كما هو متوقع فقد تمخضت عملية اغتيال الشيخ احمد ياسين عن موجة من الانتقادات والتساؤلات.. وكما هو في حالات مشابهة حصلت في الماضي، فقد انقسم المنتقدون في هذه المرة ايضا الى فريقين. فريق انتقد بشدة قرار اغتيال زعيم حركة "حماس" في حد ذاته. فيما تذرع فريق آخر بحجة ان الشيخ ياسين كان "مخربا وقاتلا يستحق الموت" لكن هؤلاء قالوا ان التوقيت سيء، وان الضرر سيكون اكبر من الفائدة المحتملة للعملية. غير انه يتعين على كلا الفريقين ان يحاسبوا انفسهم بالدرجة الاولى. اذ يمكن توجيه انتقادات لطريقة ادارة الصراع والحرب مع الفلسطينيين، لكنه لا يمكن لاحد ان يزعم بان قادة الحرب الاسرائيليين، ارئيل شارون وشاؤول موفاز، قد ضللا او خدعا الجمهور. نحن لسنا في اميركا، فالحكومة لم تقم بفبركة معلومات استخبارية ولم تبالغ في وصف التهديد لتبرر الهجوم على "حماس"، مثلما فعل جورج بوش في طريقه لشن الحرب على بغداد.
على العكس، فليست هناك عملية عسكرية نالت مثل هذا القدر من الترويج الاعلامي الصاخب قبل القيام بها. لقد صرحت الحكومة جهارا نهارا بانها تعتزم اغتيال قادة حركة "حماس"، ولعل محاولة الاغتيال الفاشلة للشيخ ياسين ورفاقه في شهر ايلول الماضي، تشكل دليلا قاطعا على جدية تلك التصريحات.
لقد كان الجميع على علم مسبق بعملية الاغتيال المرتقبة لكنهم جميعا ( المقصود جميع الاوساط الاسرائيلية) التزموا الصمت. اين كان شمعون بيرس ويوسي سريد؟! لماذا تورعا عن القاء خطابات صاخبة حول مخاطر العملية، لماذا لم يبادرا الى مقابلة شارون في اللحظة الاخيرة، لمطالبته باعادة النظر في قراره؟!
اين كانت حركات ومنظمات اليسار الاحتجاجية كـ "بتسيلم" و"يوجد حد" واين كان الطيارون الرافضون و"الفوضويون" المعارضون لجدار الفصل؟! لماذا لم يقوموا بالتظاهر او الالتماس للمحكة العليا كي تأمر بالغاء قرار المجلس الوزاري المصغر، بغية انقاذ ضحايا الهجمات الانتقامية المتوقعة؟!
اين هم كتاب الاعمدة الانتقادية اللاذعة في الصحف؟.
من الواضح انه كان من السهل اكثر لجميع هؤلاء مهاجمة الحكومة بعد وقوع الواقعة ( عملية اغتيال الشيخ ياسين).
ومما لا شك فيه ان المعارضة ( اليسارية) اخفقت هذه المرة كليا في القيام بدورها الديمقراطي، مع العلم انه كانت لديها مهلة اسبوع تقريبا لتجنيد الرأي العام (الاسرائيلي) ضد قتل الشيخ ياسين ورفاقه، اما التصعيد المتوقع بعد عملية الاغتيال، فقد آثرت هذه المعاضة التغاضي عنه. قد نعذر شمعون بيرس المتهافت على العودة الى وزارة الخارجية، ويوسي بيلين الذي احتفل بانتخابه لرئاسة تحالف "ياحد"، ولكن حتى "كتلة السلام" (غوش شلوم) فضلت مهاجمة حزب "العمل" على خلفية مساعيه للانضمام الى حكومة شارون، دون ان تسمع صوت احتجاج ضد عملية الاغتيال الوشيكة، وفقط بعدما انقشع الدخان كتب اوري افنيري (احد زعماء " كتلة السلام") يقول ان اغتيال الشيخ احمد ياسين " اسوأ من جريمة، انه غباء".
فما الذي يقف وراء كل هذه اللامبالاة؟
يبدو، بعد ثلاث سنوات من القتل المتبادل، ان اشد انصار السلام تصميما وعزما، قد تعبوا هم الاخرين. انهم يفضلون التحليق من حين الى آخر في الفراغ الجماهري ممتطين سراب دعاية اعلامية ما (كرسالة الطيارين او مبادرة جنيف) عوضا عن الانشغال في المهمة الشاقة المتمثلة بحشد المؤيدين واقناع المترددين.
وقد يقول قائل بان مصداقية شارون باتت هابطة بحيث لا يمكن تصديقه حتى عندما يتعهد بقتل واغتيال النشطاء الفلسطينيين، خاصة وان الجميع يذكر قراره الطائش حول "ازالة عرفات"ومع ذلك فان من الصعب قبول هذا الرأي.
يبدو ان شارون نجح في جر الجمهور الاسرائيلي الى نوع من الانسياق او الانجذاب الشديد الى خطته للانفصال عن الفلسطينيين. فهو ومنذ اعلانه عن اعتزامه الانسحاب من غزة، يتمتع بغطاء اعلامي وسياسي داعم من جانب اليسار المعتدل الذي تبنى سياسة او شعار "هدوء .. الانسحاب صار وشيكا".
وهكذا بات الجميع منهمكا في الحديث عن اخلاء المستوطنات، في حين اقصيت الحرب الدائرة الى هامش الاهتمام الجماهيري.. ويا ليت الانسحاب يتم بالفعل، حتى لو بعد عام.. اما سباق الهجمات والتصفيات فلا زال جاريًا في هذه الاثناء على قدم وساق.
(هآرتس، 2004/3/25)
ترجمة "مدار"