بعد أكثر من سنتين على مؤتمر "كامب ديفيد"، ما زالت غالبية الجمهور الاسرائيلي مقتنعة بأن الفشل في المفاوضات، مثلما في النزاع الدموي المتجدد، مردّه إلى الفلسطينيين. هذا الاتهام هو إثبات آخر، بحسب رأي غالبية الاسرائيليين، بأن الفلسطينيين وقيادتهم لم يغيروا من مواقفهم/ مؤامرتهم الأصلية لدفع النتيجة النهائية المرجوة وهي إقامة دولة فلسطينية على كامل التراب، من البحر إلى النهر.ويُفسر رفض مقترحات براك في "كامب ديفيد" على أنه فقرة أخرى في التتابع غير المنطقي للادعاء "أن الفلسطينيين لا يفوتون فرصة لتفويت اتفاق سلام". كما أن طرح موضوع اللاجئين وحق عودتهم في المداولات وعرض المطالب الفلسطينية، من قبل إسرائيل، كمسبب لتفجر قمة "كامب ديفيد"، هما إثبات آخر للرفضية الفلسطينية معدومة التسويات.
ويُفسر إندلاع المظاهرات في أيلول 2000 على أنه مبادرة مخططة من عرفات، وكإثبات آخر على دهائه ونيته فرض إتفاق على إسرائيل، بقوة الذراع، بدلا من المفاوضات. كما أن تبديل المظاهرات الجماهيرية بإطلاق الرصاص على الجنود والمستوطنين في نطاق الضفة والقطاع، هو إثبات آخر على خيانة السلطة الفلسطينية، التي أعدت هي وأجهزتها الأمنية والعامود الفقري فيها –"فتح"- والأسلحة التي أعطيت لها، لمحاربة "العنف والارهاب" (بمعنى، ضد التنظيمات الفلسطينية).
وإنتقال الفلسطينيين إلى عمليات "إرهابية" داخل إسرائيل يغلق دائرة الاثباتات: هدف الفلسطينيين –"حماس" و"فتح" على السواء- هو قتل اليهود لكونهم يهودَ، وهم لا يميزون بين إسرائيليين داخل دولة إسرائيل وبين جيشهم والمستوطنين داخل مناطق الضفة. كل هذه الاثباتات تواصل، في نظر غالبية الجمهور الاسرائيلي، تبرير سياسة اعتداءات الجيش الاسرائيلي على الفلسطينيين في أماكن سكناهم.
وفي الجهة الثانية، الفلسطينية، تزود السنتان نصف السنة الماضية ما يكفي من الاثباتات لنظريات حول ماهية الصهيونية ودولة إسرائيل وطبيعة قيادييها. قمع المظاهرات الشعبية الفلسطينية الأولى في أيلول وفي تشرين الأول برصاص حي وفتاك –في جانبي الخط الأخضر- هو نتيجة لمؤامرة إسرائيلية مخططة سلفًا، لفرض إتفاق على السلطة عن طريق التفوق العسكري.
المستمسكات "غير القانونية" التي أقامها المستوطنون في السنتين الأخيرتين تثبّت شكوك الفلسطينيين بشأن دهاء القياديين الاسرائيليين، الذين يتنكرون في العلن لـ "أعمال غير قانونية" ومن تحت الطاولة يتعاونون مع منفذي هذه الأعمال. وحقيقة أن إسرائيل استمرت في توسيع كل المستوطنات، بهمة عالية، وكادت أن تضاعف عدد سكانها، خاصةً في سنوات أوسلو، هي إثبات للرفضية الصهيونية، الرفض المدروس مسبقًا -منذ 1949- لترسيم الحدود الدولية لإسرائيل. وحقيقة أن شاؤول موفازن وزير "الأمن"، يقول إنه "يمكن تحقيق تتابع استيطاني قانوني بين القدس ومعليه أدوميم"، تضعه على تتابع إستيطاني واحد مع يتسحاق رابين، الذي وسّع من منطقة نفوذ هذه المستوطنة العملاقة، في فترة ولايته كرئيس حكومة في فترة اوسلو، على حساب الفضاء الفلسطيني في القدس الشرقية والتتابع الجغرافي للدولة الفلسطينية العتيدة.
ويُنطر إلى قرار التوسّع هذا من جانب الفلسطينيين على أنه فقرة في تتابع قرارات التوسّع والكولونيالية في السبعينيات، الصادرة عن "المعراخ" و"الليكود" سويةً ("اليسار" و"اليمين")- هذا أقام "معليه أدوميم" كمعسكر عمل ومنطقة صناعية، وذاك وسّعها إلى مدينة مركزية في إسرائيل. ويجد الفلسطينيون خطًا واصلاً ليس بين كل المستوطنات الموسّعة اليوم (لأغراض أمنية ولأغراض الزيادة الطبيعية) وبين الاستمرار في توسيعها في سنوات أوسلو وإقامتها وتوسيعها قبل اوسلو، فقط، بل بين توسيع اليوم وبين بداية الصهيونية و1948، أيضًا. هذه الصلة يثبّت الادعاء الفلسطيني السابق، بأن كل هدف الصهيونية كان سلب الأراضي من الشعب الفلسطيني. وتوسيع "معليه أدوميم" والتضييق على أبو ديس والعيسوية والزعيم، مرتبطة مع ما يحدث في الجانب الثاني من الخط الأخضر منذ 1948: توسيع "نتسيرت عيليت" اليهودية، مثلا، على حساب أراض ورفاهية سكان القرى عين ماهل والمشهد. ويُرى إلى مصادرة أراضي عشرات القرى على طول "الجدار الفاصل" كاستغلال لفرصة تحقيق أحلام توسعية قديمة.
الهجومات الاسرائيلية الفتاكة على أماكن سكنية مكتظة مثل مخيم البريج وقتل محتم لمواطنين كثر، هي، في نظر الفلسطينيين، إثبات على إستهتار مميِّز، كولونيالي في جوهره، بدماء السكان الأصليين. وبحسب الفلسطينيين فإن هذا إرهاب دولة. الادعاء الاسرائيلي بأن "المخربين" يختبئون في تلك المناطق السكنية، يقوّي الاستيعاب الفلسطيني حول الاخلاقيات الاسرائيلية المزدوجة. وألا يسكن كبار قياديي الجيش الاسرائيليين، القادة والجنود، المسؤولين عن قتل آلاف المواطنين الفلسطينيين في العشرين سنة الأخيرة، ألا يسكنون في داخل أحياء مدنية؟ وألم يقم الجيش الاسرائيلي قواعد ووضع دبابات تطلق النار من داخل المستوطنات، على الأحياء والمخيمات الفلسطينية؟
(هآرتس، 5 آذار، ترجمة: "مدار")