تعريف:
هنا رأيان متناقضان بشأن موضوع اعتماد دستور لإسرائيل. وقد عاد هذا الموضوع إلى الصدارة مؤخرًا على أثر إعلان رئيس الحكومة الإسرائيلية، لدى افتتاح الدورة الشتوية للكنيست، أنه سيدفع قدمًا مساعي وضع دستور ليكون بمثابة هدية بمناسبة "الاحتفال بمرور 60 عامًا على إقامة إسرائيل".
ضرره أكبر من فوائده!
"سيكون الدستور أكبر هدية يمكن للكنيست أن يقدمها للدولة بمناسبة الاحتفال بمرور ستين عاماً على قيامها"- هذا ما قاله رئيس الحكومة إيهود أولمرت في افتتاح الدورة الشتوية للكنيست يوم 8 تشرين الأول الجاري. ظاهرياً، وحيث أن البرلمان هو الذي يفترض أن يمنح الهدية وليس أولمرت نفسه، فإن ثمة مكانًا أقل للشك في المؤهلات، غير أن هذه الهدية إذا ما قدمت بالفعل، يمكن أن تتضح فيما بعد كتذكار خطيئة قومية لوصمة عار أبدية. هذا لا يعني أن الدستور لا ينطوي على أفضليات وحسنات، لكن مكانتها في الحالة الإسرائيلية ستنتقص بصورة شبه تامة من المسائل الجوهرية المشحونة، وإذا ما مسها الدستور، ولو من باب الواجب البروتوكولي، فإن ضررها سيكون أكبر بما لا يقاس من فوائدها. إن أية معالجة جوهرية لهذه المسائل، سواء كان الأمر يتعلق بطابع الدولة ومكانة الأقليات فيها والمواطنة وأرضي الدولة و"الكيرن كاييمت" والحدود والدين والدولة أو المساواة، يمكن أن توقظ دببة كبيرة وغاضبة من سباتها. والدببة، على ثقلها، ما هي إلا بداية وجزء من المصيبة.
على أية حال، هنالك على الأقل ثلاثة خيارات نظرية أمام لجنة الدستور والقانون والقضاء بقدر ما يتعلق الأمر بمعالجة المسائل الجوهرية:
(1) القفز عن جميع المسائل الجوهرية وسط الاكتفاء بذكرها أو تجاهلها. (2) تضمين أو إدراج جزء منها دون الاضطرار إلى صيغ حادة وصريحة. (3) إدراج جميع هذه المسائل وسط تسويتها جذرياً وإعطاء تحديدات ومواقف صريحة حيالها.
في حال تبني الخيار الأول غير المضر، أي أن تجد مجمل المواضيع المشحونة نفسها خارج الوثيقة النهائية، فسوف يتساءل الكثيرون حينئذٍ وعن حق، ما الفائدة التي حققها أعضاء الكنيست بالدستور الذي سَنُّوه؟ لكن اللجنة، وبمقدار ما يمكن استشفافه ومعرفته، ستتمادى في قصر نظرها وسوف تتضمن الوثيقة (وثيقة الدستور) التي ستطرح للتصويت في إجماع الكنيست بكامل هيئتها عددا من المسائل الجوهرية، والتي سيأتي جزء منها على الأقل مصحوباً بصيغ صريحة.
وكان موضوع سن الدستور قد ورد في وثيقة "إعلان الاستقلال" إذ جرى التأكيد على وجوب قيام "الجمعية التأسيسية" بوضعه "في موعد لا يتعدى الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 1948". وفي حزيران 1950 قرر الكنيست، استناداً لصلاحياته كـ "جمعية تأسيسية" تكليف لجنة الدستور والقانون والقضاء بإعداد مشروع دستور.
وقد مرت منذ ذلك الوقت عشرات السنين دون أن يوضع مثل هذا الدستور المكتوب ولم يكن ذلك صدفة أو عبثاً. غير أن الافتراق المرتقب عن موقف التريث الواعي في صدد مسألة الدستور هو مؤشر آخر على الرغبة القوية التي تسكننا في أن نكون ككل الأغيار الغربيين.
بيد أن إسرائيل ليست كأي دولة غربية، على الأقل طالما كان الأمر يتعلق بقسم من المسائل الجوهرية التي يمكن إدراجها في الدستور. فليس هناك في أي دولة غربية، باستثناء إسرائيل، أقلية قومية ترفض في غالبيتها السمات الجوهرية لدولتها، تشعر في سوادها الأعظم بتماثل كامل تقريباً مع أعداء دولتها وترفض بالمطلق تحمل عبء الدفاع عنها، وبالرغم عن ذلك تطالب في الوقت ذاته بمساواة تامة في الحقوق الفردية والجماعية. وعلى سبيل المثال هناك اقتراح ورد في بند فرعي يتعلق بالمساواة يدعو إلى وجوب أن ينص الدستور على أن "الجميع متساوون أمام القانون؛ لا يجوز التمييز ضد إنسان بسبب الجنس، الدين، البلد الأصلي، القومية، الطائفة أو العرق.." إن كل ذي بصيرة سوف يدرك أن الطريق من هذا البند وأمثاله ستكون قصيرة جداً إلى الحكم الذي يُحلُّ مساواة مدنية كاملة، وأنه لن يبقى من كون إسرائيل دولة يهودية سوى قانون العودة وبعض السمات الرمزية ليس إلاّ. وحتى إذا لم يكن بالإمكان التكهن سلفاً بملامح وجه المولود المنتظر بعد مخاضات الولادة العسيرة في اللجنة، إلا أنه يمكن التكهن بأنه لن يحمل دعائم تعزيز قومية ذات شأن، كما يمكن التكهن بسهولة أن ذك سيفضي إلى فتح عدد من الثغرات الأخرى التي قد تجر علينا فعلياً عواقب فكرة (كارثة) دولة جميع مواطنيها.
_____________________
* محاضر في جامعة تل أبيب.
فرصة أخيرة لدستور صهيوني!
بقلم: ميخائيل إيتان *
نوه رئيس الحكومة (إيهود أولمرت) بالجهود التي يقوم بها الكنيست في السنوات الأخيرة لوضع دستور لدولة إسرائيل. وكانت نوايا وضع الدستور قد ظهرت للمرة الأولى في "وثيقة الاستقلال" واستمرت منذ ذلك الوقت بأشكال مختلفة. الذي أعاق وضع هذا الدستور في السنوات الأولى للدولة، كان رئيس الحكومة الأول دافيد بن غوريون، والذي اعتقد، بعد قيام الدولة أيضاً، أن إسرائيل ليست مهيأة لنظام ديمقراطي بكل ما للكلمة من معنى. ومن المبررات التي ساقها بن غوريون مدعومة بالوقائع، أن القسم الأكبر من اليهود لم يهاجر بعد إلى الدولة، وأن حدودها لم تكن محددة، وأن مكانتها السياسية والأمنية مضعضعة، واقتصادها يعمل في ظروف تقشف وضعف موارد، إضافة إلى أن مستقبلها مشوب بالغموض.
منذ ذلك الوقت تغلبت إسرائيل على الكثير من العوائق والعقبات واحتلت مكانها بين الدول الأكثر تطوراً في العالم. لذلك، بات من الجدير أن نستهل الستين سنة المقبلة بخطة للمدى البعيد تضع نصب عينيها الوقوف في طليعة الدول المتصدرة في العالم.
ولا يمكن تحقيق مثل هذا الهدف بدون دستور يشكل أساساً سلطوياً إدارياً يصوغ بصورة ناجعة وواضحة منظومة العلاقات بين المواطن وسلطات الحكم الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، والعلاقات بين هذه السلطات ذاتها.
إن الخشية من الدستور تعكس هي أيضاً الخشية من مواجهة الانقسامات والشروخ القومية والدينية والطائفية والاجتماعية التي تسم المجتمع الإسرائيلي. وهؤلاء الذي يخشون مواجهة المشاكل، يفضلون أن يسلكوا سلوك النعامة وأن يكنسوا المشاكل إلى تحت البساط متوهمين أنها ستختفي من تلقاء نفسها. صحيح أن الدستور في حد ذاته ليس وسيلة لحل المشكلات، بيد أنه أداة ممتازة وحيوية لتنظيم قواعد اللعبة التي يمكن لجميع ممثلي الشروخ أن يتنافسوا في إطارها على نصيبهم في الكعكة.
وعلى سبيل المثال، في نطاق تعريف دولة إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية ستضطر الأقلية العربية إلى قبول حقيقة أن إسرائيل هي دولة القومية اليهودية. من جهة أخرى فإن تعريف إسرائيل كدولة ديمقراطية سيلزم الأغلبية اليهودية بتضمين الدستور التزامات حقيقية بضمان حقوق متساوية لكل مواطن يحافظ على القانون، وبصون الحقوق الجماعية للأقليات وكذلك الحقوق الدينية، والقيم الأخلاقية واللغة والثقافة.
إن الدستور يشكل وثيقة تربوية مهمة، فالمواطنون الذين يتربون في دولة يهضم جهازها التعليمي قيم ومبادئ الدستور، يؤدون دورهم بصورة أفضل كمواطنين ذوي شأن وثقة بالنفس يعرفون كيف يناضلون من أجل حقوقهم. وحتى الذين يصبحون من بينهم موظفين عموميين يمثلون السلطة، يعون حدود القوة السلطوية وقدرتهم على استخدام القوة والنفوذ. وبذلك تتضاءل درجة الاحتكاك بين المواطن والسلطة، وتغدو أنشطة أذرع الحكم أكثر نجاعة وأوفر مردوداً مادياً ومعنوياً لرفاهية المواطنين كجمهور وكأفراد.
أمل أن يتمكن المعسكر القومي الليبرالي من بلورة مشروع/ اقتراح للدستور، يصون مبادئ وأسس دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية، وعلى أن يكون فيه أيضاً متسع لإجماع واسع يشمل الأحزاب الصهيونية كافة بيمينها ويسارها. ولا بد أن نتذكر بأننا إذا كنا راغبين في دستور صهيوني، فإننا ربما نكون في الدقيقة التسعين فيما يتعلق بإمكانية أن تحظى دولة إسرائيل بدستور من هذا النوع.
إذا لم تدرك النواة الصهيونية ضرورة المرونة والمساومة والتوافق على قواعد لعبة وعلى حدود ملعب مشترك، فإن دولة إسرائيل قد تفوّت هذه اللحظة أو الفرصة، مما قد يمكن بالتالي الأنوية غير الصهيونية، التي باتت تشكل اليوم أكثر من ثلث مواطني الدولة، من التأثير على الصبغة المستقبلية لإسرائيل، وستسجل الصهيونية في كتب التاريخ كظاهرة عابرة ليس إلاّ.
____________________________
* عضو كنيست من لائحة "الليكود".
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, لجنة الدستور والقانون والقضاء, وثيقة الاستقلال, الليكود, الكنيست, رئيس الحكومة