المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
في شارع ديزنغوف بتل أبيب في السادس من الشهر الجاري. (إ.ب.أ)
في شارع ديزنغوف بتل أبيب في السادس من الشهر الجاري. (إ.ب.أ)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1213
  • عصمت منصور

أعادت سلسلة العمليات التي وقعت في قلب مدن الداخل، أي في بئر السبع والخضيرة وبني براك وتل أبيب، وأوقعت ثلاثة عشر قتيلا خلال ثلاثة أسابيع، إلى واجهة الأحداث، التحدي الأمني، وهاجس عودة العمليات داخل المدن الإسرائيلية، وإمكانية أن يقود ذلك، بسبب الخطوات والإجراءات الانتقامية والعقابية والرادعة التي قد تقدم عليها الحكومة ومنظومة الأمن الاسرائيلية، إلى توسيع دائرة المواجهة، لتشمل الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967 بما فيها القدس، مرورا بالبلدات الفلسطينية والمدن المختلطة في أراضي 1948، وصولا إلى غزة، وتكرار سيناريو أيار من العام الماضي 2021.

بدأت هذه العمليات بعملية طعن ودهس في النقب في 22 آذار الماضي وأسفرت عن قتل أربعة إسرائيليين، والتي تبعتها بعد عدة أيام (في27 آذار) عملية إطلاق نار في وسط مدينة الخضيرة، نفذها شابان فلسطينيان من أم الفحم في المثلث الشمالي، وقتل خلالها جنديان إسرائيليان، وأصيب 12 آخرون، ومن ثم بعدها بأقل من 48 ساعة (30 آذار) وقعت عملية بني براك والتي قام فيها الشاب ضياء حمارشة من يعبد في محافظة جنين بتنفيذ عملية إطلاق نار وقتل 5 إسرائيليين، وآخر هذه العمليات هي عملية إطلاق النار التي نفذها رعد حازم في شارع ديزنغوف وسط تل أبيب وقُتل فيها إسرائيليان وأصيب 14 آخرون. وجميعها عمليات فردية، ووقعت داخل الخط الأخضر، في قلب المدن الاسرائيلية، ولم تنته دون أن توقع قتلى وجرحى، بعد أن فشلت أجهزة الأمن في منعها وإحباطها قبل وصول منفذيها إلى اهدافهم.

تزامن هذه العمليات مع قدوم شهر رمضان، وتقاطع هذه المناسبة الدينية مع الأعياد اليهودية، ومناسبات وطنية ودينية، والتي سبقتها جميعا تحذيرات من أجهزة أمنية متعددة من احتمال نشوب موجة جديدة من التصعيد، ضاعف من الشعور بخطر اندلاع مواجهة جديدة، قد تمتد لأشهر طويلة وتوقع عددا كبيرا من القتلى والجرحى، كما أنها قد تنعكس سلبا على قدرة الائتلاف الحاكم في الحفاظ على استقراره ومنع سقوط الحكومة التي توصف بالهشة، خاصة بعد فقدانها للأغلبية البرلمانية الضئيلة التي كانت تتمتع بها في الكنيست بعد إعلان رئيسة الائتلاف الحكومي عيديت سيلمان في السادس من نيسان الحالي انسحابها من الائتلاف، وانضمامها إلى معسكر المعارضة بقيادة بنيامين نتنياهو.

المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس"، عاموس هارئيل، لخص، في مقالة تحليلية له في 30 آذار وقبل عملية ديزنغوف، الأجواء المرتبكة التي سادت في أروقة الأمن وفي أوساط السياسيين، بأنها تكمن في تحقق " سيناريو المحاكاة" والارتجال، وهو ما يمكن أن يفسر نجاح هذه العمليات و "عدم وجود إنذارات مسبقة لدى الأجهزة الأمنية حولها" ولكنه أيضا لا يجعلها مادة "للمحاكاة والتقليد" بل شرارة قد تشعل كل الجبهات.

"فصل الساحات": اسم آخر للعصا والجزرة

الطابع "الأثير" والقائم على المحاكاة ووجود حافز ودافع لدى أفراد بتنفيذ عمليات شكّل تحديا كبيرا أمام أجهزة الأمن، وتطلب معالجات مختلفة.

وتعكس قرارات المجلس الأمني السياسي المصغر "الكابينيت" والذي عقد في الثلاثين من آذار الماضي، الطبيعة المزدوجة التي تتطلبها مواجهة هذه الموجة من العمليات، فإلى جانب النشر المكثف لقوات الشرطة والجيش وحرس الحدود في المدن الإسرائيلية وعلى طول الخط الأخضر، وإغلاق الفتحات في جدار الفصل، تم زيادة ميزانيات الشرطة واستدعاء مزيد من القوات ونشرها في الضفة الغربية وعلى الحدود مع غزة، وإقرار خطوات تعتمد على المبادرة وإحباط العمليات، وهي قرارات تهدف إلى منع العمليات المستقبلية، والأهم استعادة الشعور بالأمن الشخصي لدى الاسرائيلي العادي، وترميم صورة الردع وهيبة المنظومة الأمنية. وتم بالمقابل حصر العقوبات والإجراءات الانتقامية والرادعة بأصغر دائرة ممكنة من عائلات منفذي العمليات أو المناطق التي يخرجون منها، خاصة مدينة جنين التي تم إغلاقها ومعاقبتها لفترة وجيزة وشملت العقوبات عليها منع مواطني الداخل من زيارتها والتسوق منها، وسحب عدد من تصاريح العمال والتجار، وإغلاق بعض المعابر، حيث قرر الكابينيت عدم إلغاء التسهيلات التي كانت قد أقرّت مسبقا لمناسبة حلول شهر رمضان قبل اندلاع موجة العمليات الأخيرة، والتشديد على أن سحب تصاريح العمل سيكون من الأقارب من الدرجة الأولى، إلى جانب هدم منازل المنفذين.

أطلق الجيش الإسرائيلي على مجمل هذه القرارات والسياسات والتوجهات العملياتية العسكرية أو الاستخباراتية أو السياسية والإعلامية اسم (كاسر الأمواج) وذلك لتجسيد الانطباع القوي السائد لدى الاوساط الأمنية بأن هذه الموجة لا تشبه العمليات التي كانت تنطلق من مدن الضفة في ذروة الانتفاضة الثانية، والتي كانت تقف خلفها مجموعات منظمة تمتلك بنية تحتية عسكرية تتحصن داخل المدن التي لم يكن يدخلها الجيش الاسرائيلي بسبب اتفاق أوسلو حتى حملة "السور الواقي" واجتياح الضفة التي قادها رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق أريئيل شارون في أواخر آذار 2002.

تعتمد عملية "كاسر الأمواج"على محاربة عدو خفي، فردي، مباغت، يصعب التنبؤ به، لذا فإنها ستسعى إلى ممارسة ضغط مكثف وشديد وخاطف ومركز، تقوم به قوات خفيفة ومدربة (مستعربون ووحدات نخبة مختارة) ضد أهداف وأشخاص وفئات مرشحة لأن تكون ضمن المنفذين المحتملين لعمليات قادمة.

اعتمدت العمليات العسكرية في "كاسر الأمواج" على الدعاية والاستعراض في جانب كبير منها، حيث تم اقتحام مدينة ومخيم جنين وتنفيذ اعتقالات وخوض اشتباكات مسلحة مع شبان فلسطينيين فيهما في وضح النهار، بهدف إظهار وإبراز عامل الردع وعدم الخشية من المواجهة.

لخص وزير الدفاع الاسرائيلي بيني غانتس والذي يعتبر الشخصية الأقوى في الحكومة الإسرائيلية السياسة الأمنية التي تنتهجها إسرائيل في مقابلة مع موقع "واينت" في الثالث من نيسان الحالي بأنها تقوم على "سياسة مدنية واسعة قدر الإمكان" تتمثل في زيادة عدد العمال الفلسطينيين العاملين في سوق العمل الإسرائيلية والتعبير عن الرغبة في "استمرار اللقاءات مع الرئيس أبو مازن" للحفاظ على التنسيق مع أجهزة أمن السلطة، وكل هذا كان مقصودا به احتواء الموجة، وعدم تزايد ظاهرة العمليات الفردية أو دائرة المؤيدين لها والراغبين في الانضمام إليها ومحاكاة منفذيها.

لخص الصحافي المتخصص في الشأن العسكري في صحيفة "يسرائيل هيوم"، يوآف ليمور، بدوره أهداف هذه السياسة في مقالة له نشرها في31 آذار الماضي، اعتبر فيها بأنها تأتي جراء "الدرس الرئيس الذي يتوجب على أجهزة الأمن الإسرائيلية تعلمه من أحداث أيار الماضي، الحاجة إلى الفصل والتمييز بين الجبهات" بما فيها جبهة الداخل "وعدم الانجرار إلى المعادلة التي تحاول فرضها الفصائل في غزة بالربط بين القدس وغزة والضفة ومناطق الـ48".

اتفق المراسل العسكري لصحيفة "معاريف"، طال ليف رام بدوره مع هذه القراءة وقال إن تقديرات الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تشير إلى أن "التوترات والأحداث الاستثنائية في القدس ستمتد إلى مناطق أخرى إذا ما تواصلت خلال الأيام المقبلة" الأمر الذي يشكل "تحديا كبيرا" للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية التي باتت ترى أن احتمالات التصعيد في غزة ارتفعت في الأيام الماضية" معتبرا أن التصعيد في حال استمراره "قد يدفع الفصائل إلى إطلاق الصواريخ من غزة تجاه المستوطنات الاسرائيلية" وهو ما يبرر السياسة "غير المتشددة" تجاه الجمهور الفلسطيني العريض، خاصة في شهر رمضان.

اعتبر المحلل العسكري لصحيفة "هآرتس"، عاموس هرئيل أن حالة التوتر تسود "كافة الساحات" وأن ما يشجع على اتخاذ سياسات "مدنية" هو أنه "لا يرى زخما فلسطينيا للاحتجاجات والمواجهات مع قوات الاحتلال في عموم الضفة الغربية المحتلة" وأن الفصائل الفلسطينية قد تلتحق تنظيميا "بموجة العمليات الفردية".

لاقت سياسة الإبقاء على التسهيلات التي انتهجها غانتس، وأقرها الكابينيت المصغر، للتعامل مع موجة التصعيد، وخاصة في ظل عدم فرض إغلاق شامل على الضفة الغربية، استخفافا من قوى اليمين وممثليه، عبر عنه عضو الكنيست عن حزب الليكود أوفير أكونيس، حيث اعتبر في مقابلة مع القناة السابعة، أن موقف الحكومة يعبر عن "حالة ضعف فظيعة، وخضوع سيشجع على مواصلة الارهاب" مشدّداً على أن التجربة اثبتت أن "إحناء الرأس أمام الإرهاب يعمل على زيادته لا إخماده".

رأى عضو الكنيست ورئيس حزب الصهيونية الدينية اليميني المتطرف، بتسلئيل سموتريتش، أيضا أن سياسة فصل الساحات، وعدم ممارسة سياسة خانقة ضد الجمهور الفلسطيني والإبقاء على التسهيلات "عوامل ضعف". وقال سموتريتش في مقابلة إذاعية مع الصحافيين بن كسبيت ويانون ميجال إن التساهل الذي تبديه اسرائيل تجاه "موجة العمليات سيكلفها الكثير من الدماء". واعتبر أن "الإرهاب ينبع من تنامي الأمل وليس من اليأس والضائقة"، معتبرا أن هذه الموجة تحتاج في مواجهتها إلى ركيزتين، تكتيكية، يتم التعبير عنها بسلسلة خطوات عقابية رادعة، وحرب لا هوادة فيها، تجعل حياة دائرة المنفذ غير محتملة!

ساحة أم ساحات؟

تحول سياسات إسرائيل العنصرية أراضي 1948 إلى ساحة واحدة، وتمارس سياسة تمييزية ضد غير اليهود، عبرت عنها بشكل متواتر منظمات إسرائيلية وعالمية مرموقة مثل منظمة "بتسيلم" وتقرير المنظمة الدولية التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرا لها "هيومان رايتس ووتش" في العام الماضي، وتقارير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة فضلا عن التقرير اللافت لمنظمة العفو الدولية (أمنستي) في مطلع شباط من العام الحالي، والذي صرحت الأمينة العامة للمنظمة، أنييس كالامار، في مؤتمر صحافي بأنه "يكشف النطاق الفعلي لنظام الفصل العنصري في إسرائيل. وسواء كان الفلسطينيون يعيشون في غزة، أو القدس الشرقية، أو الخليل، أو إسرائيل نفسها، فهم يُعامَلون كجماعة عرقية دونية ويُحرمون من حقوقهم على نحو ممنهج. وقد تبين لنا أن سياسات التفرقة ونزع الملكية والإقصاء القاسية المتبعة في جميع الأراضي الخاضعة لسيطرة إسرائيل تصل بوضوح إلى حد الفصل العنصري. ومن واجب المجتمع الدولي التصرف". وفي هذا الوقت، وكذلك الوقت الذي تقترب فيه ذكرى معركة "سيف القدس"، أو "حارس الأسوار" كما يسميها الجيش الاسرائيلي، بكل الأحداث العنيفة التي تخللتها داخل مدن الخط الأخضر، تضامنا مع ما تتعرض له مدينة القدس، وفي ظل الرد الصاروخي واستهداف المدينة من قبل فصائل المقاومة في غزة، تأتي السياسة الإسرائيلية الحالية لتكرس مبدأ فصل الساحات على اعتبار أن هذه أهم خلاصة خرجت بها منظومة الأمن من المواجهات السابقة.

اعتبر رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي الأسبق، غيورا آيلاند، في مقال نشرته "يديعوت أحرونوت" أن كل هذه الخطوات تكتيكية ومؤقتة ولا تحل جذر الأزمة الكامن في غياب أفق سياسي حقيقي لحل الصراع من جذوره.

اعتبر آيلاند أن المصلحة الإسرائيلية، في ظل هذه الظروف المتوترة، تقتضي "فحص إمكانيات أخرى محتملة لإنهاء الصراع وعدم الانغماس بالإمكانية الوحيدة المعروضة منذ العام 1993 والأمر الثاني، والأكثر واقعية، هو ‘إدارة الصراع’".

إن فصل الساحات بهذه القراءة يعتبر واحدا من فصول إدارة الصراع أو السلام الاقتصادي أو بتعبيرات سابقة أكثر مباشرة سياسة العصا والجزرة، كما عبر عنها رئيس الحكومة نفتالي بينيت نفسه، وهي سياسات سبق أن جربت وقادت إلى نتائج معاكسة تماما بسبب أنها تعمق الصراع وتعقد سبل حلّه وتضعف خيار حل الدولتين وتدمج بين الساحات وتحولها إلى ساحة واحدة.

مجموعة الأزمات الدولية ومشروع الولايات المتحدة والشرق الأوسط للمساعدة على تسوية الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني نشرت هي الأخرى ورقة تقدير موقف اعتبرت فيه أن "عدم اتخاذ خطوات لتقليص الصراع والدفع نحو محادثات سلام جدية، فإن الجهات الفاعلة الدولية تُمكِّن القمع الإسرائيلي، من خلال الصمت شبه التام، وتسمح لإسرائيل بالتصرف دون الخشية من أي عقاب. وفي غياب فعل أكثر حسماً وإعادة تفكير شاملة بالمقاربة الدولية للصراع، يمكن لهذا المسار أن يفضي إلى المزيد من الابتعاد عن حل الدولتين الذي تدعي دعمه، وإلى تآكل حقوق الفلسطينيين وتشجيع تجدد العنف" أو بكلمات اخرى تحويل مساحة فلسطين التاريخية إلى ساحة واحدة.

حتى على المستوى التكتيكي، وفي مواجهة الموجة الحالية، يشكك المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس"، عاموس هرئيل، بقدرة هذه السياسات على احتواء المواقف، لا بل إنه يرصد ما وصفها بـ"إشارات مقلقة" صادرة عن حركة فتح مشيراً إلى "حضور لافت لناشطي الحركة في جنازات الشهداء الذين قتلوا برصاص الجيش الإسرائيلي في مواجهات مختلفة في شمال الضفة المحتلة خلال الفترة الماضية" والأخطر من ذلك، برأيه "المشاركة الاستثنائية لممثل عن حركة فتح في غرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة في قطاع غزة، الأسبوع الماضي".

وبناء عليه، فإن موجة العمليات وسبل التصدي لها تدخلان اسرائيل في أزمة حقيقية مع الفلسطينيين فضلاً عن أنهما تعرضان كل المكاسب التي حققتها من "اتفاقات أبراهام" للخطر، وتوتران علاقاتها مع الأردن.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات