كتب محمد دراغمة:
كان أمام قوات الاحتلال أن تذهب إلى بيت تيسير خالد بعد الثانية من منتصف الليل، وتعتقله، مثلما تفعل مع المئات غيره من أبناء المدينة كل ليلة، لكنها اختارت لاعتقاله، كشخصية سياسية، عرضاً آخر يليق بـ "جيش الدفاع الإسرائيلي، جيش الأمة"، الذي أطلق في المدن، وسط السكان المدنيين، بعِدّهِ وعتاده، كي ينتصر..
ولتحقيق ذلك، دفع الجيش عند الواحدة والنصف من بعد ظهر أول من أمس، وهو موعد يكون التلاميذ فيه قد غادروا مقاعدهم الدراسية، قوة عسكرية مؤلفة من دبابة وجرافة وناقلة جند ومركبات مصفحة، رابطت أمام مدخل بناية الأنوار وسط المدينة، حيث يقع مكتب خالد، ونزل منها عشرات الجنود في مشهد سينمائي مثالي، وتوزعوا على وجه السرعة على مداخلها، وهم يطلقون النار والقنابل الصوتية، مشيعين الذعر والهلع في قلوب مئات النساء المتسوقات وأطفالهن في هذه البناية الضخمة التي تضم سوقاً تجارياً كبيراً..
ولأن مشهد الدبابات والمركبات العسكرية ارتبط في عقول الفلسطينيين، على الدوام، بكل أسباب الخراب ومظاهره، فقد تداعى مئات الشبان لرشقهم بالحجارة، مندفعين في ذلك وراء الاستجابات العاطفية التي غالباً ما تعوزها الحسابات والاعتبارات العقلانية.
ووصل الحماس بالبعض منهم حد حمل مسدسات وبنادق وإطلاق النار منها على المركبات التي قد تعجز عنها الأسلحة الثقيلة.
وبهذا تكونت مختلف عناصر البيئة المثالية التي يبحث عنها جيش كهذا يسعى دائماً لتحقيق النصر، حتى على الذات، فترك العنان لأسلحته تفتك بكل ما يمكنها أن تقع عليه.
أخذ الجنود المتحصنون داخل المركبات المصفحة يطلقون النار من بنادقهم ورشاشاتهم الثقيلة ومدافعهم بصورة عشوائية على المارة فأوقعوا ثلاثة شهداء، ورابع مصاب بموت سريري، وأكثر من عشرين جريحاً، بعضهم مصاب بجروح خطيرة.
ولأن الرصاص كان يطلق على المارة بصورة عشوائية، فقد كان الضحايا يتساقطون على هذا النحو العشوائي أيضاً.
فالشهيد محمد التكروري 35 عاماً، أصيب بعيار ناري ثقيل في الرأس وهو يستقل سيارة كانت مارة في شارع مجاور لمسرح العملية – العرض -.
والشهيد فراس مبروكة 22 عاماً أصيب بعيار قاتل في الظهر وهو يحاول مغادرة منطقة الخطر..
وفي مستشفى رفيديا حيث سجي أكثر من عشرين مصاباً لتلقي العلاج، بدت العينة العشوائية للضحايا على أوضح ما تكون.. فهذا طفل في الثانية عشرة من عمره أصيب بعيار ناري مزق وجهه، وذلك رجل ثلاثيني تفتت عظام فكه، وذلك ساقه أو كتفه وهكذا…
وحتى تكتمل عناصر العرض المصور، عمد الجنود إلى تجريد تيسير خالد من جاكيته وقميصه وأبقوه في القميص الداخلي وعصبوا عينية وقيدوا يديه، واقتادوه تحت عدسة الكاميرا إلى داخل ناقلة الجنود، وانسحبوا مخلفين وراءهم عشرات بقع الدماء وبقايا أرصفه كانت ذات يوم واحدة من علامات المدينة الحديثة الجميلة التي كانتها نابلس قبل أن يجتاحها جيش عرف كيف ينتصر على المدن الجميلة.
والعرض الذي وثقته كاميرا "جيش الدفاع الإسرائيلي" في نابلس ليس الوحيد من نوعه، فقد كانت مثله عروض اعتقال عديدة سابقة مثل اعتقال أمين عام جبهة التحرير العربية راكاد سالم من مكتبه وسط رام الله في عملية خاصة وغيره.
ومع تشييع جثامين الضحايا الثلاثة أمس كان العديدون من نابلس قد أدركوا لماذا جاء الجيش على هذا النحو الاستعراضي، في وضح النهار، لاعتقال شخصية سياسية اعتادت أن تكون في منزلها، خصوصاً في الموعد الذي يوقت فيه أهالي نابلس بدء عمليات الاعتقال التي باتت جزءاً من ليل هذه المدينة الطويل.
لكن عديدين غيرهم لم يدركوا بعد أن هذا الجيش الباحث عن انتصار عزيز يدفع دباباته وعرباته المصفحة إلى شوارع المدن الفلسطينية لتكون مصايد بشرية، تجتذب إليها المزيد من الضحايا كل يوم...