المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات مترجمة
  • 1184

لم يسم أحد هذا المؤتمر "مؤتمر أوفيرا"، ولا حتى ألسنة حال اليمين المتطرف. من يتذكر إسم "أوفيرا" اليوم، وهو الاسم الذي أطلق على "شرم الشيخ" بعد احتلالها، كخطوة أولى لضمها؟

     من يريد أن يتذكر مقولة موشيه ديان بأن شرم الشيخ أهم من السلام؟ فديان ذاته عمل من أجل التوصل إلى سلام مع مصر وأعاد شرم الشيخ إلى أصحابها، إلا أنه في هذا الوقت كان 2500 شاب إسرائيلي قد دفعوا الثمن بدمائهم، ومن يدري كم ألفًا من المصريين دفعوا الثمن بحياتهم مقابل تلك المقولة التي قيلت أثناء حرب أكتوبر.

 

     طيلة مدة انعقاد المؤتمر، دارت في رأسي أغنية لم استطع التخلص منها: "عدنا إليك ثانية يا شرم الشيخ!" الأغنية التي كانوا يتغنون بها أيام الابتهاج الأحمق الذي ساد غداة حرب حزيران 1967. أتت هذه الأغنية لتذكرنا بأننا كنا قد احتللنا هذا المكان في حرب سيناء عام 1956، إلا أننا اضطررنا إلى الانسحاب منها عقب التهديد الأميركي- السوفييتي. وها نحن نعود إليها منتصرين.

     كنت هناك عام 1956. خليج رائع الجمال (معنى كلمة "شرم" لسان بحري يمتد داخل اليابسة). بعض البيوت الصغيرة ومسجد له مبنى بنمط خاص. قبل انسحاب الجيش الإسرائيلي من المكان، بعد عدة أشهر، قام بهدم المسجد بنوبة من الغضب.

    والآن، وبعد 22 سنة من انسحابنا من "أوفيرا" لآخر مرة (لم يغن أي منا في ذلك الحين، "تركناك يا شرم الشيخ") كلنا نعتبرها مدينة استجمام مصرية. مصرية مثل القاهرة والإسكندرية. لقد تلاشى الماضي، وقد تلاشى معه ذلك الاحتلال من ذاكرتنا الجماعية.

     هذا هو أول مغزى إيجابي من المؤتمر. فمن الممكن الانسحاب ووضع حد للاحتلال. ومن الممكن أيضا أن ننسى بأن ذلك الاحتلال كان قائما ذات مرة.

 

     هناك شخصان لم يتواجدا في المؤتمر، إلا أن طيفهما كان يحوم فوق كل شيء.

     أحدهما ما زال على قيد الحياة: الرئيس جورج بوش. لم يجلس، لا هو ولا أي ممثل أميركي آخر، إلى جانب الطاولة المستديرة الكبيرة. إلا أن الأشخاص الأربعة الذين جلسوا من حولها كانوا يعرفون حق المعرفة بأنهم متعلقون به تماما. حسني مبارك مربوط بأربعة مليارات دولار يحصل عليها سنويا من الولايات المتحدة، برعاية من الكونغرس الذي يسيطر عليه اللوبي الإسرائيلي. الملك عبد الله يحصل على مبالغ أقل بكثير، إلا أن سيطرته متعلقة بالنوايا الأميركية الحسنة.

     أريئيل شارون هو التوأم السيامي لبوش، ولا يمكنه التحرك إلى اليمين أو إلى اليسار بدونه. لا يمكنه أن يفكر مجرد التفكير بتنفيذ أي عمل، صغيرًا كان أم كبيرًا، يمكنه أن يغضب بوش. أما أبو مازن فهو يراهن على كل ما لديه بأن يساعد بوش الفلسطينيين على التخلص من الاحتلال وإقامة دولتهم.

     إذن لماذا لم يأت الأميركيون إلى شرم الشيخ؟ لأنهم غير مستعدين للمخاطرة في عملية يمكن أن يكون مصيرها الفشل. إنهم يأتون إذا كان النجاح مضمونا فقط. والنجاح هنا غير مضمون.

    

     أما الغائب الثاني عن المؤتمر فهو ياسر عرفات.

     لم يكن لهذا المؤتمر أن ينعقد لولا موته الغامض. وفاته سحبت من تحت قدمي شارون الذريعة التي كان يتذرع بها لوضع السلام داخل محلول "الفورمالين"، كما قال مستشاره الأكبر، دوف فايسغلاس، الذي جلس بجانبه طيلة انعقاد المؤتمر. لا يوجد عرفات، لا  توجد ذريعة. الترويج الإعلامي الإسرائيلي الذي عمل جاهدا لتحويل عرفات إلى شيطان، سيحتاج الآن لمزيد من الجهد ليفعل الشيء ذاته مع أبي مازن.

     لقد نجح أبو مازن في "تسريب" اسم عرفات إلى خطابه مرة واحدة فقط، في سياق غير مباشر، إلا أنه - مثله مثل كل الفلسطينيين- يعرف أن 45 سنة من عمل عرفات الدؤوب هي التي وضعت حجر الأساس الذي يبني عليه أبو مازن الآن استراتيجيته الجديدة. لولا الانتفاضة الأولى لما أبرمت اتفاقية أوسلو، ولولا الانتفاضة الثانية لما كان سيعقد مؤتمر شرم الشيخ. المقاومة الفلسطينية المسلحة، التي لم ينجح الجيش الإسرائيلي في القضاء عليها، هي فقط التي دفعت شارون إلى الطاولة المستديرة.

      لقد أدرك الجيش أنه لا يستطيع قمع الانتفاضة بالوسائل العسكرية، وقد استرجع الفلسطينيون احترامهم الذاتي، كما فعل المصريون في حرب أكتوبر. العديد منهم يؤمنون أيضا بأن بوش، في فترة توليه الثانية، سيرغم إسرائيل على الانسحاب.

     على فكرة، لم تتوقف شيطنة عرفات فور وفاته، بل على العكس فهي مستمرة الآن بملء قوتها، من اليسار ومن اليمين، بتعاون جذاب، يعلنون في كل مقال صحفي وفي كل برنامج تلفزيوني أن عرفات كان العائق الرئيسي للسلام. لا الاحتلال، ولا المستوطنات، ولا سياسات نتنياهو- باراك- شارون، بل عرفات لوحده. والبرهان على ذلك: مات عرفات، وها هو المؤتمر ينعقد.

     أكثر ما يثير الضحك هي لعبة كوندوليسا رايس، فقد زارت المقاطعة التي يصرخ كل حجر فيها باسم عرفات، ولم تضع إكليلا على ضريحه - وهي أقل لفتة من لفتات اللياقة، إذ كانت بذلك ستتربع في قلوب الشعب الفلسطيني. ولكنها، من منطلق إبداء حسن النية، وافقت على مصافحة أبي مازن تحت صورة عرفات.

     لقد ابتسم عرفات ابتسامته الحذقة، فهو بالتأكيد يتفهم الأمر.

 

     إذن ما الذي تم إحرازه في هذا المؤتمر من سلسلة المؤتمرات التي لا تعد ولا تحصى؟

     من الأسهل لنا أن نتحدث عما لم يتم إحرازه..

     لقد فشلت اتفاقية أوسلو لأنها لم تحدد الهدف النهائي، الذي يجب الوصول إليه بعد كل المراحل الانتقالية. لقد كان هدف عرفات وأبي مازن واضحًا للغاية: دولة فلسطينية في كافة المناطق المحتلة وعاصمتها القدس الشرقية. عودة إلى الخط الأخضر (مع تعديلات حدودية طفيفة)، تفكيك المستوطنات وحلول عملية لقضية اللاجئين. لم يتمتع الإسرائيليون بالشجاعة الكافية للإعلان بشكل عن الحل الذي لا مناص منه، أو أنهم كانوا يلهون بأحلام أرض إسرائيل الكبرى.

     هذه وصفة للفشل. فغداة الاتفاقية بدأت المشاجرات حول كل بند من البنود.

     لم يتحدثوا في شرم الشيخ أبدا عن حل النزاع. نجح أبو مازن في إدخال بعض الكلمات حول الموضوع، أما شارون فلم يتطرق إليه بتاتا. هناك معنى عميق لعدم التطرق هذا. علينا أن نشدد على ما يلي: لم يقل شارون في شرم الشيخ أية كلمة لا تتماشى مع خطته في ضم 58 بالمئة من مساحة الضفة الغربية وحبس الفلسطينيين في قطاعات معزولة وصغيرة في سائر المناطق.

     كذلك الأمر بالنسبة للجدول الزمني. صحيح أنه قد تم تحديد مواعيد في أوسلو، إلا أن الطرف الإسرائيلي لم يحلم بالوفاء بهذه المواعيد. لقد أعلن رابين: "لا توجد تواريخ مقدسة" بعد أن وقع على الجدول الزمني.

     لقد كان ذلك خطأ فتّاكًا. إنه فتاك تماما - لأنه فتك برابين. إرجاء الحل منح معارضي السلام وقتا للنهوض من جديد وتنظيم أنفسهم والخروج في هجوم مضاد، وصل إلى ذروته بمقتل رابين. لقد رددنا مقولة ديفيد لويد جورج في أذني رابين دون جدوى: "من المستحيل تخطي الهاوية بقفزتين".

     لقد قال أبو مازن في شرم الشيخ أن هذه هي الخطوة الأولى على طريق طويل. الطرق الطويلة هي طرق خطرة، فأعداء السلام يكمنون له على طول امتدادها، الإسرائيليون منهم والفلسطينيون.

     إضافة إلى ذلك: أحد الشروط المسبقة لنجاح عملية السلام الحقيقية – وربما هو الشرط الأهم– هو عرض الأمور بشكل صحيح. لقد كان العرض في شرم الشيخ عرضا كاذبا. من استمع إلى الخطابات يمكنه أن يعتقد بأن المشكلة الحقيقية هي "الإرهاب الفلسطيني"، وإذا توقف هذا الإرهاب، ستحل كل الأمور الأخرى. وحسب الترتيب التالي: (أ) يتخلى الفلسطينيون عن "العنف"، (ب) توقف إسرائيل العمليات العسكرية، (ج) ينشأ تعاون أمني مشترك، (د) الباقي بين يدي الله.

 

     المتشائمون سيقولون: لن يجدي هذا نفعا أبدا. وقف إطلاق النار قابل للكسر، وفي أحسن الأحوال، سينفذ شارون وعده بالانسحاب من غزة وتفكيك بعض المستوطنات، وعندها سيبدأ كل شيء من جديد.

     المتفائلون سيقولون: هذه بداية طيبة. وقف "الإرهاب الفلسطيني" سيخلق في إسرائيل جوًا جديدًا، تفكيك المستوطنات الأولى سيؤدي إلى مواجهة مصيرية، يسحق فيها معسكر المستوطنين واليمين العنصري المتطرف. سيرى الناس أن بالإمكان العيش بشكل آخر. ديناميكية العملية ستجر وراءها شارون إلى الأمام، وهو ذاته لن يستطيع وقف هذه العملية، حتى وإن رغب في ذلك.

   

 من هو المحق؟.

 

المصطلحات المستخدمة:

الخط الأخضر

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات