المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات مترجمة
  • 1167

عبرت الباحثة روز ماري صايغ في العام 1979 عن عدم رضاها عن التقديم الرسمي الفلسطيني والعربي للقضية الفلسطينية في الأوساط الغربية.

لم يكن الأمر يتعلق بما يشاع الآن (ويراد له أن يكون بؤرة التركيز) عن طريقة أو شكل أو عدم اتــساق مع أنماط التفكير الغربي، بــل كان يتــعلق بأمر أعمق من ذلك، بـنقص في المضمون الإنساني والاجتماعي وابتعاد من الجموع البشرية صاحبة المعاناة الملــموسة. لهــذا أقــدمت صــايغ على استقصاء ما يقوله الفلسطيني والاقتراب من خبرته الإنسانية، وخرجت بعدد من المقالات وكتابين هما: "الفلاحون الفلسطينيون: من الاقتلاع الى الثورة" و"أعداء كثيرون جداً" نشرتهما بلغتها الانكليزية.

 

مادة الكتابين كانت ما يقوله الفلسطيني الحي في أزقة مخيماته لا ما يقال عنه بألسنة أو أقلام كتاب وشعراء وسياسيين معنيين بتمثيل أدوار لهم لا بتمثيل الفلسطيني الواقعي. ولم يكن التمثيل الثقافي الحذر من إقامة مسافة أو هوّة بينه وبين الخطاب الرسمي، عربياً كان أو فلسطينياً، معنياً بالفجوة الهائلة التي تفصله عن التجربة الحية بقدر ما كان معنياً بالبقاء في دائرة الممثل السياسي الذي صادر كل الأضواء وسلطها على ملامحه.

منطلق الخطاب الرسمي وقواعده التي التزمها هؤلاء الممثلون، أو القائمون بمهمة تمثيل تجربة الفلسطيني (غالبيتهم من الطبقات المترفة أو خدمها الذين يجيدون اللغات الأجنبية أو تجند مؤسسات لتسويقهم) ان مجرد طرح قضية هذا الشعب للنقاش الدولي، بجوانبها القانونية والسياسية أكاديمياً، أو مجرد الاعتراف بوجودها ووجود الممثلين، يعد انتصاراً.

وما ينقص خطاب الممثلين لكي يكون فاعلاً، جملة من خبراء الأعلام والعلاقات العامة والأموال وشيء من الأجهزة التقنية.

ولاحظت "صايغ" انه بعد احتلال فلسطين وحملات الإبادة التي تعرض لها الفلسطينيون في الأردن ولبنان وما يتعرضون له الآن في فلسطين الشرقية وغزة، ازدحمت الرفوف بالدراسات والمحاضرات عن الصهيونية وإسرائيل وقرارات الأمم المتحدة والقوى العظمى. ولكن، من يريد أن يعرف شيئاً عن الفلسطينيين، الكائنات البشرية، لا يكاد يعثر على شيء. لقد اختفى الشعب وراء قضيته أو أخفته آلية ثقافية تضع الألفاظ في محل الحياة، وما زال الوجود العياني لهذا الشعب يتعرض للطمس والتجاهل حتى ممن يزعمون القدرة على تمثيله في الخطاب الأدبي والسياسي والاجتماعي.

على العكس من هذا، نجد الخطاب الصهيوني، حتى السياسي منه والأكاديمي لا الفني والأدبي والصحافي فقط، يرتكز أساساً على إبراز المتعين الإسرائيلي، وجعله واضحاً ومتقدماً المشهد في كل مناسبة، وهذا هو مصدر قوته في الأوساط الغربية على اختلاف مستوياتها، الرسمية والشعبية على حد سواء، ومصدر قدرته على الاقناع. نحن نعرف بالطبع ان نجاح الخطاب الصهيوني ينبع في جزء كبير منه من استناده الى موروث الثقافة الغربية، وهو ما مكنه من إحداث تكامل بين رؤيته ورؤية الغربي الى العالم، ولأنه أساساً جزء من نسيج الثقافة الغربية، خصوصاً في جانبه العنصري ومركزيته. ولكن، ما نشير اليه هنا هو أن هذا الخطاب يحتفي بالمضمون البشري الملموس لحياة المستعمر القادم من شتى أنحاء العالم، بدقائق حياته الملموسة، بصفته انساناً مثل أي إنسان آخر باحث عن الأمان (لا الاغتصاب) والاستقرار (لا تشريد سكان وطن)، بحيث يستطيع المستمع أو القارئ أو المشاهد لمسه وتقمص تجربته واكتشاف انه نظيره أو القريب منه، لا مجرد أفكار ومفاهيم مجردة.

هنا مشهد انسان خلفيته قضية ثوابتها لا تقبل التغيير، وهناك في خطاب العربي والفلسطيني مشهد قضية خلفيتها انسان باهت الملامح يفتقر حتى الى الأسماء. قضية تتغير ثوابتها وتتبدل مفاهيمها، بل تكاد تصل، كما يحدث الآن، الى تبني قضية الصهيوني ذاته. فتحمل رؤيته الى العالم والى الأشياء، وتدافع عن اغتصابه الجزء الأكبر من فلسطين، وتتفهم مخاوفه "الديموغرافية" فتسدل ستار الظلمة على الفلسطيني اللاجئ، ويزعم خطباؤها أن حقه في العودة الى وطنه هو عقبة في طريق السلام، ويصل تزييف القضية الفلسطينية مرماه الأخير، أعني تبني التسمية الصهيونية للفدائي النبيل وإطلاق لقب "الإرهابي" عليه.

ومع أن الفضائيات العربية والأجنبية، بل الصحافة الغربية، نقلت في الأيام الراهنة صور الفلسطيني الحي والملموس، لا مجرد خطاب سياسيين وأدباء وشعراء ومقاولين حاولوا تسلق هذه الصورة، وأثارت تساؤلات في الأوساط الغربية، ونبهت الأذهان بقوة الى خطاب شعب اغتصبت أرضه، لا الى صفقة يتم الترويج لها، إلا أن متابعة الإجابات عن هذه التساؤلات (الإجابات الفلسطينية خصوصاً) في وسائط الاعلام الغربية والعربية على حد سواء، تظهر هذا النهج المتواصل في تغييب ما يقوله الفلسطيني وطمس ملامحه، واختراع خطاب ينسجم مع الخطاب الصهيوني ويتناغم معه في نقاطه الجوهرية: تغــيــيب المقاومــة الفلسطيــنية بصفتها حركة تحرر، والاصرار على أنها "عنف" يعرقل ما يسمونه "عملية السلام"، وصــولاً الى ادانتها على نطاق عربي ودولي، بل يكاد هذا الخطاب أن يتماهى مع الخطاب الصهيوني ويردد ترديداً ببغائياً كل ما يصدر عنه.

بين يدي نموذج دال يمكن قراءة علاماته. انه نموذج ظهر على صفحات "صنداي تايمز" اللندنية قبل عام تقريباً (12-5-2002)، ويضم مقالتين، الأولى لصهيونية قدمت من جنوب أفريقيا قبل 13 عاماً الى وطني المحتل منذ أكثر من خمسين عاماً تدعى شارون ايفانز، والثاني لفلسطينية تدعى كرمة النابلسي قدمتها "صنداي تايمز" بصفتها واحدة من دوائر منظمة التحرير الفلسطينية وتعمل الآن في إحدى كليات اوكسفورد.

في نص إيفانز التي لا تخفي صهيونيتها وانها جاءت من جنوب أفريقيا، نلمس هذا الميل الى عرض تجربة شخصية ملموسة بكل دقائقها منذ العنوان: "في محطة الحافلات انتهى حلمنا بإسرائيل". فتروي تحت هذا العنوان كيف تعرضت ابنتها، ولا تغفل ذكر اسمها لحظة واحدة، للدهس حين اقتحم فدائي فلسطيني بسيارته تجمعاً لإسرائيليين أمام محطة الحافلات. فهي كما تقول كانت شابة تحلم بأن تكون راقصة وحطمها الحادث الوحشي وحولها الى فتاة مشلولة، لكنها لا تزال تحاول أن تحيا بتعلم مهنة أخرى. ولا تنسى الصهيونية تذكير القارئ بأنها جاءت الى اسرائيل مع أطفالها الذين لا يمكن أن يعيشوا في مكان آخر. ولا تحاول تعليل عدم الإمكان هذا، كما لو أنه أمر بيّن بذاته ولا يحتاج الى تعليل أو برهان.

قوة هذا النص لا تنبع من العنوان فقط، العنوان الذي يدعو الى انقاذ أبرياء (أطفال) في مكان لا يمكن أن يعيشوا في غيره، بل تنبع من طريقة العرض الدرامية للتجربة (تجربة بشر ذوي أسماء وليسوا مجردات)، ومن قيادة مشاعر القارئ شيئاً فشيئاً الى أن يرى أن تأييد شارون في كل ما ينزله بالفلسطينيين نتاج منطقي وطبيعي، فهو بحسب تعبير الكاتبة أو تعبير من صاغ لها هذا النص ذا الأسلوب الفني، يبذل جهده لفعل أفضل ما يستطيع.

لن نسأل عما يسكت عنه هذا النص، فنحن لا نتوقع أن يمنح كاتب صهيوني (بكل ما تحمله العقيدة الصهيونية من ثوابت النظرة اللاإنسانية الى الآخر الفلسطيني صاحب الأرض) مساحة من نصه لعذابات حرمان الفلسطيني من وطنه، ومشاهد الإبادة التي يتعرض لها منذ أكثر من مئة عام، بل نتوقع هذا من الكاتبة الفلسطينية صاحبة المقالة الثانية المنشورة في الصفحة نفسها. فماذا قالت؟

في مقالة هذه الكاتبة لا وجود لأي خبرة إنسانية أو أسماء، ولا لأي إنسان من الذين تهدم بيوتهم على رؤوسهم وتقصفهم الطائرات والصواريخ، وتغتال أطفالهم ونساءهم أيدي المجرمين الصهاينة، ويسرق أراضيهم مستعمرون من أمثال شارون إيفانز وكاتب مقالتها، بل حديث مكرور وسخيف عن أن العمليات الفدائية وليدة اليأس، وسببها المجازر الصهيونية في مخيمات لبنان.

تبدأ هذه الكاتبة مقالتها بعنوان يشوه ظاهرة الاستشهاد (أنبل ظاهرة وصلتها المقاومة الفلسطينية وقبلها اللبنانية): "اليأس وحده يولد القنابل الانتحارية البشرية"، وتحت هذا العنوان الذي لا يمت الى الواقـع المـقاوم بصلة، تختصر الكاتبة عذابنا الإنساني منذ قرن بعبارة "يأس وإحباط اللاجئين الواقعين في مأزق، وفقدانهم الأمل".

ويتضح بعد سطور غموض هذا الأمل المفقود الدافع الى "المأزق"، فلا يعرف القارئ، هل هو الأمل بالصهيونية أن تعيد اللاجئين الى وطنهم أو تتوقف عن تقويض مقومات حياة من تبقى في نابلس والخليل وغزة؟ أم هو أمل الكاتبة بقيادتها المشغولة بتقاسم وظيفي مع المحتلين؟

أعتقد أنها كانت تلمِّح الى الاثنين معاً، لأنها لا تتحدث عن أمل بوطن، ولا عما هو أدنى ولو كان النجاة من الإبادة المتواصلة لكل ما هو فلسطيني. أليس أمراً يدعو الى التساؤل أن يتقاصر وعي فلسطيني من دون ذكر وطن اسمه فلسطين؟

كلا الخطابين، خطاب الصهيونية ايفانز وخطاب الفلسطينية كرمة، يخفي واقعة اغتصاب وطن الفلسطينيين، بيوتهم وأراضيهم وهويتهم السياسية القانونية، ووواقعة محوهم بالأحرى، وواقعة ان السلام (سلام أطفال ايفانز وسلام أطفال الفلسطينيين) لا يتحقق باغتصاب سلام الآخرين في وطنهم. وتضيف النابلسي محواً للشعب الفلسطيني الذي لا تعرف عنه القادمة من جنوب أفريقيا غير انه "أطفال يتعلمون منذ سن السادسة قتل أنفسهم من أجل قضية من القضايا"، حين تقدمه للقارئ الغربي على أنه "بعض من اللاجئين المحبطين الذين فقدوا صبرهم وأملهم"، ولا تنسى أن تضيف أن هؤلاء اليائسين والمحبطين قلة منا، أما الأكثرية "معظمنا" فلم يفقدوا الأمل. بماذا؟ لا ندري. إلا أنها كما يبدو تملك أملاً خاصاً حين تشير الى نشاطها واتصالاتها بالصهاينة الذين تزعم أنهم يحبون السلام.

النقص الخطير الذي لمحته روز ماري صايغ في تقديم القضية الفلسطينية الى "الآخر" الغربي وغير الغربي، سبق أن لمحته في مناسبة ووقت آخر. كان بين يدي مقال "جان جينيه" الحامل عنوان "أربع ساعات في شاتيلا" والى جواره مقالات لكتاب فلسطينيين وعرب تتناول السياق نفسه الذي وقعت فيه مذبحة صبرا وشاتيلا (نشرت مجلة "الكرمل" الفصلية هذه المقالات في العدد 7، 1983)، وأذهلني آنذاك اكتشافي كم كان الفرنسي قادراً على تعريفي بالفلسطيني الذي يسعى على وجه البسيطة، بالكائن الإنساني الذي يمكن أن يتعرف إليه القارئ ويلمسه مهما كانت جنسيته وثقافته، بينما غطت النصوص الفلسطينية والعربية المجاورة هذا الفلسطيني ذاته بزبد ورغوة كلمات وجلجلة مجازات خاوية طمست ملامحـه وغيّـبتها تمـاماً.

يومذاك حدست بجزء من الأسباب. أحدها مبعثه الفارق بين ثقافة فرنسية معنية بالملموس والحي وبين ثقافة عربية ما زالت تأخذ صورة العالم الحي من الألفاظ وليس العكس، وآخر مبعثه الفارق بين نزاهة وتقنية تمكن بهما "جينيه" من إقامة مسرح للتجربة، سلط عليه كل ما استطاع من أضواء وبين خيانة فنية يمارسها الكاتب الفلسطيني والعربي حين لا يكتفي بالجلوس أمام مقاعد المشاهدين أو الوقوف بينهم وبين المشهد فقط، بل يستولي على أضواء المسرح ويسلطها على شخصه تاركاً مسرح التجربة الإنسانية (تجربة البشر الآخرين) غارقة في العتمة.

بعد سنوات، أكدت صواب حدسي الممثلة الجزائرية منية الراوي حين قالت عن نص "جينيه" وهي تشارك في مسرحته: "هذا النص عرفني بالفلسطيني للمرة الأولى". كان هذا بعد سبعة عشر عاماً من نشر "أربع ساعات في شاتيلا".

قبل نصف قرن تقريباً لاحظت مجلة "الآداب" البيروتية ضعف النزعة الإنسانية في الأدب العربي الحديث (أيلول/ سبتمبر 1953) وطرحت هذه الملحوظة بصيغة سؤال وجهته الى عدد من الأدباء. يومذاك قال سلامة موسى: "نعم... بل أكاد أقول انها معدومة، وعلة ذلك ان الأدباء العرب ما زالوا يتعالون على الشعوب التي يعيشون بينها ويأكلون لقمتهم من كد أبنائها، بل ان منهم من يكرهون الفقراء".

وقال رئيف خوري ان السبب هو "كسل أدبائنا في معالجة الفنون الأدبية التي يشهد التاريخ انها دون غيرها مطيعة لأن تتجلى فيها النزعة الإنسانية".

بعد كل هذه السنوات، لا أعتقد أن الأمر مجرد مسألة تقنية، أي عجز عن معالجة فنون أدبية، ولا أعتقد أن انعدام النزعة الأدبية خاص بالأعمال الأدبية، بل هو عجز راسخ في تمايز طبقي عتيق الطراز ممتزج بسلَّم قيم موروث لا تحتل فيه العلاقات الإنسانية بين الإنسان والانسان مرتبة الأولوية، سلم قيم تنعدم فــيه العلاقات بالطــبيعة أو بالحياة وكل ما هو حي بالأحرى.

خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، استمع فنان بولندي مهاجر الى فنانين عراقيين يتذمرون من عدم وجود ما يغري الرسام أو يثري تجربته في بلده الذي يفتقر الى الألوان، ويغبطون الغربي الذي يجد كل هذا الثراء في متناوله هناك في الغرب. فابتسم البولندي وقال لأصدقائه الفنانين العرب: "لو كنتم تحبون بلدكم وطينه لوجدتم فيه كل الألوان".

وأسأل: هل يحب صاحب الخطاب العربي، سواء أكان سياسياً أم شاعراً أم روائياً أم سينمائياً وطنه؟ هل يحب شعبه ويشعر أن اكتماله لا يتحقق إلا بعلاقته بالأحياء؟ أم هو ضحية عشق أبله للألفاظ وحياة أكثر بلاهة في الألفاظ؟

 

· كاتب فلسطيني مقيم في الكويت.

 

الحياة 2003/06/07

 

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية, تلم

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات