، بشكل تجاوزه للأزمة التي يواجهها، فمن وصل إلى القمة لن يقبل بالعودة إلى الصفوف الخلفية في قيادة الحزب، وهذا أمر حاسم في شكل قرار بيرتس مستقبلا.

وحينما سيتخذ بيرتس قرارا يجب أن يخدم مصلحته في الانتخابات الداخلية لرئاسة الحزب التي من المفترض أن تجري في شهر أيار/ مايو من العام القادم، وهناك محاولات يقودها أنصار بيرتس لتأجيلها إلى موعد آخر، بسبب وضعية بيرتس في استطلاعات الرأي.

ففي هذه الانتخابات يواجه بيرتس منافسين جديين، الرئيس الأسبق لجهاز الأمن العام (شاباك)، النائب عامي أيالون، والوزير المستقيل على خلفية سياسية (بسبب ضم أفيغدور ليبرمان للحكومة) أوفير بينيس، وهناك شبه اتفاق بين المتنافسين على دعم الواحد منهم للآخر في الجولة الثانية في حال حصولها في تلك الانتخابات.

كذلك فإن بيرتس قد يراهن على العامل الزمني، فهو لا يرى بجدية إمكانية أن يقرر أولمرت إقالته من منصبه لما يحدثه هذا من هزة عنيفة قد تسقط الحكومة بأكملها، والتوجه إلى انتخابات جديدة ليست في مصلحة أولمرت وبيرتس وحزبيهما، وهذا ما سنأتي عليه هنا.

حسابات أولمرت

في المقابل فإن أولمرت الذي يسعى طوال الوقت إلى إبعاد الأنظار عنه، كما فعل هذا حين كان الضغط موجها لرئيس الأركان دان حالوتس، والآن لعمير بيرتس، لا تسمح له حسابات الربح والخسارة بالمغامرة في إقالة بيرتس من منصبه، إلا في حالتين: الأولى أن يضمن عدم خروج حزب "العمل" من منصبه، بمعنى أن "يبيع" وزراء حزب "العمل" السبعة رئيس حزبهم، ولا يتضامنون معه ويبقون في مقاعدهم الوزارية، وهذا ما سيخلق أزمة داخلية في الحزب، أو أن أولمرت سيضمن دخول حزب "يهدوت هتوراة" الديني الأصولي، ليضمن قاعدة ائتلافية بإمكانها تحمل خروج حزب "العمل" من الحكومة.

ولكن الضمان الثاني يعني أن أولمرت سيُدخل نفسه في الدوامة النهائية لحكومته، ولحياته السياسية، فأولمرت على يقين انه لا يستطيع أن يتحرك في ائتلاف عمدته الأساسية حزب "يسرائيل بيتينو"، بزعامة المتطرف أفيغدور ليبرمان، أو كتلتا المتدينين الأصوليين، "شاس" (12 مقعدا) و"يهدوت هتوراة" (6 مقاعد). وليبرمان الذي يبدو الآن ليس "طامعا" بالحقائب الوزارية ستتغير حساباته عند خروج "العمل" من الحكومة، ليتحول إلى الرجل القوي، إن لم يكن الأقوى في حكومة أولمرت.

إن أولمرت يدرك تماما أن الكتلة الأكثر ضمانا لبقاء حكومته لفترة أطول هي كتلة "العمل"، فجميع الخيارات الأخرى التي أمامه تعني فقط تسريع نهايته السياسية، أو على الأقل كرئيس حكومة، وهو في وضعيته اليوم لا يستطيع التوجه إلى ائتلاف يميني محض، مع الليكود و"هئيحود هليئومي" و"يسرائيل بيتينو"، لأن ائتلافا كهذا سيكون النهاية الحتمية لحزب "كديما".

ورأينا في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في ربيع العام الماضي كيف أن كتلة من 15 مقعدا (شينوي) اختفت كليا عن الحلبة السياسية، ومصير كهذا ليس بعيدا عن حزب "كديما" الذي لم ينجح في إثبات حضور جماهيري ميداني، ولم يبن مؤسساته كما يجب كحزب حاكم على الرغم من مرور عام على إقامته.

إن السياق الطبيعي للمجريات السياسية في إسرائيل يقضي بأن أولمرت عليه أن يضمن هدوءا في صفوف ائتلاف حكومته، حتى نهاية الشهر القادم (نهاية العام)، إلى حين إقرار ميزانية الدولة للعام القادم 2007. وحتى الآن لا يبدو أن هناك أزمة ائتلافية جدية حول الميزانية، رغم ما تتضمنه من ضربات للشرائح الفقيرة والمتوسطة، لا بل هناك حديث حول أن أولمرت قد ينجح في ضم كتلة "يهدوت هتوراة" للحكومة بسبب تعديلات في الميزانية، ليسجل أولمرت رقما قياسيا لقاعدة ائتلافية منذ سنوات (84 مقعدا من اصل 120 مقعدا).

ولهذا فمن المفروض أن لا يبادر أولمرت إلى اهتزاز جدي في ائتلافه، يشكل خطرا على إقرار الميزانية، فكل المؤشرات تقول إن أولمرت سينجح في إقرار ميزانية الدولة قبل نهاية العام بأيام، ليسجل بهذا سابقة تحدث في إسرائيل لأول مرّة منذ عدة سنوات. معنى ذلك أنه ليس من المضمون أن يكون بمقدور أولمرت في الأسابيع القادمة، على الأقل، المبادرة لإقالة بيرتس من منصبه.

قراءة أحادية للاستطلاعات

توقفنا هنا عدة مرات أمام قراءة أقطاب الحكومة لما تقوله استطلاعات الرأي حول شعبية كل منهم، لكن استطلاعات الرأي نفسها تمنح غالبية واضحة للعودة إلى طاولة المفاوضات مع الفلسطينيين، كوسيلة لوقف إطلاق القذائف الفلسطينية، حتى أن بعض الاستطلاعات منحت غالبية للشروع بمفاوضات مع سوريا.

إلا أن حكومة إسرائيل بتركبيتها الحالية اختارت الانشغال، وكالعادة، في قضاياها وأزماتها الحزبية الداخلية، كوسيلة أخرى للابتعاد عن طاولة المفاوضات، لأن هذه الحكومة ليس في جعبتها أي برنامج سياسي تطرحه على طاولة المفاوضات سوى إجراءات سياسية لتعميق السيطرة على الأرض الفلسطينية.

عمير بيرتس، وبحسب مقربيه، قال في الأسبوع الماضي، إنه يسعى لإعداد خطة سياسية، إلا أن بيرتس لم يدفع هذه الحكومة ولو مرة واحدة في اتجاه المفاوضات، وحال دخوله إلى وزارة الدفاع استمر في عمليات قصف قطاع غزة، وأعقبها اجتياح استمر حتى الأيام القليلة الماضية، وبعد أقل من شهرين على تولي منصبه شنّ حربا على لبنان.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات