المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
قفزة بينيت: وراء الأكمة ما وراءها!  (أ.ف.ب)
قفزة بينيت: وراء الأكمة ما وراءها! (أ.ف.ب)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1639
  • وليد حباس

بشكل ملح واستثنائي، اجتمع الحزبان المتدينان التابعين للحريديم، شاس (للحريديم الشرقيين بزعامة آرييه درعي) ويهدوت هتوراة (للحريديم الغربيين بزعامة موشيه غفني ويعقوب ليتسمان)، يوم الثلاثاء الموافق 8 حزيران، مع اقتراب تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة. وكانت هناك على طاولة النقاش قضية واحدة اتفق الطرفان على أنها كارثة جديدة حلت بالمجتمع الحريدي، ومن شأنها أن تدنس يهودية إسرائيل وتنهي حالة "الوضع القائم" الذي نجح بالحفاظ على توازن بين الدين والدولة طيلة 73 عاما. باختصار، يرى الحريديم أن الائتلاف الحكومي الجديد "سيلقي بتوراة إسرائيل وقيمها إلى سلة المهملات"، كما يقول ليتسمان (أحد زعماء يهدوت هتوراة). فقضايا حساسة دينيا مثل التهويد، المدارس الدينية، عالم التوراة، قدسية السبت، "حائط المبكى"، وغيرها ستواجه تهديدات عظمى في حكومة مشكلة من "أعداء الدين" من أمثال كل من يائير لبيد، وأفيغدور ليبرمان، ونفتالي بينيت.

ينطوي هذا التوصيف الذي يصور الحكومة الجديدة كـ"شيطان" ملحد، أو كخطر محدق بالعقيدة الدينية، على الكثير من المبالغة سيما وأن تصريحات الحريديم ضد الائتلاف الحكومي مدفوعة بمواقف سياسية مناصرة لبنيامين نتنياهو الذي خلال أكثر من 12 عاماً من تحالفه مع الحريديم منحهم استقلالية عالية وميزانيات ضخمة. ما نود التوقف عنده هنا، ليس ما إذا كانت الحكومة الجديدة ستضر بوضعية الحريديم أم لا، وإنما إصرار الأحزاب الحريدية على وصف بينيت بأنه عدو الدين اليهودي! وفي الواقع، بينيت هو على العكس تماما. إنه رئيس حزب "يمينا"، أحد أقطاب الصهيونية الدينية، بل هو من المواظبين على ارتداء القبعة الدينية (الكيبا) دلالة على تمسكه بالتعاليم التوراتية التي اعتنقها في المدرسة الدينية في بلدة "يبنا"، وهي مدرسة تجمع ما بين دراسة التوراة وتعليم الدولة (البجروت). وبعد ذلك، اعتنق بينيت عقيدة التيار الصهيوني الديني وكان جزءا من "منظمة بني عكيفا". والآن، يأتي الحريديم ليقولوا: "حان الوقت ليخلع القبعة عن رأسه". تعيد هذه الحروب الجانبية التي تظهر بين الحين والآخر، إحياء الخلافات المتعلقة بثنائية الدين والدولة، وهي خلافات لم تحسم منذ قيام دولة إسرائيل وحتى اليوم، لكنها تتمظهر في كل مرة بطابع مختلف وبين أطراف مختلفة.

عند تأسيس الدولة، كانت أغلبية المستوطنين الجدد مؤلفة من علمانيين ويطمحون إلى دولة استعمارية تكون بمثابة أوروبا الصغرى وسط الشرق الأوسط. ومع أنهم "غرفوا" من وعاء الدين اليهودي الكثير من الأسماء التوراتية، والمقولات الخلاصية التي ساهمت في تكوين مفهوم الأمة الإسرائيلية، إلا أن استيطانهم على الأرض كان مدفوعا بمفهوم "الخلاص من" المنفى وليس "الخلاص نحو" نهاية التاريخ التي يحضر فيها المسيح المنقذ. لكن عند تأسيس الدولة، اصطدم المستوطنون العلمانيون بالمستوطنين المتدينين الذين، هم أيضا، كانوا قد وصلوا إلى فلسطين بعد خراب مؤسساتهم الدينية الأرثوذكسية خلال الحرب العالمية الثانية. ولقد وضع ديفيد بن غوريون، باعتباره قائد الييشوف، وأول رئيس وزراء للدولة الجديدة، اتفاق "الوضع القائم" (الستاتوس كو) والذي صاغ شكل الدولة وفق آلية تضمن التوازن ما بين حرية الممارسة للعلمانيين، وبين تزمت الطوائف الأرثوذكسية التي لا تتنازل عن قدسية السبت، وكل ما يتعلق بالأحوال الشخصية من منظور توراتي، بالإضافة إلى دور وموقع وأهمية مؤسسة الرابانوت (الحاخامية) في الدولة. لقد استمر هذا الوضع القائم حتى يومنا هذا، لكنه كان ميدانا للتنافس بين الأحزاب والتي حاولت تغييره. فكلما زاد وزن وتأثير أحد طرفي الخلاف، سواء العلمانيين أو المتدينين، كلما كان الطرف الذي له قاعدة انتخابية أوسع يحاول أن يخلخل الوضع القائم.

لكن هذه التقسيمة التبسيطية (علماني- ديني) لا تعكس حقيقة المجتمع الإسرائيلي كما نعرفه اليوم. مثلا، الصهيونية الدينية (التي ينتمي إليها بينيت) هي تيار قديم أعاد إنتاج نفسه من جديد في السبعينيات من القرن الماضي، ومنذئذ بدأ يتحوّل إلى تيار مركزي وفاعل في السياسة الإسرائيلية. على العكس من الطوائف الأرثوذكسية التي تعكف على دراسة الدين وإعادة إحياء "روح الأمة" بدون الاشتراك بشكل فعال في مؤسسات الدولة والجيش، فإن الصهيونية الدينية تعتبر العمل السياسي والانخراط في مؤسسات الجيش وتكثيف الاستيطان جزءا من الممارسة الدينية. والصهيونية الدينية اليوم هي تيار مركزي صاعد ويقف في منطقة ما وسطية بين الحريدية الأرثوذكسية وما بين الانتماء إلى مؤسسات الدولة والجيش والانخراط فيها. قبل أعوام، عرف بينيت نفسه على أنه حردلي (أي حريدي- قومي)، وبالتالي فهو، مثل باقي أفراد الصهيونية الدينية، يرى أنه ينتمي إلى المجتمع الحريدي. لكن على العكس من الانعزالية والاعتكاف الديني لدى حزبي شاس ويهدوت هتوراة، فإن حريدية بينيت هي قومية ترى في التوسع الاستيطاني، والمشاركة الفاعلة في مؤسسات الدولة والجيش، جزءا من الرسالة الدينية ومن شأنها أن تعجل الخلاص الرباني.

لكن الحردليين التابعين للصهيونية الدينية أيضا منقسمون على أنفسهم. في انتخابات آذار 2019، انشق "البيت اليهودي" (الحزب الذي وحد كل أطياف الصهيونية الدينية) فخرج منه نفتالي بينيت وأييلت شاكيد ليقيما بشكل منفصل حزب "اليمين الجديد". وقد قال بينيت حينها: "من يريد أن يظل حرليا عليه أن يبقى في البيت اليهودي. لكن حزب اليمين الجديد هو شيء مختلف، إنه التيار المركزي في الصهيونية الدينية، ويجمع بداخله الحردلي، والحريدي والعلماني". وهنا يظهر بينيت كزعيم سياسي لتيار الصهيونية الدينية، محافظا على القبعة الدينية، متدينا ويرى بنفسه جزءا من الحريديم (الذين ما يزالون يكرهونه)، لكنه مستعد للعمل بشكل مشترك مع العلمانيين والتقليديين.

وبالفعل، يترأس بينيت حكومة تضم اليسار واليمين، العلماني والمتدين، العربي والصهيوني. لم يكن لهذه التوليفة أن تتبلور لولا أن هناك متسعا في الثيولوجيا الدينية المتزمتة يسمح بتبرير هذه الممارسات. ترى هذه الثيولوجيا أن التواصل مع كل مكونات المجتمع اليهودي، والتعامل معهم سياسيا، هما أيضا جزء من الممارسات الدينية التي من شأنها أن تعجل الخلاص عبر إعادة إحياء روح الأمة الإسرائيلية. هذا التنظير الديني لا يستقيم مع مفاهيم بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير (من الصهيونية الدينية المتشددة) ولا مع الأحزاب الحريدية (التي أصلا ما تزال تحرم الحداثة والتمازج مع الإسرائيليين غير المتزمتين!). والسبب هو أن المتزمتين يخشون "التلوث" من قيم وعادات اليهود غير المتدينين في أثناء الاختلاط معهم، بينما تفسيرات بينيت للدين ترى أن الاختلاط بحد ذاته هو قيمة عليا.

في النهاية، يبدو أن المستقبل هو في صالح حزب بينيت لعدة أسباب: أولا، هناك ظاهرة صاعدة داخل المجتمع الحريدي تتمثل في التسرّب من المدارس الدينية، وتوق جيل الشباب الحريدي إلى الانخراط التدريجي في مؤسسات الدولة وجيشها على العكس مما تريده هيئة الحاخامات الحريدية. من هنا، قد تشكل تجربة بينيت إلهاما لهم، ومصدر استقطاب في المستقبل. ثانيا، تديّن بينيت لا يمنعه من الانفتاح على القيم الحداثية كالمساواة ما بين الرجل والمرأة. فعلى العكس من الحريديم وقائمة الصهيونية الدينية، فإن بينيت يدعم تجنيد المرأة. ومع ذلك، استطاع بينيت أن يترأس حكومة ليست يسارية أو وسطية، لكنها أيضا ليست يمينية بحتة، واستطاع الحفاظ على قاعدته الانتخابية من خلال عدم تقويض مشروع الاستيطان في الضفة الغربية.

ضمن هذا السياق الذي يعتبر فيه بينيت بديلا عن أزمة الانغلاق الحريدي من جهة، وبديلا أيضا عن التطرف المبالغ فيه لدى قائمة سموتريتش، فإن هجوم الحريديم عليه ودعوته إلى "إنزال القبعة" يمكن أن تفهم الآن. وبالعودة إلى مسألة ما إذا كان بينيت "سيلقي بتوراة إسرائيل وقيمها إلى سلة المهملات"، فإن الكشف عن اتفاقيات الائتلاف تدعو جميع المتدينين إلى تنفس الصعداء، لأن بينيت لم يتراجع بالفعل عن الستاتوس كفو، إنما سيجلب بعض التعديلات التي لا يجب النظر إليها على أنها مجرّد ثمن سيدفعه لتحالفه مع اليسار والعلمانيين وغيرهم وإنما هو جزء من عقيدة دينية تطرح نفسها كبديل عن الحريدية في المستقبل القريب.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات