المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • منوعات
  • 4841

تعريف: يثير كتاب جديد صدر في إسرائيل مؤخرا بعنوان "لماذا تصوّت لليمين وتحصل على اليسار" جدلا كبيرا في أوساط الباحثين والمحللين. ويزعم مؤلف الكتاب إيرز تدمور، أحد قادة ومؤسسي الحركة اليمينية الجديدة "إم ترتسو" ("إذا شئتم")، أنه على الرغم من مرور أربعين عاما على تسلم حزب الليكود اليميني سدّة الحكم في إسرائيل عقب ما عُرف باسم "انقلاب 1977"، فإنه واصل الحكم من خلال النُخب القديمة التي كانت في معظمها موالية لـ"الحركة الصهيونية العمالية" بزعامة حزب "مباي" التاريخي. كما يؤكد أنه فقط في السنوات الأخيرة بدأ اليمين الإسرائيلي في تغيير هذا النُخب كي "يتحقق الانقلاب الحقيقي" في المستقبل المنظور.

 

هنا ترجمة لمقاطع واسعة من مقدمة هذا الكتاب:

الانقلاب الذي لم يحدث

سارع مناحيم بيغن، بعدما انتخب لرئاسة الحكومة الإسرائيلية في أيار 1977، إلى إطلاق رصاصة على رأس الديمقراطية الإسرائيلية.
وقد ساورت مئات آلاف الناخبين الذين صوتوا لحزب الليكود، آمال بأنهم سيحولون إسرائيل بتصويتهم هذا من دولة مركزية يستفرد حزب "مباي" وقيادته الأشكنازية بمراكز ومؤسسات النفوذ والحكم فيها، إلى دولة ليبرالية وديمقراطية، سيكون المعيار الوحيد الذي يقرر مستقبل الإنسان ومصيره فيها هو مؤهلاته وجهوده، دون تمييزعلى أساس الدين والعرق والجنس، ودون النظر إلى أٌصوله الطائفية أو ميوله السياسية.

لقد توقع هؤلاء الناخبون أن يقوم زعيم الليكود مناحيم بيغن، الذي تنافس على رئاسة الحكومة ثماني مرات وخسر فيها كلها، بتغيير وجه دولة إسرائيل، من دولة تمركزية، سيطر فيها ممثلو النخبة الأشكنازية البيضاء المتعالية على كل جوانب ومجالات حياة المواطن، إلى دولة تسود فيها سوق حرة ومساواة في الفرص للجميع.

في ليلة السابع عشر من أيار 1977، بدا كل شيء واعدا. لقد شاهد شعب إسرائيل بأكمله بدهشة وذهول مذيع التلفزيون الأشهر حاييم يافين، حين استهل برامج عشية الانتخابات بجملته الشهيرة "سيداتي سادتي: انقلاب!". في صفوف ثلة كبار قادة "المعراخ"، حزب السلطة الذي اعتاد الفوز دائما، والذين جلسوا خلف مائدة طويلة، بدا الجميع غير مصدق لما شاهد وسمع.

في المقابل سادت في مقر قيادة الليكود حالة من الذهول والارتباك، ربما فاقت تلك التي ظهرت لدى قيادات "المعراخ".
بعد مرور فترة قصيرة اتضح أن حالة الارتباك والاضطراب، التي عاشها بيغن في تلك الأيام، كان لها أساس، فهذا الرجل الذي تحلى بقدر هائل من الصبر طوال ثلاثين عاما، سارع إلى ركل وقلب الطاولة على رأس ناخبيه.

في الأيام التي تلت "الانقلاب" كان كبار قادة ورجالات اليسار في جهاز الدولة والحكومة، مقتنعين أن الأمور بلغت خط النهاية بالنسبة لهم ولحكم "المعراخ"، وأدركوا أن تغيير السلطة سيجر في أعقابه حتما تغييرا في سلك الوظائف والمناصب الرفيعة في جهاز الدولة، ذلك لأن الفوز في الانتخابات لن تكون له أية قيمة إن لم يعقبه تغيير في السياسة، والتغيير في السياسة لن يكون ممكنا إلا إذا عملت المستويات العليا في جهاز الوظيفة العمومية بروح السياسة الجديدة. فعشرة وزراء و65 عضوا في الكنيست لا يستطيعون انتهاج وإدارة سياسة جديدة بمفردهم، إذ لا بد لهم من تعيين أشخاص يمتلكون الرغبة والقدرة على قيادة مثل هذه السياسة، وهؤلاء هم فقط الذين يوافقون على هذه السياسة ومعنيون بتطبيقها.

من ناحية كبار سلك الموظفين للوزارات والدوائر الحكومية، كان مغزى التغيير أو "الانقلاب" السلطوي واضحا تماما بالنسبة لهم، وتوقعوا أن تجري تغييرات وتعيينات واسعة في صفوف كبار المسؤولين والموظفين في هذه الدوائر وفي أجهزة القضاء والتعليم والشركات الحكومية. وبالفعل فقد كانت كتب الإقالة جاهزة، غير أن بيغن خلط الأوراق بصورة كانت مفاجئة للجميع. ففي مقابلات أدلى بها لوسائل الاعلام بعد إعلان فوزه، خاطب بيغن موظفي جهاز الدولة قائلا: "جئنا لنخدم، وليس لنرث". وبحسب ما ذكره آرييه ناؤور (سكرتير حكومة بيغن) في كتابه "بيغن في الحكم"، فقد كان بيغن مصمما على إجراء عدد ضئيل من التغييرات الوظيفية، وبالفعل لم يقم باستبدال سوى ثلاثة أصحاب وظائف مركزيين، وهم مدير مكتبه، والمدير العام لمكتب رئاسة الحكومة وسكرتير الحكومة. ويقول آفي شيلون في كتاب عن سيرة حياة بيغن ألفه إن رجالات "المعراخ" ذهلوا إزاء قلة التعيينات التي أجراها بيغن في السلك الحكومي، وإن سفير إسرائيل لدى واشنطن سيمحا دنيتس، الموالي لغولدا مئير، هاتف بيغن بعد وقت قصير من "الانقلاب" وعرض استقالته كي يتمكن من تعيين مرشح ذي ميول تتسق مع سياسة الحكومة الجديدة، غير أن بيغن رد عليه قائلا: "هذا غير وارد في الحسبان. أنت تقوم بعمل وجهود رائعة في واشنطن ولا يجوز لك التخلي عن المهمة" . كذلك فقد واصل حاييم هيرتسوغ، مندوب إسرائيل لدى الأمم المتحدة، الاضطلاع بمهام منصبه، بالإضافة إلى عدد آخر من كبار الموظفين في مكتب رئيس الحكومة.

في الحكومة الجديدة التي شكلها بيغن، لم يحظ أيضا رجالات حركة "حيروت" والليكود بتمثيل ملائم، وقد دهش هؤلاء، والذين مكثوا أكثر من عشرين عاما في مقاعد المعارضة، حين علموا أن ثلاثة من أصل خمسة مناصب وزارية تولاها حزب الليكود في الحكومة أُسندت إلى منضمين جدد إلى صفوف الحزب، وهم عيزر وايزمان، أريئيل شارون وموشيه دايان.

وقد اتبع بيغن سياسة مشابهة حينما طلب ضم كتلة "داش" (الحركة للديمقراطية والتغيير)، إلى الائتلاف الحكومي الذي سعى إلى تغييره.

ويقول ناؤور في كتابه إن بيغن فكر في تعيين المستشار القانوني للحكومة السابقة أهارون باراك في منصب وزير العدل، كما انتهج بيغن فيما بعد بموجب أمر سريع (أوامر ساعة) إجراء يشارك بمقتضاه المستشار القانوني للحكومة في جلسات الحكومة، وهو إجراء مهد الطريق لما عرف بـ "الثورة القانونية". وفي العام 1978، فضل بيغن تعيين إسحاق زامير في منصب المستشار القانوني للحكومة، والذي اعتبر فيما بعد - أي زامير- أحد المسؤولين المركزيين عن سلب وتقليص صلاحيات الحكومة والكنيست وإحالتها إلى مستشارين وقضاة غير منتخبين.

لقد أثار أسلوب بيغن برمته غضب رجالات الليكود الذين ساروا معه وخلفه سنوات طوال في صحراء المعارضة، والذين توقعوا، بعد فوزه في الانتخابات، أن يحظوا بنصيب مركزي في قيادة وتزعم دولة إسرائيل، غير أن توقعاتهم وآمالهم سرعان ما خابت حين رأوا أن شيئا لم يتغير. وقد نظمت مجموعة من قدماء ناشطي الليكود، ومن ضمنهم إيتان ليفني، والد تسيبي ليفني، اجتماعا احتجاجيا إزاء سياسة التعيينات التي اتبعها بيغن، متهمة إياه بالخوف والتملق تجاه مؤسسة "مباي" القديمة. وقد رد بيغن من جهته بغضب قائلا "لم نأتِ للسلطة من أجل توزيع وظائف على أعضاء إتسل"، وواصل الحديث مستخدما مفاهيم ومصطلحات الوقار والنزاهة والاستقامة، وهي مفاهيم كان لدى بيغن، وكثيرين غيره، فهم سطحي حولها، وقد كان من الواضح جدا أن بيغن، الذي تحدث بمبالغة وإفراط عن النزاهة والوقار والاستقامة، كان منفصلا تماما عن الواقع الفعلي القائم في دهاليز الحكم ومراكز القوة، ولم يكن مدركا البتة للانعكاسات الإستراتيجية البعيدة المدى لقراراته واختياراته.

فضلا عن ذلك لم يستجب بيغن لكل المحاولات والضغوط التي جرت لثنيه عن سياسته هذه (المتعلقة بالتعيينات). ووفقا لما ذكره ناؤور في كتابه، فقد تمسك بيغن بوجهة نظره القائلة إن الحكومة هي التي تقرر السياسة وإن على الجهاز الحكومي تنفيذها، وبالتالي لا أساس للادعاء أنه بدون تعيينات سياسية لا يمكن وضع السياسة موضع التنفيذ.

كذلك فقد كان لعشرات السنين التي أمضاها بيغن في العمل السري (قبل قيام إسرائيل) وفي المعارضة، أثرها الكبير على سلوكه، إذ تركت لديه مشاعر عميقة بالدونية مقابل الحركة العمالية الصهيونية ورجالات حزب "مباي". وبحسب ما ذكر ناؤور فإن حقيقة كون الموالين للسلطة السابقة يخدمون الحكومة الجديدة، تنطوي في حد ذاتها على شرعية. خلافا لبيغن، لم يشعر دافيد بن غوريون بحاجة للحصول على شرعية من خصومه السياسيين، إذ اتبع منذ بداية ولايته كرئيس للحكومة، مبدأ موجها قضى بوجوب إقامة حكومة بدون "حيروت" و"ماكي" (الحزب الشيوعي الإسرائيلي)، وذلك تأكيدا منه على أنه لا يحتاج لشرعية أو مساعدة أو شراكة في السلطة من جانب خصومه. ويقول ناؤور إن بيغن أبدى رضاه وسروره حين اتضح له أن سكرتاريا الحكومة تضم عددا من الموظفين من عهد بن غوريون وليفي أشكول. وهكذا فقد فُهمت هذه الرسالة جيدا لدى كبار الموظفين والمستشارين الموالين لحزب السلطة السابق "مباي"، ولم يكن هؤلاء بحاجة لوقت طويل كي يفيقوا من صدمة "الانقلاب"، وليدركوا أن بيغن والليكود، وإن كانا قد فازا في الانتخابات، لم يقصدا ولم يستعدا قط لتولي الحكم حقا، وأن اليسار موجود من أجل ذلك.

خيـانة بيغـن

والسؤال: ما الذي كان يجول في رأس بيغن؟ لماذا قرر التخلي عن بدهية أساسية يدركها أي سياسي؟.

يبدو أن بيغن، الذي كان ما زال مشدودا للمثل والسلوكيات البولندية النبيلة، توقع أن ينصاع موظفو اليسار أيضا لشيفرة المثل والأخلاق البولندية، وأن يحترموا قرار الناخب ويتساوقوا مع سياسة الحكومة الجديدة. لعل بيغن، الذي كان قد مضى 35 عاما على قدومه إلى البلاد وقتئذ كضابط في الجيش البولندي، لم ينجح في إدراك أن إسرائيل ليست بولندا وأن رجالات "مباي" المحنكين ليسوا أرستقراطيين من أصحاب الذوق الرفيع. وهكذا أبطل مناحيم بيغن، بتسرعه وغطرسته وقلة درايته وكرمه البولندي، مفعول "الانقلاب"، وأعاد مقاليد الحكم إلى أيدي رجالات حزب "مباي".

لقد كانت إسرائيل طوال ثلاثين عاما دولة حزب واحد، حكمها وتصرف بها رجالات بن غوريون كما لو كانت إقطاعية خاصة، في كل جوانب ومجالات حياة الدولة، ولم يعبأ رجالات "مباي" في إخفاء شعورهم بأن السلطة حكر لهم. لقد سيطر رجالات "مباي"- الذين ما زال الكثيرون يذكرون ما اتسموا به من جشع وأنانية وتبجح وتعالٍ، لا سيما جيل الآباء والمؤسسين منهم - طوال 45 عاما على مؤسسات الدولة في مراحل الاستعداد لإقامتها وبعد قيامها، وكان يتملكهم الشعور بأنهم أُختيروا ليحكموا إلى الأبد. وقد نما بمرور السنوات الشعور بالغضب والسخط ضد سلطة "مباي".

وعلى الرغم من أن حرب "يوم الغفران" (حرب 1973) زعزعت إسرائيل بأكملها، إلا أن حزب "المعراخ" الذي فاز في الانتخابات العامة في نهاية العام ذاته، تجاهل تقلص الفجوة بينه وبين حزب الليكود (من 30 مقعدا في العام 1969 إلى 12 مقعدا في العام 1973)، محاولا الاستمرار في طريقه باستهتار كما لو أنه لم يحدث شيء. إلى ذلك فقد ساهمت سلسلة من الفضائح المختلفة التي كُشف عن تورط عدد من كبار المسؤولين والموظفين في جهاز الدولة الموالين لحزب "المعراخ" فيها، في خسارة الحزب للسلطة في "انقلاب" العام 1977، ومن ضمن هذه الفضائح قضية حساب الدولارات لزوجة رئيس الحكومة إسحاق رابين (ليئا رابين) التي كانت تحتفظ بحساب بالدولار في أحد بنوك الخارج، وهو أمر كان وقتئذ محظورا حسب القانون في إسرائيل.

وكان جناح "حيروت" في حزب الليكود بزعامة بيغن قد عانى سنوات طوال من سياسة حازمة وفظة اتبعتها حكومة بن غوريون، تقوم على رفض شرعية بيغن وحركته، وبالتالي استبعاد إشراكهم في السلطة أو التحول كحزب سلطوي مشروع، ووصِفَ بيغن على أنه زعيم فاشستي سيشكل صعوده للسلطة خطرا على إسرائيل. صحيح أن ليفي أشكول دعا كتلة "حيروت – الليبراليين (جاحل)" للمشاركة في حكومة الوحدة الوطنية، التي تشكلت لفترة وجيزة قبيل وبعد حرب حزيران 1967، وهو ما عزز شرعية بيغن وكتلة "جاحل"، غير أن هذا الأمر لم يلغِ المخاوف الكبيرة لدى اليسار الإسرائيلي تجاه بيغن، ولم يلغِ قطعا وعي وإدراك بيغن العميقين تجاه تلك المخاوف.

هذه المخاوف من عدم الإعتراف بشرعية حكمه، دفعت بيغن إلى بذل كل جهد مستطاع بغية تبديدها، ومن أجل التمتع بالشرعية الكاملة، كانت أول خطوتين قام بهما بيغن كرئيس للحكومة، إبقاء حقائب وزارية شاغرة لممثلي حزب "داش" (الحركة للديمقراطية والتغيير) الذين خاب أملهم في أن يصبحوا بيضة القبان في حكومة بيغن، ودعوة موشيه دايان لتولي منصب وزير الخارجية في حكومته وسط منحه صلاحيات واسعة. وقد شكلت دعوة دايان للانضمام إلى الحكومة، خطوة لامعة من حيث التكتيك السياسي. فدايان الذي أشغل منصب وزير الدفاع في النصر العسكري التاريخي لإسرائيل في حرب حزيران عام 1967، كان يعتبر أشهر شخصية سياسية إسرائيلية على مستوى العالم، فضلا عن كونه شخصية مركزية في حزب "العمل" الإسرائيلي، ومن هنا فإن اختياره لإشغال منصب رفيع (وزير الخارجية) في حكومة بيغن، ضَمِن إعطاء شرعية للحكومة الجديدة، كذلك فقد كان دايان، المعروف بتقلباته السياسية، شريكا وزميلا مطلوبا في الخطوات التي خطط بيغن للقيام بها من أجل إحداث إنطلاقة سياسية في العلاقات بين مصر وإسرائيل.

لكن من ناحية استراتيجية، وبرؤية بعيدة المدى، كان جلوس دايان على مقعد وزير الخارجية خطأ ستكون له فيما بعد انعكاسات بعيدة الأثر، فبيغن الذي كان من أشد المنتقدين لحكومة "المعراخ" في فترة حرب "يوم الغفران" والذي تعهد بإجراء تغيير تام في طريقة عمل الحكومة، عين في أرفع منصب في حكومته (إلى جانب وزير الدفاع) الشخصية التي مثلت أكثر من أي شخص آخر، الغطرسة والتبجح والفساد الشخصي في حزب "مباي". وإذا كان ثمة فرصة لإحداث تغيير أو انقلاب حقيقي في السلوك والإدارة العامة تحت السلطة الجديدة، فقد أُجهضت هذه الفرصة مع تعيين دايان كوزير للخارجية. لقد خان بيغن دون تورع، من أجل ضمان الحصول على خدمات دايان، الناس والقيم اللذين انتخب لرئاسة الحكومة بفضلهما.

ويصف شموئيل كاتس، وهو من قادة حركة "حيروت"، في كتابه "لا شجاعة ولا وقار"، ضعف بيغن أمام دايان في الأسابيع الأولى التي تلت انقلاب العام 1977، مشيرا إلى أن بيغن هاجم مرارا وتكرارا، خلال حملة الانتخابات وطوال السنوات السابقة لها، ما وصفه بـ "السياسة الخارجية الخانعة" التي اتبعتها حكومة "المعراخ"، وأعلن بأنه سيغير كليا النهج المتخاذل لسابقيه، وتعهد بإقامة وزارة إعلام تتبع نهجا حازما وغير مساوم، ليساهم في تغيير مكانة إسرائيل في العالم.

وقد عرض بيغن بعد الانتخابات مباشرة على شموئيل كاتس تولي منصب وزير شؤون الدعاية الخارجية، وكان كاتس قد أٌرسل للقيام بحملة دعائية في الولايات المتحدة بتكليف من بيغن قبل تشكيل الحكومة برئاسته، لكنه تلقى أثناء جولته اتصالات هاتفية من إسرائيل علم منها أن بيغن رضخ لدايان وأنه ينوي التراجع عن تعهده بتعيين كاتس وزيرا لشؤون الدعاية، وهو الأمر الذي بُلِغ به في اتصال هاتفي أجراه مع بيغن، الذي أعلمه بنيته تعيينه عوضا عن ذلك مديراً لقسم الدعاية والاعلام في مكتب رئيس الحكومة، لكنه اتضح بعد مرور بضعة أيام أن بيغن عاد وتخلى عن نيته بنقل معالجة شؤون الدعاية والإعلام من وزارة الخارجية إلى مكتب رئيس الحكومة، وذلك على إثر معارضة دايان لذلك. وهكذا أدار بيغن ظهره أيضا لتعهدات قطعها أثناء حملة الانتخابات، ومن ضمن ذلك لشريكه المخلص على امتداد سنوات طوال في قيادة حركة "حيروت".

وفي الحقيقة فإن سياسة التعيينات المقلصة التي اتبعها بيغن في جهاز الوظيفة العمومية، ما كان يجب لها أن تكون مفاجئة لشموئيل كاتس وإيتان ليفني وزملائهما في قيادة الليكود وحركة "حيروت"، والذين انتقدوا بشدة هذه السياسة. وذلك لأن بيغن كان قد أعلن مسبقا، قبل انتخابه لرئاسة الحكومة بوقت طويل، أنه لا يعتزم تولي الحكم والقيام بخطوات تغيير حقيقية في السلطة. ففي مقال نشر في العام 1950 في الصحيفة الناطقة بلسان حركة "حيروت" بزعامة بيغن، اتهمت الحركة حكومة حزب" مباي" بتسييس جهاز الدولة، وتعهدت بأنها لن تتبع سلوكا مشابها، إذا ما تولت زمام الحكم، وأنها ستبقي جميع موظفي الدولة في وظائفهم ومناصبهم؛ ذلك لأنه، كما ورد في المقال ذاته "في النظام الديمقراطي حكومة ترحل وحكومة تأتي، بينما يبقى الموظف في وظيفته"!

ويشير ذلك إلى أن بيغن لم يعتزم مسبقا ترك مفاتيح الدولة في أيدي اليسار وحسب، وإنما اعتقد حقا وحقيقة بأنه إنما يجسد بذلك مبدأ أساسيا من مبادئ الديمقراطية. وعلى ما يبدو فإن بيغن لم يعلم بحقيقة أن أية إدارة جديدة تتولى مقاليد الحكم في الولايات المتحدة الأميركية - أكبر الديمقراطيات في العالم- تعيد إشغال قسم كبير من أصل 4000 وظيفة يتولاها كبار الموظفين في جهاز الدولة.

لقد برهن إختبار الزمن على أن ليفني وأوائل منتقدي بيغن شخصوا مسبقاً "المولود" القادم. فقد أضاع بيغن الفرصة الكبرى التي أُتيحت لليمين لتغيير اتجاه إبحار السفينة الصهيونية، إذ أدت مساعيه لكسب الشرعية عن طريق إجراء أو عدم إجراء تعيينات بصورة مقبولة في نظر اليسار الإسرائيلي، إلى تصوير كل قرار لا يروق لهذا اليسار بأنه قرار غير شرعي.

وهكذا ترسخت السابقة التي جعلت من أي تغيير بسيط تحاول حكومات اليمين القيام به، خطوة غير شرعية تقوض نظما ومبادئ ديمقراطية أساسية، ويترتب عليها دفع ثمن سياسي باهظ .

الليكود لم يصعد إلى الحكم!

بعد بضعة أسابيع من صعود "الليكود" إلى سدة الحكم، إتضح لليسار الإسرائيلي "العمالي" أن الليكود لم يصعد إلى الحكم، وأنه إذا كان المنتخبون من الشعب لا يعتزمون استبدال سلطة حزب "مباي"، فإنهم لن يحظوا بتولي مقاليد الحكم حقا.

وفيما كان حزب "العمل" يشهد عملية أفول وانهيار، جاء سلوك بيغن ليبرهن لرجالات وأنصار اليسار الإسرائيلي بأنه لا يمكن استبدال الشعب، ولكن يمكن بالتأكيد تحويله إلى عامل أو طرف غير ذي صلة. كيف؟ هذا أمر بسيط جداً: يلهو الأولاد أمامنا، يذهبون للتصويت مرة كل بضعة أعوام، وسوف نهتم بدورنا بجعل نتائج تصويتهم عديمة الأهمية.

لقد كان في مقدور بيغن هزيمة خصمه العمالي شمعون بيريس، كذلك كان يمكن لبنيامين نتنياهو أيضا هزيمة بيريس، وأن يهزم أريئيل شارون إيهود باراك وعمرام متسناع، وهلمجرا، فأحزاب اليمين في المحصلة، كانت موجودة في السلطة طيلة معظم الوقت خلال العقود الأربعة الأخيرة، غير أنها لم تكن تحكم الدولة فعليا.

وفيما كان بيغن ينأى عن ممارسة الحكم، قامت نخب اليسار بسحب صلاحيات سلطوية واسعة من السلطات المنتخبة ونقلها إلى هيئات معينة غير منتخبة. وقد عمل رجالات وموالو اليسار الذين أشغلوا وظائف ومراكز حساسة في جهاز الدولة - والذين أبقاهم بيغن في مناصبهم ظنا منه أنهم سيساعدونه في تنفيذ سياسته - على إبقاء القوة والنفوذ في أيديهم، وراحوا يطورون أجهزة سيطرة خفية تُمكن اليسار من مواصلة حكم الدولة بمعزل عن نتائج الحسم في صناديق الإقتراع للانتخابات التي تجري مرة كل أربع سنوات.

إن المبدأ الرئيس يتمثل هنا في أن ثمة فرقا كبيرا بين أن تكون في السلطة وبين أن تتولى السلطة فعليا، وهو نفس الفرق بين الثور الذي يحرث التلم، وبين الفلاح الذي يمسك بلجام الثور. ومن وجهة نظر اليسار، فإنه لا توجد أية مشكلة مبدئية في أن يشغل عضو أو مؤيد لحزب "الليكود" منصب وزير المواصلات، أو التعليم أو الثقافة، طالما كان يحرث كالثور في تلم الأجندة التي يرسمها اليسار.

صحيح أنه يمكن لأبناء وأصدقاء أعضاء مركز حزب الليكود الحصول على وظيفة في شركة الكهرباء، غير أنه ليست لديهم أية فرصة لأن يُقبلوا للتخصص لدى القاضيين أهارون باراك ودوريت بينيش، أو لدى أولئك الذين يقررون في أي تلم يجب على الثور أن يسير. كذلك يمكن لذوي الآراء المنتمية لليمين إنهاء الدراسة للقبين الجامعيين الثاني والثالث بتفوق وامتياز، ولكن طالما كانت الكلمات في الأكاديميا هي الأساس وليس الأرقام، فإنه لن تكون لهم أية فرصة في الحصول على منحة البحث الباهظة أو وظيفة مهمة في الجامعة، إلا إذا أجادوا إخفاء آرائهم كما ينبغي.

لقد كان في مقدور أعضاء مركز الليكود ونشطاء الحزب جني فوائد لعائلاتهم وتدبير وظيفة لأنفسهم في هذه المؤسسة أو تلك، ولكن لم يكن باستطاعتهم أن يصبحوا أُمناء أو حراسا للثقافة الإسرائيلية، أو أن يكونوا في عداد أولئك الذين يشغلون أو يتناوبون على مناصب أعضاء لجان منح جائزة إسرائيل، أو الذين يوصون ويفوزون بهذه الجائزة، كما أنهم لن يحصلوا على أي نفوذ أو سيطرة في المؤسسات الثقافية ولجان القبول في الجامعات وتوزيع المناصب في باقي مؤسسات الأكاديميا والثقافة، التي توزع الوظائف والميزانيات والأموال على الأصدقاء والمقربين وكل من يحتفظ بالآراء "السليمة".

لقد نجحت النخبة الإسرائيلية على مدى سنوات طوال في التلاعب بأولئك الواثقين بأنهم موجودون في السلطة، لكنهم لا يسيطرون فعليا على أي شيء حقيقي.

وهذه النخبة كانت واثقة من أنها ستحتفظ بقوتها إلى الأبد وأنه لا يمكن لأحد أن ينجح، بعد ثلاثين عاما من وجودها في السلطة وأربعين عاما من امتلاكها للسيطرة دون أن تكون موجودة في السلطة، في اقتلاعها من أساس قوتها.

هل ثمة إمكانية للتغيير؟!

على الرغم من كل ذلك التراث السيء والمريب، إلا أنه ما زال في وسع اليمين أن ينهض ويحكم.

لقد فقد اليسار على مر السنوات المنقضية منذ انقلاب العام 1977، قاعدة قوته الجماهيرية، وعلى سبيل المثال فقد حصدت أحزاب اليسار في انتخابات عام 1969 حوالي 58%من مجمل أصوات الناخبين، وهي أغلبية ساحقة ومتينة، ولكن بعد خسارة السلطة في انتخابات العام 1977، أخذت قوة اليسار الإسرائيلي تنحسر وتتلاشى بصورة تدريجية، وذلك ضمن عملية مستمرة ومتواصلة تقريبا، وقد نجح اليسار المكون من حزبي العمل وميرتس، في إبعاد والتنصل من سكان مدن وبلدات التطوير والمتدينين التقليديين والحريديم، كما أنه بعيد عن قلوب المهاجرين من دول الإتحاد السوفييتي سابقا، ومكروه لدى المستوطنين في الضفة الغربية، وفي الوقت ذاته لم ينجح هذا اليسار في استمالة الطبقة المتوسطة الحضرية التي تطورت وتنامت في السنوات التي أعقبت انقلاب العام 1977.

في غياب قاعدة انتخابية تمنح اليسار أملا واقعياً في إقامة ائتلاف حكومي، وفي ظل عدم توفر خطة حقيقية لتغيير هذا الوضع بصورة جوهرية، انحرف هذا اليسار أكثر فأكثر نحو اليسار. وهكذا فقد حلّ اليأس مكان الأمل، ولم يعد هناك شعور بالثقة والأمان، وإنما شعور بفقدان السيطرة، وهو ما دفع اليسار نحو توجهات مختلفة كالانضمام إلى حملة مقاطعة إسرائيل (BDS) وتيار "المهاجرين إلى برلين"، والتنكر التّام للمجتمع الإسرائيلي.

ثمة مؤشرات على بداية صحوة في صفوف المجتمع الإسرائيلي. فالأيام التي كانت فيها أجندة ومؤسسات القضاء والإعلام والأكاديميا والميزانيات الثقافية، تذهب كلها لصالح 10% فقط من السكان، أخذت تقترب من نهايتها.

هذه العملية يمكن أن تستمر لسنوات أو عقود، فالوتيرة هنا تتوقف علينا، ولكن من الواضح أن القطار قد انطلق في سكة التغيير المنشود، فإسرائيل الأخرى بدأت تطالب بانتزاع سيادتها من أيدي النخبة القديمة.

إن الحملة الشعواء التي يشنها اليسار المتطرف ضد الجيش الإسرائيلي والصهيونية والهوية اليهودية للدولة، وضد "أرض إسرائيل" والرموز القومية والقيم اليهودية، ما هي إلا المعركة الأخيرة لتلك النخبة اليسارية المنهارة. إن القوة الهائلة التي ما زالت هذه النخبة تحتفظ بها إنما تنبع فقط من انعدام بعد النظر والتبصر والفهم السليم لدى مناحيم بيغن، والكثير من مكملي طريقه في اليمين الإسرائيلي، طوال العقود الثلاثة الماضية. مع ذلك، فإن الحقيقة والعدالة التاريخية تقتضيان منا الإشارة إلى أنه تُسجل لمناحيم بيغن أيضا، إنجازات عظيمة وقرارات مهمة تمنحه مكانة مشرفة في التاريخ اليهودي وتاريخ دولة إسرائيل.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات