يخيل لي أنه لا يوجد اليوم في إسرائيل شخص واحد لا يدرك شمولية وتعدّد مجالات "الشرخ الإسرائيلي"، حيث مظاهر الفساد السياسي، إخفاقات جهاز التعليم، أزمة الجامعات، فقدان الثقة بالجيش، اهتزاز الأوضاع في الشرطة، المساومات في جهاز القضاء، الاكتظاظ المريع في المستشفيات، الفقر المدقع الذي يعانيه ثلث الأطفال في إسرائيل، القتل على طرق البلاد، ضرب السكاكين في الشوارع والنوادي الليلية وتدمير جودة البيئة.
حتى ندرك خطورة الأمور، حَسْبنا أن نركز على مؤشرين ساطعين: الأول يبين أن إسرائيل، في كل ما يتعلق بمقياس الفساد السلطوي والفجوات الاجتماعية وجودة البيئة ومكانة المعلم والإنجازات الدراسية، تنحدر بسرعة إلى دائرة دول العالم الثالث. أما المؤشر الثاني فيظهر أنه لا يمكن في هذه الأيام اصطحاب طلبة المرحلة الثانوية لمشاهدة مسرح أو زيارة متحف أو في نزهة بين أحضان الطبيعة، ليس فقط لأنهم موصدون أمام طاقة المتعة والمغزى الكامنين في الطبيعة والفن، وإنما لأنهم، بفظاظتهم الهوجاء واحتقارهم للثقافة الرفيعة، يُجهزون على إمكانية ممارسة أنشطة ثقافية من هذا النوع.
في ضوء كثرة الظواهر السلبية، لا بد من الاستنتاج أن كل هذه الظواهر لها أب واحد، ومصدر واحد اسمه: انكفاء ثقافي.
ومن منطلق الافتراض بأننا نتحدث عن الثقافة بمعناها القيمي والمتحدي- كخيرة المؤهلات والمواهب المجسدة لروح الإنسان، أو كمجموعة من المعايير النوعية في شتى مجالات الوجود الإنساني- فإن معنى الانكفاء الثقافي يجب أن يكون عندئذٍ مدركاً وواضحاً لدينا: ففي إسرائيل اليوم يتغاضون أكثر فأكثر عن خطوط حمراء في شأن الممنوع والمرفوض، يزدرون المثل النبيلة بشأن الصالح والملائم، ويديرون الظهر لمعايير الكيفية المثبتة في ميادين المعرفة والأخلاق والنظام والإبداع والبيئة، ونحن بسبب كل ذلك نضطر لدفع ثمن باهظ جداً.
الحقيقة يجب أن تقال: ففي ضوء أمراضنا الثقافية، أخذت تنمو أجسام مضادة تعبر عن دلائل ومؤشرات حيوية وبقايا عافية وصحة. فقد انطلقت، في مواجهة الفساد السياسي، عملية جريئة وشاملة تسعى إلى "تنظيف الإسطبلات" وتطهير السلطات؛ وكرد فعل إزاء تيار الفقراء الجارف ودوس كرامة المسنين واستغلال العمال الأجانب والمتاجرة بالنساء والتمييز ضد العرب وتخريب كنوز الطبيعة والبيئة، انبثقت من داخل الوسط الثالث والمجتمع المدني جمعيات عديدة هبت للدفاع عن كرامة الجمهور ومناصرة تجسيد حقوقه.
كذلك بدأ يعلو مؤخراً صوت رجالات الفكر والأدب والتربية والثقافة والقانون والأكاديمية الذين ينتقدون بشدة خواء الروح وارتهان الجماهير في إسرائيل لثقافة "الريتينغ" ومراكز التسوق، ويناضلون من أجل تثبيت إشارات واضحة وخطوط حمراء في مجال السلوكيات والممارسة، ومن أجل تجند الدولة على وجه السرعة لتطوير ودفع بنى وركائز العلم والثقافة. وفي هذا السياق تحضرنا الأقوال المهمة التي وردت على لسان الكاتب والمربي س. يزهار: "ينبغي الوقوف والعمل ضد التيار، ضد الانجراف وراء بدائل للثقافة، ضد اللامبالاة التي تحولت إلى ثقافة وضد الاكتفاء بعروض ترفيهية.. ينبغي استثمار أفضل الموارد في تطوير المعلمين ومدراء المدارس وفي إرشاد الآباء حتى يدركوا أن البلاد لا تقوم على أجهزة الحاسوب وحدها، وإنما على الذين يفكرون ويشعرون، وأن الأدب والشعر والفن والموسيقى والمسرح أو الفلسفة ليست فقط مجرد زخرفة أو ديكور، وإنما هي ذات وجوهر المحتوى الذي لا غنى عنه، وهي طعم الحياة".
ولا بد من التوكيد هنا أنه ما من شيء في الثقافة - رغم أن كل ما فيها هو إبداع إنساني- مقدس أو مطلق، فالمعايير والنماذج الثقافية تتغير وتتبدل، وفي ثقافة "الصابرا" توجد قيم معرفية عظيمة بشأن الكيفيات المرغوبة في مجالات وميادين مختلفة من حياتنا.
وعليه، إذا كنا راغبين في حياة كريمة وملائمة، فإن علينا أن نتبنى في إطار النموذج الإسرائيلي تحديات الجودة الثقافية. أن نطالب أنفسنا أولاً بالإخلاص للمثال الموجه للممارسة والنشاط وذلك من منطلق الالتزام بأفضل خصال وسجايا الإنسان وأرقى القواعد والمعايير الاجتماعية. ثانياً، علينا أن نستثمر أكثر في المواطنين بصورة عامة وفي جهاز التعليم بصورة خاصة، بحيث يتمتع مواطنو الدولة بأسس ومدارك معرفية وثقافية أوسع.. وبلغة غنية حتى يتمكنوا من فهم الواقع والتحدث عنه بصورة واضحة.. وبمعرفة رحبة حتى يتمكنوا من تحكيم العقل وإعطاء الرأي السديد، وبوعي أخلاقي كي "يكرهوا الشر ويحبوا الخير"...
باختصار، وإلى جانب التغييرات المطلوبة في نظام الحكم والمجتمع، يتعين علينا أن نقيم جهازاً تعليمياً يعمل ويحرص على إكساب الأجيال الشابة ناصية المعرفة بكل أنواع ومظاهر الصدق والإخلاص والتعمق والفطنة والاستقامة والجمال والمصداقية والحساسية، حتى يتمكنوا من تشخيص الأمور كما يجب وتحصين أنفسهم أمام المتظاهر والمخادع والضحل والمتآمر والفظ والشرير... وبهذا المعنى، وكما ذكر في تراثنا، فإن ثقافتنا النوعية مثلها مثل الحكمة الإنسانية "شجرة حياة هي للمتمسكين بها".
__________________________
* د. نمرودي ألوني- رئيس معهد التفكير التربوي في كلية "سمينار الكيبوتسات" ورئيس مؤتمر تل أبيب للتعليم المتقدم.