المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات مترجمة
  • 1142

تعاني مواطنة العرب في إسرائيل من نقائص كثيرة جدًا، إلى درجة أنّه يمكن تعريفها بالتأكيد على أنها "مواطنة درجة ب بالمُمارسة"، وذلك على الرغم من عدم وجود أي قانون ينص على ذلك صراحة. ومع ذلك، فإنّه من الممكن أن تقلب العاصفة المتوقع هبوبها في الأشهر القريبة القادمة هذه الوضعية لـ"مواطنة منقوصة"، من وضعية "ممارسة" (دي فاكتو)، إلى وضعية "نصية مرجعية" (دي يورا). ففي أثناء عملية فك الارتباط، والرد الشعبي اليهودي عليها، يمكن للسلطة في إسرائيل أن تشعر، خلال السنة أو السنتين القادمتين، بأنها تفقد قاعدتها الشرعية في نظر قسم ضئيل، لكن ريادي، من الجمهور اليهودي، وسعيًا نحو إرضاء هذا القسم يمكن أن تقود هذه السلطة خطوات تشريعية تؤدّي بدورها إلى تثبيت وضعيّة المواطنة من الدرجة الثانية للعرب.

 

 

القوّتان المركزيتان اللتان تنشطان في هذه المسألة هما أعمال السّلطة من جهة، والرّأي العام اليهودي، من جهة ثانية. إلا أنّ القوة الرائدة في هذه العمليّة المحتملة هي الجمهور اليهودي، الذي في وسعه أن يُملي على السلطة طريقها.

لا أبغي، في هذه المقالة، تحليل المنظور السياسي- القضائي لهذا الخطر، لأنّني غير متخصّص فيه، إلا أنّني سأحاول الإشارة إلى بعض مراكز الصخب في الجمهور اليهودي، التي من شأنها أن تدفع الحكومة إلى العمل في الاتجاه المذكور.

 

مكانة مدنية منقوصة - بدعم دولي؟

 

تمرّ دولة إسرائيل، منذ العام 2000، برجّات سياسيّة وتاريخيّة، تلقي بأثرها العميق على العلاقة القائمة بين الأقليّة العربية وبين الدولة. فقتل المتظاهرين الـ 13 رميًا بالرصاص في خريف تلك السنة مسّ مسًّا مصيريًا بمواطنة العرب في إسرائيل. ومنذ ذلك الحين، تمّ نشر استخلاصات "لجنة أور"، التي أشارت، إلى جانب استخلاصاتها القضائية، إلى وجود فشل متواصل من جانب السلطة في تسيير المساواة بين المواطنين اليهود والعرب، وإلى الحاجة الفورية في سدّ الفجوات. ورغم مرور سنتيْن منذ ذلك الحين، إلا أنّ استخلاصات "لجنة أور" في هذه المسألة لم تُطبق أبدًا.

وعوضًا عن ذلك، طرأ في السنوات الأخيرة تدهور في تعامل السلطة مع المواطنين العرب.

هاكم عددًا من الأمثلة:

(*) في السنة الماضية تم تمديد قانون المواطنة والدخول الى إسرائيل الذي يمنع منح مكانة في اسرائيل للفلسطينيين المتزوجين بمواطنين عرب. بالاضافة لذلك، نجحت الحكومة في تمرير تعديل لقانون المواطنة حيث سيفرض تقييدات كثيرة على منح مكانة في اسرائيل لأزواج "غير يهود" متزوجين لمواطنين اسرائيليين. كما أن هناك مبادرات أخرى تقصي العرب وتشكل تهديدا متواصلا على مواطنتهم، فمثلا بموجب توصيات تقرير غاديش، التي صادقت عليها الحكومة، تستطيع الدولة منح أراض للكيرن كييمت التي بوسعها منح أراض بشكل حصري للمواطنين اليهود فقط. ومن الممكن حتّى أن تزداد حدّة هذا النهج في الكنيست، في ضوء المزاج القومجي المتوقع أن يسود في الدولة في السنة أو السنتين القادمتين.

 

(*) إن توجّه حكومة إسرائيل إلى الإدارة الأميركيّة بطلب الحصول على معونات مالية لتنفيذ فك الارتباط يشمل طلبًا للحصول على معونات في "تطوير النقب والجليل". الخطوات التي تتبعها الحكومة، إلى جانب الدعاية التي ترافقها في هذا السياق، تشدّد على أنّ الحديث هو عن "تهويد الجليل والنقب". وحقيقة أنّ السلطة في واشنطن لا تشترط (حتى كتابة هذه السطور) منح هذه المعونات بتوزيع متساوٍ للأموال بين العرب واليهود على أساس مدني، تثير قلقًا كبيرًا، وتظهر أنّ الإدارة الأميركية، أيضًا، تمنح شرعية للتطوير على أساس الفصل الإثني في إسرائيل. ومن الممكن لاحقًا أن تُستخدم مثل هذه الموافقة الصامتة كـ"شبكة أمان" دولية لخطوات متمادية أكثر ضد المواطنين العرب في إسرائيل، من دون تدخّل خارجي، كون هذه الخطوات ستُعتبر شأنًا من الشؤون الداخلية في "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط".

 

(*) إن التوتر في تعامل السلطة مع المواطنين العرب ازداد إلى درجة أنّ صحيفة "معاريف" نشرت في السادس من حزيران 2005 أنّ الـ"شاباك" أمر الوزراء في الحكومة بعدم الدخول إلى البلدات العربية إلا بسيّارات مضادّة للرصاص. ويمكن الافتراض أنّ الوزراء الذين يسعون لزيارة البلدات العربية لن يستجيبوا لهذه التوصية، إلا أنّ نشرها بالبنط العريض على عرض صفحة كاملة في "معاريف" يصبّ زيتًا على نار نفي الشرعية عن المواطنين العرب. إنّ أسوأ هذه الأمور هو التدهور في مجال وعي اليهود والسلطة تجاه المواطنين العرب.

وإليكم الدليل: فكرة إعادة ترسيم الخط الأخضر من جديد، بحيث يتم إخراج سكّان أم الفحم والمثلث، عمليًّا، خارج المواطنة الإسرائيلية، مع إبقائهم في أماكنهم، تتغلغل في الخطاب الإسرائيلي بشكل لا يترك مجالاً لتجاهله. تُكنى هذه الخطّة بسذاجة بالغة بكنية "تبادل مناطق"، فيما يشكّل صلب هذا الاقتراح التطرّق للبشر الذي يسكنون على هذه الأراضي. سأسمّي هذا الاقتراح من الآن فصاعدًا بكنية "الطرد من المواطنة"، لأنّ هذه الكنية تتركّز أساسًا في البشر الذين يتطرق اليهم الاقتراح، وفي مكانتهم المدنية.

 

خلط أوراق جيو- سياسي

 

بيّن استطلاع الرأي الذي نُشر في البرنامج التلفزيوني "كابينيت" في القناة 10، بتاريخ 2 تموز 2005، أنّ حوالي 56 % من اليهود في إسرائيل يدعمون فكرة طرد المواطنين العرب الذين يسكنون في المثلث، خارج المواطنة. وبالفعل، يمكن بالتأكيد إرجاع هذه الفكرة إلى الحيّز الشاسع والشرعي الذي احتله الخطاب الديمغرافي في إسرائيل. وقد نبت هذا الخطاب على أرض خصبة من الرغبة في إقامة دولة يهودية هنا، ويشمل في طياته عنقودًا كاملاً من طرق التعامل مع الأقلية العربية في إسرائيل، بدءًا بشرعية التمييز البنيوي في تخصيص موارد الدولة، وانتهاءً بمحاولة التخلّص من المواطنين العرب من خلال التنازل عن مناطق تابعة لسيادة الدولة.

 

إنّ الخطوة التاريخية في إقامة دولة فلسطينية، والتي ستشكّل، ضمن أشياء أخرى، حقلاً مغناطيسيًا للوعي القومي الفلسطيني في طريق ترميم الشعب الفلسطيني بعد 1948، هي خطوة شرعية وجديرة، وتشمل، ضمن ما تشمله، نصب حدود حيّة بين هذين الحقلين المغناطيسيين- اليهودي والفلسطيني. إلا أنّه من المفترض بالمشروع التاريخي لنصب الحدود أن يكون عكسيًا في جوهره لمشروع فكّ الارتباط، الذي يضع نصب الجدران في صلبه. ويعني نصب حدود صحيّة، بادئ ذي بدء، إقامة أنظمة علاقات حيّة، وليس سدّ وعي الطرفين في مقابل بعضهما البعض. ويبنى نظام سد العلاقات المُقام اليوم بين اليهود والفلسطينيين على شعور بالبغض والازدراء، وخصوصًا باليأس، ومن الجائز أنّ تكون أضراره أكبر من فوائده. وسوف أتطرّق في ما يلي إلى تأثير هذا النظام على المواطنة في داخل إسرائيل، فقط.

 

بدأت عملية فك الارتباط عن قطاع غزّة في الوعي الجماهيري اليهودي مع سماع نداء الحرب للسّلام الذي أطلقه إيهود باراك في سنة 1999: "هم هناك ونحن هنا!". وقد لبّى هذا النداء حلم الكثيرين من الإسرائيليين بعدم رؤية فلسطينيين. ومن الجائز أنّ يشكل هذا الحلم مسار هروب للصهيونية من أكثر المواجهات صعوبة- المواجهة الحساسة مع تدمير الشعب الفلسطيني في العام 1948. ومن الممكن أن يكون مصدر هذه الفانتازيا اليهودية في أنّ الفلسطينيين يمثّلون فشل الدولة الأكبر في منح المواطنين اليهود، والحركة الصهيونية عامة، حياة سلم معقولة مع الجيران الفلسطينيين، في الداخل والخارج. ومهما يكن الأمر، فإنّ هذه الفكرة لاقت القبول لدى أوساط واسعة جدًا بين الجمهور اليهودي، وأدّت إلى تجنيد دعم ساحق لبناء الجدران الإسمنتية وأنظمة الأسيجة التي "ستحفر في الوعي" الفصلَ بين اليهود وبين الفلسطينيين في المنطقة المحصورة بين نهر الأردنّ والبحر.

 

لا يتلخّص مفهوم الفصل في الأنظمة الأمنيّة المؤقّتة، ولا في الانفصال عن المناطق المحتلّة وعن الشّعب الفلسطيني القائم فيها. الفانتازيا الحقيقيّة هي عدم رؤية فلسطينيين، أيًا كانوا، حتى لو كانوا جيرانًا قريبين جغرافيًا، وحتى لو كانوا يتقاسمون المواطنة مع اليهود في الدولة. وهكذا يتغلغل مفهوم جدار الفصل في داخل إسرائيل، والخطوط التي يحددها هي خطوط إثنية - قوميّة. إلا أنّ مفهوم الفصل هذا لا يكتفي بالتمييز البنيوي في توزيع موارد الدولة، بل يسعى إلى طرد العرب من المواطنة الإسرائيلية.

 

يمكن الافتراض بأنّ هذه الخطوة لن تتمّ على أرض الواقع، لأنّ مثل هذه الخطوات تحدث أثناء حرب حقيقية، تحت سحابة دخان أخلاقية، وبعيدًا عن أعين الرأي العام العالمي. وحتى لو وقعت هنا حرب شاملة، لا سمح الله، فإنّ عين الجمهور الدولية التي تهتمّ شديد الاهتمام بما يحدث هنا، لن تسمح بتطبيق مثل هذه الخطوة. كما يمكن الافتراض أيضًا أنّ مقدّمي الاقتراح واعون لذلك، ولذا يبدو أنّ رغبتهم لا تتمثّل في تحقيق إنجازات مادية ملموسة على شكل نقل الحدود، بل وبالذات، تسعى نحو إنجازات ضمن الأطر الفكرية والوعي. ويبدو أنّ الهدف النهائي هو نفي الشرعية عن المواطنين العرب في إسرائيل في نظر الجمهور كلّه وفي نظر السلطة، ثم واستمرارًا لذلك - تثبيت وضعية مواطنة من الدرجة الثانية لهم.

 

هذا الإدراك ليس منقطعًا عن الخطاب والواقع الإسرائيليين، وتثير الفترة الأخيرة بالغ القلق من استيعاب وتبنّي هذه الفكرة بسهولة زائدة. وتبدو إقامة العلاقة بين فكرة "تبادل المناطق" وبين فك الارتباط عن غزّة وشمال الضفة الغربية، طبيعية في نظر الكثيرين، ويُنظر إليها على أنّها فكرة تضع المنظور القومي في مرتبة العامل الذي سيحسم المستقبل، خلافًا للمنظور المدني. ويرى الكثيرون أنّ هذه الفكرة تتناسب وتُكمل وتحلّ بسهولة الصورة المعقّدة جدًا التي تفرضها المواطنة المتنوّعة في إسرائيل.

 

وحتّى لو نُفيت إمكانيّة الحرب الشّاملة، التي يمكن أن تؤدي الى تطبيق العملية الملموسة المادية، فلا يمكن نفي إمكانيّة "خلط الأوراق"، أي خلط كلّ الأوراق الجيو- سياسية، تحت غطاء عملية سياسية إقليمية متمادية. ومع أنّ مثل هذه العملية لن تؤدي الى إحداث تغيير في الحدود، إلا أنّها ستمنح شرعية لتثبيت دونية العرب المدنية في إسرائيل، وفق نصيات مرجعية (دي يورا)، كجزء من "تحصين يهودية الدولة" وكإحلال توازن في "هجر أجزاء من الوطن". عند ذلك ستتنصّل جهات دولية من التدخّل في عملية من هذا النوع، لأنّ هذا هو "شأن داخليّ في الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، وكذلك لأنّه "مع كلّ هذا، يستحق اليهود شيئًا ما بعد التنازل الكبير الذي قاموا به".

 

الخطاب الديمغرافي - بداية منزلق صقيل

 

اقتراح طرد العرب سكان منطقة المثلث من المواطنة، هو جزء من الخطاب الديمغرافي الذي بدأ هنا، خاصة في العقد الأخير. منذ عرض عملية أوسلو أمام الجمهور اليهودي في إسرائيل تمّت الاستعانة بالخطاب الديمغرافي من أجل تبرير إقامة دولة فلسطينية. وفي نظرة إلى الوراء، يبدو أنّ هذا كان خطأ، لأنّ إقامة دولة فلسطينية هي أمر ينبع من الحاجة والعدل التاريخيين، ولا يمكن الاستناد إلى ادّعاء غير شرعيّ في صلبه، من أجل تبرير هذه الخطوة أمام الجمهور اليهودي. لكنّ هذا الادّعاء المُساعد تحوّل اليوم إلى سيف متقلّب يشكّل تهديدًا على اليهود والعرب، على حد سواء.

 

كما أنّ خطوة فك الارتباط تستند هي الأخرى إلى الادّعاء الديمغرافي، والذي يستند إلى تقليد أوروبي طويل في رسم حدود وفقا لخطوط قومية إثنية، كانت بدايته مع ازدهار القومية في القرن التاسع عشر. كما أن عالم التداعيات الذي يحيط بخطة الانفصال، مثل الادعاءات التي تُشرعن "تبادل المناطق"، تأتي هي الأخرى من التسوية العالمية التي تبلورت في أوروبا في القرن العشرين. إلا أنّ أوروبا، التي مرت في الدوامة العنصرية في قمة ذلك النهج، أدركت منذ ذلك الحين أنها حتى لو سيّرت دولة قومية فإنه يحظر عليها الاستناد إلى مدارك النقاء القومي- الإثني، ولذلك في أوروبا، وبكل ما يتعلق بالحقوق والتمتع بموارد الدولة، المواطنة هي التي تُعطي وليس الانتماء الاثني- القومي. أولئك الذين يقترحون التخلص من 200,000 مواطن عربي يعرفون أنه حتى بعد "تبادل المناطق" سيبقى هنا حوالي مليون منهم. إن اقتراح تنفيذ هذا الفكرة يستند إلى تقليد عمليّ في إسرائيل- على نمط "دونم آخر وشاة أخرى"، أو ربما "دونم أقل وشاة أقل". ولكن، وكما أسلفت، الخطوة المادية الملموسة ليست هي المحك هنا، بل الشرعية التي تحظى بها المدارك غير الشرعية بالنقاء الإثني في السيادة اليهودية في إسرائيل.

 

ومع ذلك، وفقط من أجل الفحص- تعالوا نتصوّر كيف ستنعكس مواطنة العرب الذين سيبقون هنا بعد طرد سكان المثلث خارج الحدود: هل سيحصل سكان سخنين أخيرًا على ما يستحقونه من تخصيص أراضي دولة للبناء للأزواج الشابة، مثلما تحصل جارتها كرميئيل؟ هل ستشارك نحف والبعنة ودير الأسد في جزء من ضرائب الأرنونا العالية التي تحصّلها المنطقة الصناعية التي تعمل في كرميئيل؟ هل سيحصل العرب سكان النقب أخيرًا على بلدات جديرة؟ بالطبع لا، بل على العكس- سيحتدّ تهميشهم المدني أكثر فأكثر.

 

وبالنسبة إلى الـ"ديمغرافيين" فإنّه لا فرق بين سكان سخنين وبين سكان باقة الغربية: الفرق كائن فقط في أنّ سكان باقة الغربية يسكنون في مكان قريب أكثر من الحدود، بحيث يمكن "قصّهم" خارج الدولة، بينما سخنين عالقة في العمق، مثل وتد في قلب الجليل، ولا يمكن سحبها من هناك. بالنسبة إلى مقدّمي الاقتراح - هؤلاء وهؤلاء هم عرب ولهذا فهم ليسوا شرعيين هنا كمواطنين.

 

من وجهة نظر اليهود، الخطاب الديمغرافي يشكل خطرًا على مستقبل الدولة في منظورين: الأول، المنزلق الصقيل الذي يؤدي اليه مفهوم النقاء الإثني، حيث يبدأ في نزع الشرعية عن مواطنة غير اليهود، ويستمر في تثبيت التمييز البنيوي، وينتهي في الفصل العنصري (الأبرتهايد) بمرجعيّة نصية. المنظور الثاني هو يهودي - داخلي، إلا أنّ المنزلق هو ذات المنزلق والميل هو نفس الميل: الناطقون باسم الخطاب الديمغرافي يشدّدون على أنّ هناك حاجة لتدعيم "أغلبية صهيونية" هنا، و"أغلبيّة مُنتجة"، ولا يقصدون بكلامهم العرب فحسب، بل يقصدون أيضًا "الحريديم" المتدينين ومتلقّي المخصّصات الآخرين. وهكذا، فإنّهم يخلقون حلفًا بين الصهيونية المتديّنة، وبضمن ذلك الحركة الاستيطانية، وبين الطبقة الوسطى دافعة الضرائب التي حظيت باهتمام خاص مع ظهور حزب "شينوي" على الخارطة السياسية. لكن في الوقت الذي يمكن فيه طرد العرب من الناحية الفكرية النظرية، فإنّ يهودية المجموعات الأخرى لن تمكّن من طردها. وبعد مرور جيل أو اثنيْن بعد نزع الشرعية عن العرب، فإنّ مصير هذه المجموعات هو حضيض المنزلق الديمغرافي، سويةً إلى جانب العرب الذين لم يكن بالإمكان نزع مواطنتهم، ومثلهم "الحريديم" ومتلقي المخصصات الذين سيظلون يعانون من التمييز والاقصاء عن مركز الدائرة المدنية.

 

إذا نجح الخطاب الديمغرافي، حاشا وكلا، في إسقاط ضحايا كثيرين وفي رهن الديمقراطية الاسرائيلية لاحتياجاته، فإنّ مصير الصهيونية سيكون إنهاء دورها التاريخي وهي تئنّ تحت وطأة حصن ديمغرافي شديد المغالاة، علمانيّ، لا رادع له في تصرفاته ومتطرّف في روحه. على اليهود الذين يثمّنون الصهيونية أن ينفوا الخطاب الديمغرافي جملةً وتفصيلاً، إن كان ذلك بسبب نتائجه غير المنصفة تجاه المواطنين العرب، أو بسبب تناقضه مع المصلحة الصهيونية-اليهودية في أن تكون جزءًا من نظام ديمقراطيّ في إسرائيل.

 

الهدف - مواطنة تعدّدية في نظام ديمقراطيّ. العقبة - الخطاب الديمغرافي

 

عودة إلى فك الارتباط ونتائجه المتوقّعة.

في السنة الماضية نشر المعهد الاسرائيلي للديمقراطية مذكرة مواقف هي حصيلة نقاشات واسعة ومستفيضة ومعمّقة جرت في المعهد. وكانت إحدى التوصيات البارزة في هذه المذكرة أنه يجب منح المستوطنين "تعويضًا أيديولوجيًّا"، حيث يكون التطبيق العمليّ لهذه التوصية هو "تعزيز الهيئة اليهودية للدولة في النطاق العام". وفي ضوء الخطاب الديمغرافي الذي يحرّك أفكار كثيرين جدًا، من رائدي التيار المركزي اليهودي، وعلى افتراض أن يقوم هذا التيار بطلب تخفيف الغضب المقدّس لدى متطرّفي اليمين في الكنيست، لا يمكن النفي اطلاقا دعم عناصر من التيار المركزي لمبادرات تشريعيّة عنصرية لغرض "التشديد على الطابع اليهودي للدولة".

 

تكمن قيمة الديمقراطية في تنويعة السكان الذين يعيشون تحت كنفها ويعتبرونها إطارًا سياسيًا مشتركا. المجموعتان الأساسيتان في المجموعات السكانية الاسرائيلية هما اليهود والعرب، حيث تسري في داخل كل واحدة منهما تقسيمة داخلية متنوّعة بحسب المنشأ والدين وأنماط الحياة وغيرها. الإطار الوحيد الذي في وسعه شمل هذه الصورة المتنوّعة هو نظام ديمقراطي تعدّدي. إن خطر العفريت الديمغرافي يربض على أبواب الأغلبية اليهودية والأقلية العربية في إسرائيل، على حد سواء، ويستلزم عملية مضادّة بالغة القوّة ومتنوّعة من طرف اليهود والعرب، الذين يهمّهم النظام الديمقراطي بحدّ ذاته.

 

(*) شالوم (شولي) ديختر هو مدير عام مشترك في جمعية "سيكوي"- الجمعية لدعم المساواة المدنية.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات