تأتي الذكرى الخمسون لمجزرة كفر قاسم في ظل تعزّز الخطاب الترانسفيري العنصري ضد المواطنين العرب في إسرائيل وضد بقائهم في البلاد، ما يعني أن عقلية المجزرة وسياستها لا تزال معششة، وفي هذا ما يفسر امتناع الحكومة عن الاعتراف بالمجزرة والاعتذار عنها.
فالاعتذار عن المجزرة ليس اعتذارا عن حادثة تاريخية من أرشيف الماضي، إنما أمر راهن له انعكاساته على الحاضر والمستقبل. فهو اعتذار عن السياسة التي رأت وترى في الأقلية العربية في البلاد ثقلا وتهديدا على الدولة، وأعتقد بأن رئيس الحكومة إيهود أولمرت بحاجة إلى قدرة هائلة على النفاق ليقوم بالأمرين معا: أن يعتذر عن المجزرة، من جهة وأن يفاوض ليبرمان الترانسفيري على دخول الحكومة، من جهة أخرى.
المأساة هي أن عقلية المجزرة التي أباحت الدم وحللت القتل أصبحت في هذه الأيام أكثر رواجا وقوة.
ولأنّ المجزرة وعقليتها ما عادت بعد في عداد الماضي فإن المؤسسة الرسمية تخافها وتخاف تدريسها أمام الطلاب. ولقد توجهت وتوجه نواب آخرون غيري الى وزيرة التربية والتعليم، يولي تامير، من أجل تخصيص بعض الساعات للحديث عن المجزرة في المدارس الإسرائيلية إلا أنها رفضت في البداية ثم وافقت. وكان من شأن استمرار رفضها أن يحيل إلى رفض المسخ من الوقوف أمام المرآة حيث تنعكس بشاعته بكل أبعادها.
ولعل أسوأ ما في هذه المجزرة بالنسبة للمؤسسة الرسمية، بما فيها وزارة التربية والتعليم، هو شكل فضح المجزرة على يد النائبين الشيوعيين الأسبقين، ماير فلنر وتوفيق طوبي، وما تحطمه وقفتهما البطولية من أسطورة العداء التاريخي بين الشعبين وما ترمز إليه من ثمار النضال العربي اليهودي المشترك ضد المجزرة وعقليتها!
كما أن أحد أكثر الأسئلة إخافة للمؤسسة هو ذاك السؤال التقليدي الذي قد يطرحه أي طالب متوسط "وما العبرة من القصة؟"
وهنا تمتلئ أفواه المعلمين ماء، فالحقيقة أن شيئا من عبر المجزرة لم يذوت، وكفر قاسم التي رمزت الى عقلية التهجير بدأت تجد لها شقيقة اسمها أم الفحم، التي تتعرض لحملة تحريضية ترانسفيرية مجنونة!
على أية حال، فإنني في هذه المقالة، ورغم بشاعة المجزرة وعمق الألم، سأحاول التنقيب عن ضوء ما، خافت إلى حد خطر الانطفاء، في محاكمة سفاحي كفر قاسم.
عند الحديث عن المحاكمات التي تلت المجزرة، فإنّ ردة الفعل الأولية لكل إنسان سوي وبحق ستكون بأن هذه المحاكمات كانت استمرارا للمجزرة ذاتها، إذ سنستذكر أول ما نستذكر مسخرة الأحكام المخففة على المجرمين، سنستذكر تلك الصلحة المشينة وقرش شدمي، وفي هذا كله وصمات عار دامغة على جبين القضاء الإسرائيلي، ولكنني ما زلت أعتقد بأن هناك ضوءا خافتا بين ركام الألم..
هذا الضوء كامن فيما سُميّ بـ"الراية السوداء"، وهي أحد أشهر الأفكار في القضاء الإسرائيلي، وقد وضعت في أعقاب مجزرة كفر قاسم.
المصطلح وضع في الحكم على القتلة في كفر قاسم (حكم ملينكي)، حيث دحض القاضي مناحيم هليفي ادعاء القتلة بأنهم لم يقوموا إلا بتنفيذ الأوامر. القاضي هليفي قرر بأن هنالك أوامر، عدم تنفيذها لا يكون مسموحا فقط إنما تنفيذها ممنوع، وأن مجرد تنفيذها هو جريمة جنائية بحد ذاتها.
وما هي هذه الأوامر؟
هي الأوامر "غير القانونية بشكل قاطع". هي الأوامر "غير القانونية التي تثقب العين وتثير القلب إن لم تكن العين عمياء وإن لم يكن القلب بليدا أو منحلا".
معيار "الراية السوداء" هو معيار موضوعي: إن رأى إنسان عادي بالتعليمات خرقا جليا للقانون فإن الراية السوداء ترفرف فوقها وتنفيذها ممنوع حتى وإن لم يكن من تلقى الأوامر ذا قيم أخلاقية رفيعة ولم ينتبه الى عدم القانونية. الاعتبار الأساسي هو أنه من الممكن، بل ومن الواجب، معرفة التمييز بين المسموح والممنوع.
"الراية السوداء" لقيت انتقادات كثيفة في الأدبيات القضائية، إذ ادعى المنتقدون بأن صيغة هليفي غامضة ولا توفر إرشادا كافيا لذات الظروف الكثيفة في واقع الحياة.
عدا ذلك فإن عدم قانونية الأوامر، قال المنتقدون، تقرّ دائما بعد فوات الأوان، وعلى يد المحكمة العسكرية حيث يحاكم من نفذوا أو امتنعوا عن تنفيذ الأوامر. كجزء من الجهاز العسكري فإن المحاكم العسكرية تميل- بشكل طبيعي- الى الامتناع عن القضاء بأن التعليمات الصادرة عن الجيش تتصف بعدم قانونية متطرفة، وهكذا تأسست القاعدة للانتقاد الأكثر شرعية: هنالك فجوة عميقة بين الشريعة القضائية وبين الفعل العسكري، بين المبادئ على الورق الأبيض وبين الفعل في الواقع الأسود.
الفجوة بين القانون وبين الفعل تنعكس بالاطلاق المبكر لسراح القتلة في كفر قاسم.
هذه الفجوة تكررت باتساع ظاهرة قتل المواطنين العرب في إسرائيل على أيدي قوات الأمن والشرطة دون أن يلقى المجرمون عقابهم.
ففي أحداث أكتوبر 2000 أطلقت الشرطة النيران على المواطنين العرب وقتلت 13 منهم دون أن يقدم أي من رجال الشرطة الى المحاكمة. وفي السنوات الست الأخيرة بعد أكتوبر قتل بأيدي الشرطة 21 مواطنا عربيا آخر، وهنا أيضا فإن التحقيقات تداس والمجرمون لا يحاكمون.
دم العرب، يا للفظاعة، ما يزال يعتبر أقل احمرارا واليد أخف على الزناد ما دام موجها ضد العرب.
قضية تعامل الشرطة مع المواطنين العرب هي مجرد حلقة في سلسلة منهجية شاملة من التمييز ضد المواطنين العرب في كل مجالات الحياة. وهذا النهج يتواصل بفعل دعم الرأي العام في إسرائيل والذي حُرّض ليرى في مواطني إسرائيل العرب جزءا من التهديد على بقاء اليهود في البلاد.
المعركة اليوم تدور على الرأي العام في البلاد. المعركة على المجتمع الإسرائيلي شرسة، لكنها تصبح مستحيلة إذا ما فقدنا البوصلة وحولناها ضد هذا المجتمع، فمعركتنا ضد المؤسسة العنصرية، ضد مغسلة الأدمغة!
المعركة اليوم هي على منع عزل الأقلية العربية سياسيا ومن ثم زجها إلى خارج الحلبة السياسية والجماهيرية في إسرائيل والعمل مقابل ذلك على عزل اليمين العنصري. وهذا ما يعيدنا حتما إلى السؤال المركزي، من يعزل من؟!
الإجابة عن هذا السؤال لا تخص المواطنين العرب وحدهم إنما المجتمع الإسرائيلي برمته، فالإجابة ستقرر بمفاهيم عدة مستقبل هذا المجتمع.
وفي هذه المعركة فإن أحد أسلحتنا التي علينا استغلالها، هو سلاح معيار "الراية السوداء"، كمعيار قضائي رفيع يكرس القيم الأخلاقية الأممية فوق كل قانون عادي يأمر بتنفيذ التعليمات.
وأعتقد بأن أحد أكثر التحديات إثارة أمام اليسار والقوى التقدمية في إسرائيل هو النشاط في ذلك الهامش المتوتر الناتج عن التباين بين القيم والأخلاق على الورق وفي النظريات وبين الواقع الأسود وفي الحياة اليومية، واستغلاله لمنع مصالحة زائفة مع الذات وإعادة الأسئلة الأخلاقية الى جانب السياسية منها لتؤرق المجتمع الإسرائيلي وتدفعه إلى إعادة حساباته، ليس فقط تضامنا مع الضحية الفلسطينية إنما مع الذات، فالمجتمع الإسرائيلي أيضا يدفع ثمنا سياسيا، اجتماعيا وأخلاقيا باهظا وإن لم يكن مباشرا لهذه السياسة.
إعادة الحسابات، لن تتسنى ما دامت القسمة قومجية، نحن هنا وأنتم هناك، إنما ببعثرة أوراق القومجية العنصرية عن طريق النضال العربي- اليهودي المشترك، الذي وكما أسلفنا يحمل دلالة متميزة في ذكرى هذه المجزرة البشعة!
____________________________________
* د. دوف حنين- عضو الكنيست من الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، ومتخصص في القضاء الدستوري.