المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • كلمة في البداية
  • 4951
  • انطوان شلحت

يتواتر في إسرائيل أخيرًا استعمال مصطلح "اليمين الإسرائيلي الجديد" بغية جملة أهداف منها إقامة حد فاصل بينه وبين ما يسمى بـ"اليمين العقلاني"، ولا سيما الذي يمثل عليه قادة حاليون وسابقون في حزب الليكود الحاكم على غرار دان مريدور وبيني بيغن، ورئيس الدولة رؤوفين ريفلين (رئيس الكنيست السابق)، ووزير الدفاع الأسبق موشيه آرنس، مثلاً.

وهذا "اليمين الجديد" هو من بات يقرر جدول الأعمال العام الداخلي، والخطاب السياسي في إسرائيل.

ويتألف من تحالف كل من الأحزاب الحريدية (المتشددة دينيًا)، والأحزاب المتدينة القومية، والمستوطنين، وأعضاء الكنيست المتطرفين في حزب الليكود، والجماعات القومية المتطرفة المنضوية ضمن حزب "إسرائيل بيتنا"، وحركات مثل "إم ترتسو" وغيرها.

لماذا عنونت الشطر الأخير من المقال بعبارة "عودة إلى الوقائع"؟.

لسبب بسيط أن الوقائع المرتبطة بصعود هذا اليمين الجديد سبق أن أوردناها ضمن التقارير الإستراتيجية السنوية حول المشهد الإسرائيلي الصادرة عن "مركز مدار" منذ العام 2010- 2011، وقد استشرفت في حينه ما هو حاصل الآن.

وأشير في هذه التقارير من ضمن أشياء أخرى، إلى أن هناك إجماعًا لدى المتابعين والمحللين السياسيين على أن اليمين الجديد كان يتطلع على المدى البعيد إلى ترسيخ "واقع غير ديمقراطي" في إسرائيل، وإلى أنه نجح من أجل ذلك في أن يصرف نظر الرأي العام عن مسائل مصيرية مثل "عملية السلام"، وفي أن يجعل اهتمام هذا الرأي العام منصبًا على مسائل أخرى مثل محاربة نشاط المنظمات اليسارية التي تدافع عن حقوق الإنسان، وتأجيج الهجوم على المحكمة العليا.

وجرى إرفاق هذه التحليلات بملاحظتين:
الأولى، أن كثيرين من قادة اليمين الإسرائيلي الجديد هم أشخاص هاجروا من دول الاتحاد السوفييتي السابق في تسعينيات القرن العشرين الفائت، وأن المتضرر الرئيس من ممارساتهم هو "اليمين العقلاني" الذي ما زال ملتزمًا معادلة "إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية" (الإشكالية أصلاً)؛
الثانية، أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لا يقف في وجه هذا اليمين الجديد العنصري، وأنه في حال استمراره في اتخاذ هذا الموقف فإن هذا اليمين سيلحق ضررًا فادحًا به هو أيضًا، لأن سيطرته على جدول الأعمال العام والخطاب السياسي أدت إلى حدوث أزمة كبيرة بين إسرائيل وبين "أصدقائها" في العالم، وفي مقدمهم الولايات المتحدة، ودول أوروبا الغربية، والجاليات اليهودية في أوروبا وأميركا الشمالية.

وأكد المحلل السياسي شالوم يروشالمي (بحسب ما ورد في تقرير مدار 2012) أن هناك تقاسمًا للأدوار بين عدد من الشخصيات الوزارية والبرلمانية التي تؤدي دورًا كبيرًا على صعيد دفع تنفيذ خطة تغيير قواعد اللعبة بشكل كامل وتحويل إسرائيل إلى نوع من الدولة الديمقراطية اليهودية - الدينية المتعصبة، التي تعتمد على الطابع اليهودي أكثر مما تركز على الطابع الديمقراطي. ويتزعم هؤلاء رئيس الحكومة الذي أخذ يتجه نحو هذا المسار الخطر المعادي للديمقراطية، لكن يغير أحيانًا تكتيكه ويتراجع إلى الوراء ليعاود هجومه من جديد. وبرأي يروشالمي فإن إسرائيل "تسير في اتجاه نظام يبعدها عن الديمقراطية الغربية، ويحولها إلى دولة مختلفة حيث لن يكون هناك وجود لليسار العلماني ولا لحقوق الأقليات".

وفي سياق مقابلة صحافية مطوّلة أجراها يروشالمي مع عضو الكنيست ياريف ليفين (ليكود)، رئيس لجنة الكنيست (في الكنيست الـ18) وأحد أكثر النشيطين في ميدان سن القوانين الرامية إلى تغيير أصول اللعبة الداخلية، حدّد هذا الأخير (من الحدّة) بملء الوضوح أن غاية هذه الحملة التشريعية تتمثل في إصابة ثلاثة أهداف على المستوى الإسرائيلي الداخلي.
هذه الأهداف هي:
أولاً، المحكمة العليا التي وصفها ليفين بأنها "تيار يساري لنخبة ضئيلة من حي رحافيا الأشكنازي (في القدس الغربية) تتبنى جدول أعمال ما بعد صهيوني"؛
ثانيًا، وسائل الإعلام التي وصفها بأنها "تمارس حرية التشهيـر والتحقير"؛
ثالثًا، منظمات المجتمع المدني اليسارية وأساسًا منظمات حقوق الإنسان التي قال إنها "تلحق أضرارًا فادحة بالسيادة الإسرائيلية".

وأشار المحلل السياسي غدعون ليفي (في نهاية 2011) إلى أن الهجوم المتعدد الأذرع الأهوج الذي يشنه اليمين الجديد في ذلك الوقت مُوجّه ضد كل من النساء والعرب واليساريين والعمال الأجانب والجمعيات والصحافة وجهاز القضاء، وكذلك ضد كل من يقف في طريق الثورة الثقافية التي يُراد إحداثها، وحذّر من أن كل شيء يوشك أن يتغيّر، بدءًا بالموسيقى التي يتم الاستماع إليها وانتهاء ببرامج التلفاز التي تتم مشاهدتها، مرورًا بحافلة الباص التي يجري السفر فيها والجنازة التي يشترك الناس فيها. وهذا في موازاة تغيّر الجيش الإسرائيلي، والتحولات الطارئة على جهاز المحاكم، وتعرّض مكانة المرأة إلى الرجم بالحجارة، ودفع العرب إلى ما وراء الجدار ومهاجري العمل إلى معسكرات الاعتقال. وبكلمات أخرى فإن إسرائيل تنطوي بين أسلاك شائكة وأسوار كما لو أنها تقول ليذهب العالم كله إلى الجحيم.

وبرأي ليفي فإن ثمة أيادي كثيرة تقف وراء هذه الثورة الثقافية، لكن لدى جميعها قاسم مشترك واحد هو الطموح إلى إسرائيل أخرى، غير غربية وغير منفتحة وغير حرة وغير علمانية. وهذه الأيدي هي: اليد القومية التي تسن القوانين المعادية للديمقراطية والفاشية الجديدة، واليد الحريدية التي تقوّض حرية الفرد ومساواة المرأة، واليد العنصرية التي تعمل على مجابهة غير اليهود، واليد الاستيطانية التي تعزّز قبضتها على ما يحدث داخل إسرائيل أيضًا، ويد خامسة تعبث بأجهزة التربية والثقافة والفنون.

أمّا البروفسور زئيف شتيرنهيل (من الجامعة العبرية في القدس) فأكد (أيضًا في نهاية 2011) أن هذا اليمين يعمل بذراعين: الذراع العنيفة (الصلبة)، وهي الذراع الاستيطانية، التي وصفها بأنها تحظى بحكم ذاتي إقليمي، وهي مزودة بالسلاح وتفرض سطوتها على الجيش والشرطة، والذراع المحترمة (الناعمة) التي تقوم بالعمل في الكنيست. وفي قراءته فإن العنف الفظ المعربد في المناطق الفلسطينية كل يوم، والذي ينزلق أيضًا إلى الشارع الإسرائيلي، أقل خطرًا من نواح كثيرة من العمل البرلماني الهادئ والدؤوب الذي يفرغ بالتدريج الديمقراطية الإسرائيلية من مضمونها. وأضاف: إن تحويل غير اليهود إلى مواطنين ذوي مكانة أدنى هو الهدف الذي يتوق إليه أغلب اليمين الإسرائيلي، وباسم هذا التيار يعمل وزيرا العدل والخارجية في إسرائيل، بدعم من جانب كل القيادة البرلمانية لليمين، عدا رئيس الكنيست. وشدّد على أنه إذا منحت الدولة أفضلية قيمية لليهود، وهي أفضلية ستتدحرج بالضرورة إلى أفضلية سياسية، إن لم تكن اجتماعية واقتصادية، فإنها تكفّ عن أن تكون دولة ديمقراطية.

كما نوّه في سياق آخر بأن اليمين الإسرائيلي، العلماني والديني على حد سواء، يتحدّى المفهوم الجوهري للديمقراطية الليبرالية، ويشمئز من مبادئها ويحتقر قواعد اللعبة فيها. وجوهر الثورة الدستورية لليمين هو ضمان التفوّق المطلق للهوية الإثنية والدينية للقبيلة، ولذا فإن الدولة لا تعتبر وسيلة لضمان مصلحة كل مواطنيها، وإنما إطار يسمح بممارسة تفوّق اليهود على غير اليهود. وشدّد على أنه لا يجوز الخطأ في نيات اليمين، ذلك بأن خطورة التشريعات المعادية للديمقراطية في ذلك الوقت تنبع من واقع أنها مدرجة في نطاق مفهوم كليّ، وتخدم هدفًا واضحًا، وهي ليست سوى مرحلة أولى في المعركة الكبرى لتغيير طابع المجتمع والدولة في إسرائيل.

لكن كيف تأثر ويتأثر هذا كله بأداء من يُفترض به أن يشكل البديل السلطوي لحُكم اليمين؟ وكيف انعكس هذا كله على سياسة إسرائيل الخارجية ولا سيما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية؟.
الإجابة عن هذين السؤالين تحتاج إلى وقفة أخرى.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات