يسعى هذا المقال إلى تفحص مسألة ما إذا كانت حملة الاحتجاج الاجتماعية في صيف العام 2011 قد عززت حقا الشعور بالتضامن لدى المجتمع الإسرائيلي؟!
بقلم: كارميت هابر وإيلاه هيلر (*)
توطئة
يسعى هذا المقال إلى تفحص مسألة ما إذا كانت حملة الاحتجاج الاجتماعية في صيف العام 2011 قد عززت حقا الشعور بالتضامن لدى المجتمع الإسرائيلي؟!
ويكتسب هذا السؤال أهمية خاصة لدى تأمل معطيات "مؤشر الديمقراطية" (في آذار وأيلول 2011) واستطلاعات "مؤشر السلام" (لأشهر تموز، آب وأيلول2011) والتي يستدل منها، خلافا للتوقعات والأجواء العامة، أن الشعور بالتضامن في صفوف الجمهور اليهودي لم يشهد أي تغيير خلال الاحتجاج وحتى في ذروته. فقد كان الشعور بالتضامن متوسطا قبل الاحتجاج وبقي على حالة خلال الاحتجاج.
فضلا عن ذلك فإنه لا يجوز التغاضي عن حقيقة كون الاحتجاج "احتجاجا شبابيا"، إذ كان الشبان هم قادة وطليعة هذا الاحتجاج، كما أن جل المطالب التي طرحت فيه مرتبط بحياة الجيل الشاب في المجتمع الإسرائيلي. وتكشف معطيات "مؤشر الديمقراطية" بصورة مفاجئة عن أن الشعور بالتضامن شهد هبوطا جليا على الرغم من أن احتجاج الصيف الأخير وضع قضية الشبان، بتطلعاتهم وآمالهم ومستوى المعيشة والصعوبات في المجتمع الإسرائيلي، على رأس الأجندة.
فكيف يمكن إذن جسر الفجوة بين الأجواء العامة والشعور بتعزز التضامن الذي ساد في أوج الاحتجاج الاجتماعي، وبين غياب التغيير في شعور التضامن لدى سائر مواطني إسرائيل؟ وكيف يمكن تفسير الهبوط المفاجئ في الشعور بالتضامن لدى الشبان؟!
سوف نحاول بداية تفسير أجواء التضامن الاجتماعي الذي ساد في أوج احتجاج صيف 2011، من خلال ثلاثة أبعاد: مستوى التأييد للاحتجاج الاجتماعي؛ تغيير سلم الأولويات في أعقاب الاحتجاج؛ وأخيرا المناخ الجماهيري في الاحتجاج.
تأييد الاحتجاج الاجتماعي:
الجميع يتحدثون عن العدالة!
خلال تظاهرة الاحتجاج الضخمة التي جرت في الثالث من أيلول 2011 في تل أبيب (شارك فيها 400 ألف متظاهر) ألقت دافني ليف، من النواة المؤسسة للاحتجاج، خطابا قالت فيه: "... لدينا مطالب من الحكومة ورئيسها بوجوب تغير الأحوال. إذ كان هناك ولد لا تتوفر لوالديه النقود من أجل النزهة السنوية، فإن الأمور يجب أن تتغير. إذا كنت متقاعدة أو ناجية من المحرقة، فإن الأمور يجب أن تتغير. إذا كنت من بين (المستوطنين) الذين تم إخلاؤهم من غوش قطيف، فإن الأمور يجب أن تتغير. إذا كنت بدوية، فلا بد للأمور من أن تتغير. أربعون في المئة منا يوصف وضعهم بـ "هش ماليا". وهذا يعني أن 40 بالمئة من بيننا لا يستطيعون تمويل إنفاق غير متوقع...".
إن المطالب التي تتحدث عنها ليف لا تقتصر فقط على فئة طلبة الجامعات، الشبان، أو الطبقة المتوسطة، بل تسعى لدفع المساواة والعدالة الاجتماعية للجميع. لكن دفع العدالة الاجتماعية لم يكن هدفا أوليا للاحتجاج في بدايته. صحيح أن موجة الاحتجاج ركزت في البداية على مطلب مادي ضيق، يتمحور حول خفض أسعار السكن أو أسعار مواد أساسية، ولكن بمرور الوقت تطور الاحتجاج ليشمل مطالب مادية كثيرة وذلك بسبب انضمام مجموعات ضغط ذات مطالب إضافية تتعلق بغلاء المعيشة في إسرائيل ووضع جهازي التعليم والصحة، والتكاليف غير المباشرة الباهظة المرتبطة بتربية الأولاد وعدم توفر حلول سكنية لعموم سكان إسرائيل وغيرها.
أما المطلب الواسع والفضفاض، الذي صار شعارا للاحتجاج، وهو "الشعب يريد عدالة اجتماعية!"، فيدل أكثر ما يدل على أن الاحتجاج لم يبق محصورا في جوانب مادية صرفة، بل انتقل إلى صعيد قيمي مجرد، طالب فيه المحتجون بتغييرات عميقة في المجتمع الإسرائيلي من قبيل تصحيح العلاقات بين المواطن ومؤسسات السلطة وكبح النهج الاقتصادي المتمثل في السوق الحرة.
هذه المطالب الموسعة بالعدالة والمساواة نالت تعاطفا وتماثلا واسعين في صفوف جمهور المواطنين كافة، وهو ما عبر عن نفسه في كثرة عدد المشاركين في مظاهرات أمسيات السبت، أكثر من كل الاحتجاجات السابقة في المجتمع الإسرائيلي.
الجبهة الأمنية مقابل
الجبهة الاجتماعية
يتميز المجتمع الإسرائيلي بالعيش في ظل نزاع عسكري مستمر، وهو ما يشكل مبدأ ناظما يفرض حضوره في كل مجالات الحياة ويؤثر بشكل مباشر على بنية مؤسسات الدولة والمجتمع، وعلى أدائها، ويصوغ سلم الأولويات على نحو يعطي الأولوية للأجندة السياسية- الأمنية.
من هنا فإن من اللافت للانتباه ملاحظة أن الاحتجاج الاجتماعي أثر أيضا على هذا الموضوع، الذي يعتبر أحيانا بمنزلة تابو تقريبا. فقد أشارت المعطيات إلى ارتفاع في نسبة المطالبة بتقليص الفجوات الاجتماعية جنبا إلى جنب مع هبوط في الأهمية التي يوليها الجمهور الواسع لتعزيز القدرة العسكرية لإسرائيل. وفي صفوف الشبان احتلت المواضيع الداخلية والاجتماعية مقدمة الأجندة، حتى قبل الاحتجاج، لكن المطالبة بمعالجة هذه المواضيع تعززت بدرجة ملموسة خلال الاحتجاج (احتجاج صيف 2011).
وقد جاءت الهجمات و"الأعمال الإرهابية" التي وقعت في الجنوب (جنوب إسرائيل) خلال حملة الاحتجاج لتضع قدرة صمود هذا التغير أمام اختبار صعب، غير أن قرار قيادة المحتجين مواصلة مظاهر الاحتجاج، والتأييد الشعبي الواسع لهذا القرار، كانا بمثابة تحد واضح لسلم الأولويات الاعتيادي في المجتمع الإسرائيلي.
وقد تطرقت ستاف شابير، إحدى رائدات احتجاج الخيام، إلى هذه المسألة بقولها "إن أي تصعيد في الوضع الأمني يؤدي فورا إلى تأميم النضالات الاجتماعية. إن خروج الحكومة بدعوات لوقف الاحتجاج لصالح (مواجهة) الإرهاب هو محاولة لاستغلال ألمنا كمواطنين، يتألمون لألم أصدقائهم وعائلاتهم، من أجل إجبارنا على الرضوخ والاستسلام في الجبهة الاجتماعية". ايتسيك شمولي، من قادة الاحتجاج، قال من جهته: "... على المدى القصير نحن نعيش تهديداً أمنيا وهناك خوف وانكماش.. ولكن على المدى البعيد فإن مجتمعنا يتفكك وينهار ويواجه أزمة كبرى تتجاوز الوضع الأمني". كذلك صرح رئيس مجلس بلدة "يروحام" ميخائيل بيطون بأن "كل من اعتقد أن حدثا أمنيا، هنا أو هناك، سيحرف انتباه الجمهور، يرتكب خطأ... يجب إعطاء حلول للموضوعين، لأن أحدهما لا يلغي الثاني".
هذه الأقوال تعكس فهما جديداً في الحيز المدني والسياسي الإسرائيلي، وهو فهم لم يعبر عن نفسه في الخطاب وحسب، وإنما أيضا في التواجد والحضور، حتى وإن كان رمزيا، في الحيز العام- في مسيرة المشاعل التي نظمت في الأيام التالية. ورغم أن هذا الحضور كان مقلصا نسبيا في حجمه (حوالي 8000 شخص شاركوا في المسيرة ورفعوا بصمت يافطات تطالب بالعدالة الاجتماعية) إلا أنه بدا للمرة الأولى منذ زمن بعيد أن هؤلاء المتظاهرين تجاوزوا بجرأة القول الإسرائيلي المألوف "يجب التزام الصمت، يطلقون النار".
جماهيرية الاحتجاج -
"دولة داخل دولة"
هناك بعد آخر لا يجوز تجاهله، حتى وإن كان في جوهره يقوم على انطباعات، وهو الثقافة الجماهيرية التي نشأت حول خيام الاحتجاج وداخلها، وبشكل ساهم في أجواء التضامن وعززها. تقول شابير: "لقد أوجدنا في فترة أسبوعين ونصف دولة داخل دولة. لدينا في الخيام مجتمع يتحدث، ويتحاور، ويهتم بالتعليم والخطاب والثقافة والدعم والمساندة. هذا الأمر يمكن أن يحدث في المجتمع الإسرائيلي برمته". وبالفعل فإن زيارة لخيمة الاحتجاج في جادة روتشيلد (في تل أبيب) تعطي شعورا بوجود ما يشبه المجتمع الطائفي التشاركي، أو "قبيلة حضرية"، لها لغة وأعراف سلوكية خاصة. وقد اكتسب المبدأ الجماهيري (الجمعي) هنا أهمية تتجاوز حدود الاحتجاج، إذ بدا وكأن المحتجين يستصعبون التخلي عن التكافل المتبادل و"القبلية" الإسرائيلية المتجددة أكثر من صعوبة التخلي عن الاحتجاج ذاته. وفي لحظات ذروة الاحتجاج خيل أن الفجوات والفوارق بين الناس قد تلاشت لدرجة أن أحدهم قال إن الاحتجاج الاجتماعي ولد مصالحة بين مجموعات وأقطاب في المجتمع الإسرائيلي. بهذه الروحية قال المحامي يوفال إلبشان، نائب مدير عام جمعية "يديد" (صديق): "إن عملية المصالحة بين المجموعات المختلفة انطلقت، والاحتجاج الذي بدأ كاحتجاج قطاعي لطبقة متوسطة عليا ذات وعي أقلية مسحوقة، تحول حقا إلى احتجاج اجتماعي عالمي... يمكن للمحتجين أن يفخروا بالكثير من الإنجازات، لكن يبدو لي أن المصالحة التي ولدت في هذا الاحتجاج، ربما تكون الإنجاز الأهم".
كذلك قدم عالم الإناسة والشاعر زالي غوريفيتس تفسيرا لحدث الاحتجاج بقوله "في الانثروبولوجيا يوجد تمييز بين وظيفة علنية لحدث ووظيفة خفية له. وقد كانت للاحتجاج وظيفة علنية تمثلت في (مطلب) تغيير سلم الأولويات وعدالة التوزيع، ووظيفة خفية هي: الشعب يريد أن يكون شعبا، ولكن ليس بالمعنى اليميني والقوموي، بل كل الناس الذين يعيشون هنا.. هذا هو الشعب...".
لقد أتاح الطابع "الثقافي" للاحتجاج- وما تخلله من فعاليات ثقافية (في الخيام) وسجالات ديمقراطية وعفوية- لكل شخص التماثل مع (مطالب) الاحتجاج والتعبير فيه عن كفاءاته وقدراته الخاصة. وكل ذلك ولد شعورا بالقوة والوحدة والشراكة.
تلك هي الأبعاد الثلاثة المنضفرة معا في الصورة الشاملة التي تقدم تفسيرا للمناخ الشعبي العام الذي عزز الشعور بالتضامن الاجتماعي في أثناء احتجاج صيف 2011.
كيف يمكن إذن تفسير عدم التغيير في الشعور بالتضامن وفق ما انعكس في معطيات مؤشر الديمقراطية؟!
حضور الغياب في
احتجاج صيف 2011
بغية تفسير عدم التغيير، سنشير إلى ثلاثة جوانب رئيسة وهي: الشعور بالتأثير لدى المواطن على سياسة الحكومة، سمات قادة الاحتجاج، وبروفايل المؤيدين للاحتجاج.
أولا- الشعور بالتأثير لدى المواطن
في ضوء المناخ العام الذي أشرنا إليه، والحوار الذي أجراه المحتجون بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق وسائل الإعلام مع كبار صانعي القرارات في الدولة، كان من المتوقع أن يشهد الشعور بالتأثير لدى المواطن على سياسة الحكومة تغييرا نحو الأفضل. وقد تطرق إلى هذا الموضوع إيتسيك شمولي، حين تحدث عن "الإسرائيليين الجدد" في تظاهرة الاحتجاج في "ميدان الدولة" في تل أبيب:
"سيدي رئيس الحكومة، أعلم أنك تشاهدنا الآن، أقترح عليك أن تنظر جيداً.. ما تراه الآن، هذا الجمهور الضخم المتواجد هنا وفي كل أنحاء إسرائيل، هو جمهور أنت لا تعرفه مطلقا. هذا ليس الجمهور الذي كان مستعداً لقبول كل ما تقرره الحكومات له. تعرّف سيدي رئيس الحكومة: نحن الإسرائيليون الجدد".
لقد عبر شمولي في خطابه عن ثقة زائدة بقدرة المواطن على التأثير على سياسة الحكومة. لكن معطيات "مؤشر الديمقراطية" تبين أيضا أن نسبة قليلة من المواطنين، حتى بعد الاحتجاج، تثق بقدرتها على التأثير على سياسة الحكومة، إذ عبر قبل الاحتجاج حوالي 70% من مجمل الجمهور، ونحو 68% من الشبان، عن الشعور بأنه ليس في مقدورهم التأثير على الحكومة، ولم يطرأ خلال الاحتجاج أي تغيير ملموس على هذا الشعور (في أيلول 2011 شعر 63% من مجمل الجمهور، وحوالي 61% من الشبان، بأنهم لا يستطيعون التأثير..).
ويكتسب هذا المعطى أهمية خاصة في ضوء عدم حدوث تغيير في الشعور بالتضامن لدى المواطنين الإسرائيليين قبل وفي أثناء الاحتجاج. وفي تقديرنا فإن الإجابة عن مسألة الفجوة بين المتصور والمسجل، أو المرصود،، تكمن في السمات الاجتماعية- الديمغرافية والاجتماعية- الاقتصادية لقيادة الاحتجاج ولشريحة السكان المحتجة، والتي لم تشمل كافة المجموعات والقطاعات في المجتمع الإسرائيلي. بعبارة أخرى فإن مطالب الاحتجاج كانت لصالح سائر المواطنين في المجتمع الإسرائيلي، بيد أن المطالبين أنفسهم لم يمثلوا في سماتهم عموم المجتمع، الأمر الذي جعل من الصعب على كثيرين الشعور بالتضامن معهم.
ثانيا- سمات قادة الاحتجاج
عند مناقشة السمات المميزة للمجموعة المحتجة، لا بد من الالتفات إلى سمات قادة الاحتجاج. فهؤلاء هم مجموعة شبان، من سكان تل أبيب، طلبة جامعات، علمانيون، أشكناز، مصغون لروح العصر وللأصوات العالمية، يتحلون بوعي اجتماعي جنبا إلى جنب مع قدرة تكنولوجية عالية. وقد أتاح الاستخدام الواسع لأذرع الشبكة العنكبوتية (الانترنت) الكثيرة والمتنوعة، إمكان جعل الاحتجاج الاجتماعي يرتكز على "الروابط" والتواصل والمرونة "والعفوية" والشراكة و"تسطيح السلم الهرمي".
قادة الاحتجاج ودولة تل أبيب؟!
تجمع قادة الاحتجاج ونواته المبادرة في جادة روتشيلد، في وسط تل أبيب، والتي تمثل في نظر الكثيرين رمزا للرفاهية والملذات والثراء الاقتصادي. هذه الحقيقة لم تغب عن بال المواطنين، حيث شعر كثيرون منهم، حتى خلال الاحتجاج، بوجود "دولة تل أبيب" المنفصلة عن مشكلات وهموم الدولة، والمتملصة من القيام بالواجبات المدنية. وقد أظهرت معطيات مؤشر الديمقراطية أن حوالي 40% من مجمل العينة، وحوالي 47% من مجمل الشبان، شعروا خلال الاحتجاج الاجتماعي أن تصور تل أبيب كمركز للثراء الاقتصادي والانفصال، قريب من الواقع. وانطلاقا من إدراكهم لأهمية بقاء الاحتجاج على الأجندة الإعلامية، فقد استخدم قادته بصورة واعية أساليب "الوصول إلى وسائل الإعلام عن طريق التشويش"، حيث افتعلوا أحداثا شوشت روتين الحياة اليومية، ونصبوا خياما في أماكن عامة "شوهت" الصورة الموضبة للمدينة. وفي مراحل لاحقة قاموا بمظاهرات حملوا فيها مشاعل، وأغلقوا الشوارع، واقتحموا اجتماعات مجلس البلدية، واستولوا على بيوت مهجورة في المدينة. هذه الخطوات والأعمال لا تمثل سلوكا "نمطيا" لمحتجين في إسرائيل، وقد تقبلتها وسمحت بها السلطات بقدر غير مألوف من الصبر والتسامح، وذلك بفضل سمات زعماء وقادة الاحتجاج (مركزهم، مهاراتهم الكلامية، سهولة وصولهم إلى وسائل الإعلام، وقدرة التنظيم التي تحلوا بها).
مع ذلك فقد ساهمت هذه الأعمال أيضا في ابتعاد أجزاء من الجمهور الإسرائيلي عما اعتبر "جناحا راديكاليا" في صفوف المحتجين. فهذه الفئات من الجمهور لم تنظر بعين الرضا إلى أعمال الشغب والإخلال بالنظام، بل رأت فيها إشارة إلى تطرف سياسي، ونوعا من التآمر على كينونة النظام العام.
كذلك ساهمت محاولات نزع الشرعية واستخدام "الأساليب التقليدية" لتفكيك وإنهاء الاحتجاجات الاجتماعية من جانب السلطات، في تعزيز هذا الشعور لدى قطاعات واسعة في المجتمع الإسرائيلي (ابتداء بمحاولات نعت قادة الاحتجاج بـ "الفوضويين" و"المرفهين" و"تسفونيم"- شماليين، وهي كناية لسكان شمال تل أبيب الموسرين، مرورا بإضفاء الصبغة السياسية على الاحتجاج، وانتهاء بمحاولات "فرق تسد" وتقديم حلول فردية وشخصية لمجموعات معينة في المجتمع الإسرائيلي وفي مقدمها طلبة الجامعات). صحيح أن قادة الاحتجاج شخصوا هذه المحاولات وتطرقوا لها بالنقد في وسائل الإعلام، لكنها تسربت على الأرجح إلى أذهان فئات من الجمهور وساهمت في زيادة الشعور بالاغتراب تجاه قادة الاحتجاج الذين اعتبروا مجموعة "وقحة" وانتقادية أكثر من اللازم تجاه السلطة.
ثالثا- بروفايل أنصار ومؤيدي الاحتجاج
يستدل من تحليل مسألة تأييد الاحتجاج في استطلاعات "مؤشر السلام" وفقا لمتغيرات مختلفة أن هذا الاحتجاج كان احتجاج مجموعة اجتماعية محددة.
في شهر تموز (2011)، أي في بداية الاحتجاج على أزمة السكن، كان هناك في صفوف مجمل العينة اليهودية، تماثل واسع مع مطالب الاحتجاج (8ر63% أيدوا "جداً" الاحتجاج)، لكن تأييدا أقوى من المتوسط العام وجد في صفوف ذوي التعليم الثانوي الكامل (4ر76%) والتعليم الأكاديمي الجزئي (9ر71%) وفي صفوف الذين يتبنون مواقف اليسار السياسي (1ر73%) وبين أصحاب مستوى الدخل المتوسط (7ر68%). هذا فيما بلغت نسبة المعارضين للاحتجاج في صفوف مجمل السكان 2ر8%، وفي صفوف المتدينين الحريديم 2ر18%.
في شهر آب سجل تأييد حماسي جداً لاحتجاج الخيام لدى 6ر48% من مجمل العينة اليهودية، لكن هذا التأييد قفز لدى أصحاب مواقف اليسار السياسي إلى 4ر75%، وبلغ لدى العلمانيين 1ر56%، ولدى أصحاب الدخل المرتفع 1ر55%، فيما لم يؤيد هذا الاحتجاج بحماس في صفوف المهاجرين من الاتحاد السوفياتي سابقا سوى 20%.
فهل تفسر درجة تأييد الاحتجاج في صفوف المجموعات المختلفة الفوارق في شعور التضامن لدى هذه المجموعات قبل وفي أثناء الاحتجاج؟
ربما تشير المعطيات الآنفة إلى تأثير مختلف للاحتجاج على الشعور بالتضامن لدى مجموعات مختلفة في المجتمع اليهودي. فمقارنة معطيات استطلاعات "مؤشر الديمقراطية" في الموعدين تدل على وجود صلة بين الرابطة الدينية وبين الفوارق في الشعور بالتضامن لدى كل مجموعة (علمانيون، تقليديون، متدينون ومتدينون حريديم).
كذلك تدل المعطيات على أن العمر في حد ذاته لا يفسر شدة التماثل مع الاحتجاج والشعور بالتضامن الذي يمكن أن يولده، فما يفسر ذلك أكثر هو مستوى التعليم والرابطة الدينية وكذلك الميل السياسي.
تلخيص
يمكن أن نجمل بالقول إن التماثل مع المطالب الواسعة بالعدالة يفسر أجواء التضامن. ولكن في المحصلة، فإن حقيقة كون الحديث يدور بشكل رئيس على احتجاج شبان، هم علمانيون وذوو دخل أعلى من المتوسط ويتبنون مواقف اليسار السياسي، تفسر لماذا لم يتغير فعليا الشعور بالتضامن لدى الجمهور اليهودي.
لقد اتضح بمرور الوقت أن روح "المجموعة" أو "الطائفة"، التي تحدثنا عنها في القسم الأول من هذا المقال، مركبة أكثر في ضوء مشاعر الغضب والإحباط وفوارق المصالح، التي بدأت بالظهور لدى المعتصمين في عدد من الخيام في أثناء تفكيكها. فهل كان صيف 2011 إذن هدنة أو استراحة مؤقتة فقط من الصراعات اليومية والعزلة والشعور بالانفصال والاغتراب الذي عانى منه كثيرون من المعتصمين في خيام الاحتجاج والمشاركين في المظاهرات؟!
إن هشاشة ووقتية الحركات الاحتجاجية ليست ظاهرة خاصة بإسرائيل، وإنما هي ظاهرة مألوفة ومعروفة ولها ركائز نظرية. وقد سلط زيغموند باومن الضوء على هذه المسألة، معتبرا مثل هذه التحركات الاحتجاجية بمثابة جموع جماهيرية هشة ومؤقتة تتحرك إزاء ما وصفه بانعدام توازن متعمق بين الحرية الفردية والأمن الشخصي. فغياب الأمن يتحول إلى عامل موحد، لكن الحديث يدور، في نهاية المطاف، على جموع جماهيرية عمرها قصير، تستمد القوة بالذات من عدم استقرارها ومستقبلها غير الآمن أو المضمون، ومن الجهد العاطفي الذي يتطلبه وجودها الهش.
___________________
(*) باحثتان في "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"- القدس. ترجمـة خاصـة.