حتى يوم أمس الأحد (9/2/2025) كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب لا يزال متمسكاً بتصريحاته التي أثارت التنديد والجدل بشأن مستقبل قطاع غزة، والتي أطلقها في سياق مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو عقده في البيت الأبيض في واشنطن يوم الثلاثاء الماضي، وطرح من خلالها فكرة استيلاء الولايات المتحدة على غزة. كذلك طرح اقتراحاً يقضي بنقل الفلسطينيين إلى دول مجاورة وإعادة تطوير المنطقة المتضرّرة وتحويلها إلى "ريفييرا الشرق الأوسط".
وطرح ترامب اقتراح تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة لأول مرة يوم 25 كانون الثاني الماضي، وذلك من خلال "حثّ مصر والأردن على استقبال المزيد من سكان القطاع". وعندما سُئل آنذاك عمّا إذا كان يقترح حلاً طويل الأمد أو حلاً قصير الأمد؟، قال: "يمكن أن يكون الحلّ أياً منهما".
ومما قاله ترامب أمس أنه لا يزال "ملتزماً بشراء غزة وامتلاكها"، وأنه "ربما يعطي أجزاءً من القطاع إلى دول أخرى في منطقة الشرق الأوسط لبنائه". وتابع: "لا أعتقد أن سكان غزة يجب أن يعودوا إليها، فالقطاع هو سبب مشاكل كثيرة في الشرق الأوسط، ولا نريد أن تكون هناك حركة حماس بعد إعادة البناء". وشدّد على أن الولايات المتحدة "ستمتلك غزة وتطوّرها وتعيد بناءها بحذر وبطء شديدين"، مشيراً إلى أن الدول الغنيّة في الشرق الأوسط "ستشارك في إعادة بنائها وستبني مواقع جيدة للناس وللفلسطينيين وسيعيشون بسلام".
ويمكن القول إن ردات الفعل المُرحبة بتصريحات ترامب حول التهجير تكاد تكون منحصرة في إسرائيل، على تعدّد أطيافها السياسية التي يكاد يلفها إجماع حيال القضية الفلسطينية ومستقبلها، مثلما أثبتت وقائع الحرب على غزة مع وجود استثناءات قليلة.
وأكثر ما ركزت عليه ردات الفعل الإسرائيلية في ما يخص تصريحات ترامب وخططه هو ما يلي:
أولاً، أنّ موقف ترامب بشكل عام، على نحو ما تجلّى في اجتماعاته مع نتنياهو، يعكس عهداً جديداً وواعداً في سياق العلاقات الخاصة بين إسرائيل والولايات المتحدة، قوامه التماهي الأميركي المطلق مع إسرائيل وسياستها حيال الفلسطينيين وفي الإقليم عموماً. وفي رأي أحد الخبراء الإسرائيليين في شؤون العلاقات الإسرائيلية- الأميركية، فإن لقاء القمة بين نتنياهو وترامب يعيد إلى الأذهان، على مدار أعوام العلاقات بين الدولتين، ثلاثة لقاءات قمة عقدت في الماضي بين رؤساء الولايات المتحدة ورؤساء حكومات إسرائيلية وانطوت على مؤشرات قوية إلى إدراك واشنطن أن إسرائيل تشكل رصيداً استراتيجياً للولايات المتحدة في منطقة جغرافية شديدة الأهمية من ناحية جيوسياسية، بل تعتبر بمثابة "قاعدة أميركية أماميّة" (البروفسور أبراهام بن تسفي، "يسرائيل هيوم"، 9/2/2025). وعقدت لقاءات القمة السابقة المذكورة في حزيران 1964 وكانون الثاني 1968 وأيلول 1969. وضم اللقاءان الأول والثاني الرئيس الأميركي ليندون جونسون ورئيس الحكومة الإسرائيلية ليفي إشكول، في حين جمع اللقاء الثالث بين الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون ورئيسة الحكومة الإسرائيلية غولدا مئير.
ثانياً، رأت أغلب ردات الفعل الإسرائيلية أن خطة التهجير التي أعلن ترامب تمسكه بها تؤكد ضمنياً اعتقاده بأن الفلسطينيين ليسوا شعباً ولا قومية، ولذا يمكن ترحيلهم من حيث يقطنون إلى أقاصي الأرض. وتنكر الخطة حق الفلسطينيين في أرضهم وحقهم في تقرير مصيرهم. ومثلما أشير في أكثر من مقام فإن المنطق الذي يتبناه ترامب وتروّج له الصهيونية هو منطق استعماري لا يقيم أي وزن للجغرافيا الوطنية الخاصة بالشعب الواقع تحت الاستعمار الكولونيالي، ويتبنى تهجير الشعوب الأصلية من أوطانها وسلبها حقّها في تقرير المصير، ويجسّد عقلية تتجاهل الحقوق التاريخية لأصحاب الأرض.
ثالثاً، تلفت تقارير إسرائيلية متطابقة إلى أن دونالد ترامب، رئيس الدولة الأعظم في العالم، منح عبر خطته الداعية إلى تهجير سكان قطاع غزة، شرعية كاملة لفكرة الترانسفير باعتبارها مُكوّناً مهماً في إيجاد تسوية للقضية الفلسطينية، ومبدأ مقبولاً يمكن أن يتحوّل إلى خطة عملية. ونوّه البعض بأن الترانسفير كان طوال الوقت جزءاً عضوياً من مخططات الصهيونية وكيانها السياسي ولكنه بدأ يفقد شرعيته شيئاً فشيئاً إلى درجة تمّ فيها حظر حركة "كاخ" بزعامة الحاخام المقتول مئير كهانا في العام 1994 لأنها دعت إلى الترانسفير علناً.
وكما سبق التأكيد مرات عديدة فإن فكرة الترانسفير ليست جديدة على النقاش الإسرائيلي، لكنها حتى وقت قريب كانت محصورة في أوساط اليمين المتطرف. ويبدو أن أحد الأسباب المركزية لذلك هو منظومة التبرير التي طرحها أتباع كهانا طوال أعوام، إمّا عبر مقولات عنصرية مثل "العرب لا يفهمون إلا بالقوة"، وإمّا عبر ادعاءات دينية محض مثل "وعدُ الرب لإبراهيم بالأرض". وفي الوقت نفسه، فإن أوساطاً واسعة من اليمين والوسط تدرك أن الترانسفير هو خرق واضح للقانون الدولي، وقد يؤدي إلى عزل إسرائيل في العالم بما في ذلك حتى عن داعميها. لكن يظهر منذ عدة أعوام أن منظمات يمينية بارزة دخلت في النقاش الإسرائيلي العام في محاولة لمنح تبريرات جديدة وترسيخ قاموس مصطلحات جديد غربي للفكرة القديمة نفسها التي سبق أن طرحها كهانا وكثيرون غيره من قبله. وربما يحتاج هذا الموضوع إلى وقفة لاحقة أكثر تفصيلاً، ولكن إلى أن يحين ذلك نشير إلى أن هناك حملة جديدة في إسرائيل تطالب بتوسيع تعريف الترانسفير باللغة المستعملة اليوم، إذ تسميه "نقل مكان السكن" (Relocation).
وعند هذا الحدّ لا بُد من الاتفاق مع ما كتبه رئيس تحرير صحيفة "هآرتس" ألوف بن (9/2/2025) تعقيباً على تصريحات ترامب وردات الفعل الإسرائيلية عليها التي ما زالت تترى، حيث نوّه بأنه من السهل الاستخفاف بوزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، بسبب خلفيته الأمنية الهشّة، ولكن من الخطأ الاستخفاف بالأوامر التي وجهها إلى الجيش يوم الخميس الماضي بالتحضير لخطة "خروج طوعي" للفلسطينيين من قطاع غزة، والمستوحاة من مبادرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وبرأي بن "هذه هي المرة الأولى التي تعلن فيها إسرائيل (ويقصد علناً على رؤوس الأشهاد) خطة عملية لتهجير العرب من المناطق التي احتلتها، ومن الآن أصبح الترانسفير سياسة الحكومة"!
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, هآرتس, يسرائيل هيوم, كاخ, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو, يسرائيل كاتس