نواصل هنا عرضنا للمفاهيم المركزية والأبرز التي شكلت قاعدة الرؤية الأمنية ـ السياسية الإسرائيلية التي يتعمق الإجماع الإسرائيلي على حقيقة أنها مُنيت بالفشل الذريع، بل بالانهيار التام، والتي تتزايد وتتعالى الأصوات الداعية إلى إعادة النظر فيها، لكن بعد صبّ الجهد بداية على تحديدها، من منطلق القناعة بأن تحديد تلك المفاهيم هو الخطوة الأولى التي لا مناص منها في مسيرة إعادة ترميم ما ينبغي ترميمه في العقيدة السياسية والأمنية الإسرائيلية، ثم في إعادة هيكلة الأجهزة، المنظومات والأذرع المكلفة بتطبيق هذه العقيدة في المستقبل.
منذ بدء الحرب الإسرائيلية الحاليّة على قطاع غزة التي جرى شنّها في إثر الهجوم المباغت لحركة حماس على مواقع عسكرية في منطقة الحدود مع قطاع غزة، وعلى ما يعرف باسم "بلدات غلاف غزة"، يوم 7 تشرين الأول الماضي، طفت على السطح عدة مقارنات مع حروب إسرائيلية أخرى. وتشكّل هذه المقارنات، من دون ريب، ردّة فعل على واقع يتسم بالصراع من جهة وبالحروب التي يمكن اعتبارها دوريّة من جهة أخرى، كما أنّها تمثّل استجابة لهواجس وتطلعات ومواقف محددة من طرف هذا الباحث والمحلل أو ذاك.
ليس من المبالغة القول إن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وضعت كل الأطراف الإقليمية الفاعلة أمام خيارات صعبة، كما أن استمرار تمسّك إسرائيل بشعار "القضاء على حركة حماس" في ظل استمرار حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني تزيد من تعقيد المواقف أمام الدول العربية والإسلامية على وجه التحديد. وبالتزامن مع ازدياد حدّة التصعيد على الجبهة الشمالية (المواجهة مع حزب الله)، وعلى جبهة المواجهة مع الحوثيين في اليمن، تتخذ الأطراف والفواعل الإقليمية خطوات ومواقف استناداً إلى مصلحة كل منها، رغم أن هناك اتفاقاً عاماً على ضرورة تجنّب اتساع رقعة التصعيد واندلاع حرب إقليمية. في هذا السياق، تناولت العديد من التحليلات والمقالات الصادرة عن مراكز ومعاهد البحث والتفكير الإسرائيلية مواقف الدول على المستويين الدولي والإقليمي من الحرب، واستعرضت أبرز الفرص والمخاطر. في هذه المساهمة نستعرض أبرز ما ورد في تقرير صادر عن "معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي" التابع لجامعة تل أبيب بعنوان "دول الخليج وحرب إسرائيل ضد حماس" أعدّه كل من إيلان زلايت ويوئيل غوجانسكي.
فتحت الحرب الحالية ضد غزة الأبواب أمام التيار الديني القومي الأكثر تطرفا، أي التيار الحردلي، ليحتل مكانة أكثر بروزا داخل الجيش الإسرائيلي. فاستدعاء أكبر قدر من جنود الاحتياط، والدخول في حالة الحرب، وتجهيز أكثر من 600 "لجنة تأهب" مسلحة في مدن، وأحياء، وبلدات إسرائيل، بالإضافة إلى التجنيد الكامل للإعلام، ومؤسسات الدولة- كل ذلك رفع من مكانة الجيش الإسرائيلي في الحيز العام ليتحول إلى اللاعب الأبرز والموجود في كل مكان من الحياة اليومية في إسرائيل. ويمكن ملاحظة أن التيار الحردلي استفاد من حالة التجييش العامة وبدأ صوته، وثقافته، وأفكاره تظهر بشكل أكثر داخل فرق الجيش، وأحيانا بدون انتقادات.
غيّرت أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والحرب على قطاع غزة، من التوجهات السياسية للمجتمع الإسرائيلي عموما، وأنماط التصويت على وجه الخصوص، على الأقل كما تبين استطلاعات الرأي العام التي نشرت في الفترة الأخيرة. تحاول هذه الورقة تحليل أهم التغيرات في المواقف السياسية، لا سيّما الانتخابية لدى الشارع الإسرائيلي من خلال الاعتماد على مجموعة من استطلاعات الرأي العام المنشورة التي حاولت أن تفحص ذلك. وتعتمد الورقة على هذه الاستطلاعات مع العلم والحذر في الوقت نفسه بأن الاستطلاعات تعبّر عن المزاج السياسي العام في هذه الفترة، وعلى الرغم من أهميتها كمؤشر مهم لفهم التوجهات المستقبلية بعد الحرب، فإنها لا تكفي بالضرورة لاستشراف المستقبل، المتعلق بمتغيرات عديدة قد تؤثر على المواقف والتوجهات العامة.
سعى محافظ البنك المكزي في إسرائيل أمير يارون، في مؤتمر لصندوق النقد الدولي عقد في الولايات المتحدة الأميركية قبل أيام، لطمأنة العالم بشأن ما وصفه "متانة الاقتصاد الإسرائيلي"، إلا أن أسواق المال العالمية تراقب قلقا تجاه إدارة الاقتصاد الإسرائيلي، بحسب تقارير إسرائيلية، كما حذر محللون من أن سوء إدارة حكومة بنيامين نتنياهو ووزير ماليته بتسلئيل سموتريتش للاقتصاد، سيخفض مستوى الثقة العالمية بالاقتصاد الإسرائيلي، وفي الوقت نفسه ازداد طرح سؤال: من أين سيأتي التمويل لهذه الحرب بمختلف جوانبها؟ في المقابل، فإن التقارير الجديدة تشير إلى اتساع البطالة، إذ تم إخراج حوالي 120 ألف عامل وعاملة إلى البطالة بفعل الحرب.
الصفحة 38 من 324