المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • منوعات
  • 4919

أحيت إسرائيل والحركة الصهيونية في العالم مؤخراً، ذكرى المحرقة اليهودية. وتحيي إسرائيل هذه الذكرى قبل أسبوع كامل من إحيائها ذكرى إعلان قيامها، وفق التقويم العبري، المتغير سنويا. وهي ذكرى للضحايا اليهود دون غيرهم. وعلى الرغم من مرور 72 عاما على انتهاء الحرب العالمية الثانية، وانهيار النازية، إلا أن اعداد "الناجين من النازية" تشهد تزايداً، وفق ما تبينه تقارير إسرائيلية. أي أنه مقابل الذين يموتون، ينضم آخرون إلى "الناجين من النازية"، بسبب توسيع التعريفات، وذلك بغرض الحصول على مخصصات ضمان اجتماعي إسرائيلية خاصة بهم، بلغ مقدارها السنة الماضية ما يعادل 32ر1 مليار دولار. لكن هذه التعريفات لا علاقة لها بالتعويضات من ألمانيا وغيرها.

 

وحسب احصائيات صدرت خلال أسبوع الذكرى الأخيرة، فإن عدد الناجين من المحرقة في إسرائيل يبلغ اليوم 158 ألف شخص، يضاف اليهم 56 ألف شخص ممن كانوا "ضحايا عمليات لا سامية وعنصرية خلال الحرب العالمية الثانية"، وفق التعريف. وفي إحصاء آخر، يتبين أن عدد المستفيدين من المخصصات الاجتماعية والصحية المدفوعة للناجين من النازية في إسرائيل بلغ هذا العام 216 ألف شخص.

وحسب تقديرات نشرتها صحيفة "غلوبس" الاقتصادية الإسرائيلية، بلغت تكلفة المخصصات الاجتماعية والصحية التي صرفتها الخزينة الإسرائيلية العامة على أولئك، في العام الماضي، 84ر4 مليار شيكل، أي ما يعادل 32ر1 مليار دولار، وفق سعر الصرف الحالي.

وفي المقابل، بلغ عدد الذين حصلوا على تعويضات من الحكومة الألمانية في العام الجاري، 67 ألف شخص، بمعنى أن هذا العدد الذي تعترف به السلطات الألمانية لأشخاص تضرروا مباشرة من جرائم النازية، وهؤلاء يشكلون نسبة 31% ممن باتت تعتبرهم إسرائيل "ناجين".

وقبل فترة، قال تقرير لموقع "سروغيم" إن الاحصائيات التي تنشر سنويا، تدل على أن أعداد الذين يتم اعتبارهم ناجين من الجرائم النازية في إسرائيل تتزايد باستمرار. فالحرب العالمية الثانية انتهت قبل 72 عاما، وبالتأكيد فإن الغالبية الساحقة ممن بقوا على قيد الحياة، هم أبناء 80 عاما وأكثر. واستنادا لتقرير لمركز "بروكديل"، نشر في العام 2009، فقد بلغ عدد الناجين من جرائم النازية المقيمين في إسرائيل في ذلك العام، 7ر233 ألف شخص. وكانت التقديرات تقول إن عددهم سيهبط في العام 2015 إلى نحو 144 ألف شخص، وفي العام 2025 سيهبط إلى نحو 47 ألف نسمة. كما قال التقرير إنه يموت 2ر14 ألف شخص، في المعدل، سنوياً.

لكن العدد انخفض بـ 34 ألفاً في العام 2014، أي بعد خمس سنوات، وبلغ 198 ألف شخص. وكما قرأنا، ففي هذا العام ارتفع العدد إلى 216 ألف شخص. ويتبين أن السبب وراء هذا هو توسيع تعريف "الناجين من جرائم النازية". ففي الخمسينيات والستينيات، كان مستحقو المخصصات الإسرائيلية هم أولئك الذين عانوا من اعاقات جسدية ونفسية جراء جرائم النازية. ولكن تم تغيير هذا التعريف عدة مرات على مر السنين، في حين التزمت المانيا بتعريف محدد لغرض التعويضات التي تدفعها هي.

في العام 2005 تم توسيع التعريف ليشمل، أيضا، من كان ملاحقا إبان حكم النازية، سواء في ألمانيا أو في دول أخرى وقعت تحت سيطرة النازيين وحلفائهم. وهذا التعريف يشمل أيضا من كانوا في معسكرات النازيين. وفي العام 2014، بادرت الحكومة الإسرائيلية إلى توسيع آخر، ليشمل أيضا أبناء الديانة اليهودية في دول شمال أفريقيا، ليبيا وتونس والمغرب، التي كانت هي أيضا تحت سيطرة ألمانيا وحلفائها. كما تم إلغاء تحديد العام 1953، كتاريخ نهائي لمن هاجر إلى إسرائيل من الناجين.

ولاحقا، تم تعريف من عمل في معسكرات العمل بالسخرة، ومعهم حتى أولئك الذين تم إجبارهم على القيام بأعمال لصالح النظام النازي، خارج معسكرات العمل. كذلك تم توسيع تعريف المستفيدين من المخصصات ليشمل الذين كانوا في دول وقعت تحت الاحتلال الألماني، وهم أولئك الذين كانوا في تلك الدول أو ولدوا فيها، منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية وحتى بعد 300 يوم من إعلان انتهائها.

وفي العام الجاري، تم شمل دول أخرى، إذ قال وزير المالية موشيه كحلون إن الاعتراف بالمهاجرين من المغرب والجزائر والعراق ورومانيا كناجين من النازية، كان ضمن "تصحيح تاريخي. وإنني آمل بأن ما نفعله من تصحيح في هذا المجال سيسمح للناجين بالعيش بكرامة، ووزارة المالية ملتزمة بدفع مستحقات الناجين ومساعدتهم".

أما النائبة السابقة ورئيسة اتحاد منظمات الناجين من النازية، كوليت أفيطال، فقد قالت إنه من الصعب تصديق الأرقام التي تنشر عن الناجين. "للأسف ليست لدينا أرقام دقيقة. أحد الأسباب لذلك هو أن عددهم أكبر بكثير. كذلك، فإن العدد الذي ينشر سنويا حول الذين يموتون كل سنة ليس دقيقا، أيضا. ولكن ما هو صحيح أنه يموت ناجون سنويا، والدولة تضيف أعدادا أخرى".

أفيطال إن 10% من الناجين من جرائم النازية هم في عداد الفقراء، ما دون خط الفقر. إلا أن تقارير أخرى، تتحدث عن أن اجمالي المخصصات التي تُدفع للناجين من النازية تتراوح ما بين 4800 شيكل و 9200 شيكل، وهذا عدا المخصصات العادية الأخرى، مثل مخصصات الشيخوخة، إضافة إلى مخصصات التقاعد، على الأغلب.
وعلى مدى السنوات الأخيرة، تزايد الحديث عن أوضاع الناجين من النازية الاقتصادية والاجتماعية. واللافت أن الحكومة، بسياستها الاقتصادية التي تقلص كثيرا من المخصصات الاجتماعية، حتى للشرائح الأكثر فقرا ولذوي الاحتياجات الخاصة، تتعامل بتسامح كبير مع قضية الناجين من النازية. وهذا ليس نابعا من "انسانية مفرطة" لحكومة تقود سياسة اقتصادية "خنازيرية" بمعنى شرهة، كما أسماها ذات يوم الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريس.

بل يخفي هذا في ثناياه دوافع سياسية للحركة الصهيونية بمجملها. فقبل سنوات، تساءلت جهات إسرائيلية عن مكانة ذكرى المحرقة مستقبلا بين الأجيال الشابة، في ظل عدم وجود ناجين على قيد الحياة. واستنادا لهذا، بالإمكان تفسير أحد أكبر الدوافع لهذا التساهل في توسيع تعريف الناجين من النازية ودفع هذه الميزانيات الضخمة لهم سنويا، من الخزينة العامة.

المحرقة والذاكرة

تلعب جرائم النازية دورا بارزا في الخطاب الإسرائيلي وخطاب ونشاط الحركة الصهيونية في العالم. وتصدر تباعا تقارير عن مؤسسات يهودية تدعو الى تكثيف النشر حول المحرقة في العالم. فقد دعا أحد التقارير الصادرة عن "معهد سياسة الشعب اليهودي"، التابع للوكالة اليهودية، قبل سنوات قليلة، إسرائيل واليهود في العالم إلى عدم إسقاط مسألة "المحرقة" عن جدول أعمال جميع الدول والمجتمعات التي يعيشون فيها. وقال التقرير: "إن الذاكرة التاريخية هي مركّب أساسي ومميز خاص للهوية اليهودية، على صعيد الفرد، والصعيد العام، "تذكّر" هي وصية أساسية في اليهودية، ولها أهمية مركزية من ناحية التواصل التاريخي والشعور بالمصير المشترك، فالكارثة (المحرقة) هي إضافة مأساوية هامة لمجمل الأحداث في تاريخ الشعب التي على الشعب أن يذكرها ويشير إليها دائما".

وأشار التقرير إلى اتساع ظاهرة إقامة النصب التذكارية التي تخلد المحرقة في العالم. وقال إن هنالك في دول العالم أكثر من 40 نصبا تذكاريا للمحرقة، وهو ما يعتبر إنجازا لكنه غير كاف. وقال: "ولكن ممنوع أن يخفي هذا العدد الكبير من النصب التذكارية ذكر الكارثة بصفتها حدثا مركزيا في الذاكرة البعيدة لليهود ولغير اليهود معا".

وحذر المعهد في تقريره من تراجع مستوى الذاكرة لدى الجيل الصاعد، وخاصة مع رحيل الجيل الذي عايش المحرقة، ويقول: "من المفضل البحث عن أشكال جديدة للحفاظ على الذاكرة وعرضها بأشكال ملائمة للأجيال الصاعدة التي لم تعايش الكارثة، أشكال ملائمة للفرد وللمجموع". ويدعو التقرير إلى أن تكون الأساليب الجديدة قادرة على أن تعوض الأجيال الجديدة عن عدم معايشتهم فترة المحرقة، أو معايشة أولئك الذين عايشوا المحرقة.

تاريخ التعامل مع الناجين

وكانت قضية الناجين من المحرقة مناسبة لإعادة فتح ملف التعامل مع الناجين من المحرقة منذ سنوات الأربعين، أي قبل قيام إسرائيل وحتى اليوم، ونقرأ لاحقا هنا اقتباسات عن رئيس أول حكومة إسرائيلية، دافيد بن غوريون، حول نظرته للناجين.

فقد شهدت إسرائيل في مطلع سنوات الخمسين من القرن الماضي نقاشا صاخبا حول الموضوع، حين انتهت المفاوضات بين إسرائيل ومنظمات الناجين من المحرقة، من جهة، وبين ألمانيا، من جهة أخرى، حول التعويضات المالية التي سيحصل عليها الناجون. كان الانقسام في الآراء حينها واضحا. ففي حين أيدت الحكومة والأحزاب من حولها قبول هذا الاتفاق، اتخذت قوى اليمين الإسرائيلي، ممثلا بحزب "حيروت" (الليكود لاحقا) بزعامة مناحيم بيغن، بالأساس، موقفا رافضا جدا لهذه المخصصات، التي اعتبروها "وسيلة لإعفاء الألمان من المسؤولية عن المحرقة".

ولعل من أبرز الأحداث التي شهدتها إسرائيل في تلك الأيام، هو تعرض مقر الكنيست الإسرائيلي (البرلمان) إلى رشق بالحجارة في يوم التصويت لإقرار الاتفاق مع ألمانيا، مما اضطر زعماء إسرائيل إلى مغادرة البرلمان تحت حراسة مشددة.

ويقول المؤرخ شمعون ريدليخ في مقال نُشر سابقاً إن تعامل المؤسسات الصهيونية التي كانت تعمل على إقامة الدولة، أو "الدولة العتيدة"، كما يسميها الكاتب، تأثر من "يهود الشتات"، كما يسميهم، وضرورة هجرتهم إلى إسرائيل، ويكتب: "صحيح أن حزب "العمل" (مباي في حينه) وعلى رأسه دافيد بن غوريون، عمل الكثير من أجل دفع الباقين من يهود أوروبا إلى الهجرة إلى البلاد، إلا أن الجاهزية كانت معقدة: من جهة إنشاء بيت (وطن) للناجين وإبعادهم عن اللاسامية في أوروبا، ومن جهة أخرى، تلقي مساعدتهم في الكفاح المسلح وبناء الدولة".

ويتابع ريدليخ إنه لم تتوفر الجاهزية النفسية والمادية للتعامل مع الناجين في السنوات الأولى بعد قيام دولة إسرائيل، وحتى تخليد ذكرى الناجين كان ينحصر في غيتو وارسو وأشياء أخرى، "إلا أن التحول في التوجه والتعامل مع الناجين بدأ في ستينيات القرن الماضي، في أعقاب محاكمة آيخمان. وقد جرى التحول من نظرة عامة إلى ستة ملايين شخص، إلى تفهم عيني ومحدد لما جرى".

ثم يكتب ريدليخ أن التحول الآخر جرى في نهاية السبعينيات مع وصول اليمين إلى الحكم في إسرائيل بزعامة حزب الليكود، الذي غير طريقة التعامل مع اليهود في العالم وشرع بتعزيز الروابط معهم، ثم في الثمانينيات حين بدأ جهاز التعليم في إسرائيل يتعامل بجدية مع تاريخ المحرقة، وذلك للمرة الأولى منذ قيام الدولة.

ويختتم ريدليخ مقاله كاتبا: "إن الانطباع السلبي عن الناجين في السنوات الأولى للدولة شهد انقلابا مع مرور الزمن... من انطباع يستخف بالناجين، إلى القول بأنهم أبطال. وعلى الرغم من هذا، بقيت الفجوة بارزة جدا بين استغلال الناجين من أجل بلورة الوعي الوطني- الصهيوني، وبين التعامل المادي مع الناجين. فتمويل مراكز تخليد ضحايا المحرقة والناجين منها له احترامه، ولكن واجب الدولة والمجتمع هو تجاه الناجين أنفسهم، أولا وقبل كل شيء، وخاصة الفقراء والمرضى من بينهم".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات