من بين كل تصريحات جنرالات الجيش التي رافقت هذه الحملة العسكرية (على لبنان) منذ بدايتها، كان ثمة تصريح ناشز ومثير بشكل خاص ورد بالذات على لسان قائد سلاح الجو الإسرائيلي، الجنرال اليعيزر شكيدي. ففي إيجاز للصحافيين وصف الجنرال شكيدي منظمة حزب الله بـ "العصابة" ووصف زعيمها الشيخ حسن نصر الله بـ "رئيس العصابة" دون أن يذكره بالاسم كما يليق بمن لا تساوي قيمته شروى نقير، وكأنه يريد أن يقول لنا بذلك إننا نواجه عصابة من الأشرار ليس إلا، وإننا سنتمكن من القضاء عليها ومحوها عن وجه الأرض عاجلا أم آجلا.
أشك فيما إذا كان الجنرال شكيدي سيكرر هذا الوصف في اللحظة الزمنية الراهنة التي وصلنا إليها اليوم. لكن التفكير أو المنطق السليم يحتم القول إن شكيدي كان يعلم منذ البداية أننا لا نقف في مواجهة مجرد "عصابة"، وإنما واحدة من أكبر وأكثر منظمات الإرهاب تطورا وجرأة، والتي تحدت وما زالت تتحدى إسرائيل منذ سنوات طوال، منظمة تمتلك قاعدة بشرية ومادية ولوجستية وسياسية واسعة النطاق في وطنها.
لو كانت هذه المنظمة مجرد "عصابة" لما كانت هناك ضرورة لحشد واستخدام كل قوة السلاح الجبار- سلاح الجو الإسرائيلي- الذي يقف الجنرال شكيدي على رأسه، طوال أيام وليال عديدة وبوتيرة وحجم لا مثيل لهما.. لو كانت مجرد "عصابة"، لكان بالإمكان تحطيمهما وتصفيتها في غضون أيام معدودة.. لو كانت مجرد "عصابة" لما كان العالم بأسره قد وضع هذه "الأزمة" على رأس أجندته. ولو كانت أخيرا مجرد "عصابة" لكنا قد رأينا نهاية واضحة وحاسمة لهذه الحملة العسكرية، بتوجيه ضربة "صاعقة" من الجيش الإسرائيلي ترغم أفراد "العصابة" على الركوع والإذعان لأي مطلب دون قيد أو شرط.
المنطق السليم يقول إن الجنرال شكيدي يدرك أيضا ما يدركه كل ذي بصيرة، وهو أنه ليس بديهيا على الإطلاق أن "الأهداف" التي وضعتها الحكومة والجيش لهذه الحملة العسكرية سوف تتحقق فعلا، وأن من المحتمل بالتأكيد أن لا تنتهي هذه العملية الحربية بضربة قاضية لصالحنا، وبالتالي فإنها يمكن أن تحسب في المحصلة انتصارا- أو على الأقل ليس هزيمة - للعدو .
إذا آلت العملية إلى هذا المآل فإن إسرائيل، وهي الدولة الأقوى عسكريا في الشرق الأوسط، ستعتبر مهزومة أمام منظمة إرهابية متعصبة.
واضح أن الحرب لم تنته بعد. فالجيش الإسرائيلي، وسلاح الجو خاصة، ما زال يمتلك خيارات ومفاجآت عديدة لم تستنفد بعد. غير أن تفوقه المطلق الذي لا جدال فيه، لم يثبت بعد، وربما لن يثبت أبدا.
إذا كان الجنرال شكيدي قد عرف وأدرك كل هذه الأمور عندما صرح ما صرح به، فإن تصريحه يعاني، في أحسن الأحوال، من انعدام مصداقية، وهذا شيء محرج ومعيب في حد ذاته. أما إذا لم يتوقع السياق الذي راحت الأمور تتطور فيه على مرأى منه، فإن الختل في تصريحاته يصبح أشد وأعظم خطرا، ليس فقط لأنه تبين أن معلومات الجنرال (شكيدي) الاستخبارية تعاني من نقص وخلل، وإنما بالأساس لأن تصريحاته تحفل بنفس نبرة التبجح والغطرسة المثيرة للاستفزاز التي ميزت في الماضي مرارا زعماء وجنرالات إسرائيل، والتي كنا نأمل بأنها اختفت إلى غير رجعة.
والحقيقة أن هذه النغمة لم تعلو من عبارات الجنرال شكيدي وحسب، بل كان هناك آخرون عديدون من كبار المسؤولين في الدولة والجيش الذين بدت تصريحاتهم في بداية الحرب الحالية في غاية الغرور والغطرسة، وقد كان يخيل لنا أن كل الحروب والمعارك والحملات العسكرية التي خاضتها إسرائيل علمتهم (أي زعماء الدولة وقادة الجيش..) كيف ينبغي الابتعاد عن الغرور والتبجح وإبداء الحذر في ما يتفوهون به.
(ترجمة "مدار")
__________________________________
(*) دان شفيط - شاعر وكاتب إسرائيلي.