المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
تنمر المستوطنين: مشهد من قرية قصرة جنوب نابلس. (أ.ف.ب)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1385
  • عصمت منصور

لطالما كان العنف ظاهرة ملازمة للاحتلال الإسرائيلي منذ بداية عهده، وسمة من السمات اللصيقة به وأحد تعبيراته، إلا أنه ورغم كثافته، والشكل الممنهج الذي يتم استخدامه به واللجوء إليه على مدى عقود من عمر الاحتلال، يبقى ظاهرة منبوذة ظاهريا، ووصمة يحاول المجتمع الإسرائيلي ومنظومته السياسية والقضائية التنصل منها وتبريرها وتصويرها على أنها تأتي في سياق الأساليب الدفاعية التي تمارس بشكل (معقول) بعد استنفاد كافة الوسائل الأخرى في مواجهة "الإرهاب" الفلسطيني.

الرواية الرسمية التي تروجها إسرائيل في العالم، حول العنف الفردي والجماعي الذي يمارسه جيشها ومنظوماتها الأمنية المختلفة والجماعات الاستيطانية ضد الفلسطينيين، تجهد لأن تكون منسقة ومتماسكة ومعززة بشواهد انتقائية، حيث تتكاتف الأذرع المختلفة في الترويج لها داخليا وخارجيا، لكن هذه الرواية بدأت تتآكل بشكل متسارع على ضوء اتساع نفوذ وقوة وحضور جمعيات ومنظمات يمينية متطرفة وعنيفة لا تبذل أي جهد في التستر على هويتها وطبيعتها الفاشية وتبنيها للوسائل العنيفة بشكل علني (خارج إطار القانون) بهدف الانتقام والردع وبدوافع عنصرية.

تبرز من بين هذه الجماعات في العقدين الأخيرين منظمة "حونينو" المتطرفة، التي وإن كانت لا تمارس العنف بشكل مباشر (بالرغم من ماضي القائمين عليها العريق في العنف) كما تفعل جماعات مثل "تدفيع الثمن" و"شبيبة التلال" وغيرها، إلا أنها أخذت على عاتقها مهمة الدفاع عن هذه الجماعات وأفرادها وتحولت إلى الذراع القانونية لها كما وصفها موقع "يديعوت أحرونوت".

واسم المنظمة مشتق من آية في أحد أسفار المزامير، تدعو الرب إلى الرحمة.

الخلفية والتأسيس

تعرف المنظمة نفسها على موقعها الإلكتروني بلغة مثيرة للعواطف، حيث تستهل تقديمها لنفسها وتبرير وجودها بمقاطع من رسالة/ وصية والدة أحد الجنود الذين قتلوا في عملية عسكرية على حاجز عسكري قرب قرية عين عريك المحاذية لمدينة رام الله إبان الانتفاضة الثانية، توصيه فيها أن يحافظ على نفسه بأن "يسمح لنفسه (أو هي تسمح له) بأن يطلق النار حتى لو خالف في هذا الأوامر العسكرية الخاصة بالحالات المسموح فيها بإطلاق النار" لأن حياته أهم من قتل أي شخص آخر من بين صفوف الاعداء.
فلسفة المنظمة التي تقدم نفسها على أنها منظمة غير حكومية وجزء من المجتمع المدني الاسرائيلي والتي يقتصر عملها على الدفاع عن اليهود "وحلفائهم فقط"، قائمة بكليتها على هذا المقطع من الرسالة التي بقيت كلماتها يتيمة ومهملة إلى أن جاءت هذه المنظمة وحولتها إلى دعوة "لإصلاح روح" المجتمع الاسرائيلي وباتت تساق كمسوغ لتبرير اللجوء إلى العنف، طالما أن المستهدف غير يهودي.

المنظمة إذ تشجع على هذا السلوك، اعتبرت أن وظيفتها الأساسية منذ تأسيسها في العام 2001 هي "الدفاع عن الجنود والمدنيين اليهود الذين يحاكمون أو يتم إيقافهم لأسباب لها علاقة بالوضع الأمني".

الوضع الأمني الذي يدور الحديث عنه وتجري من خلاله محاولة تمييع الصبغة العدوانية العنصرية التي تتبناها المنظمة، يمكن التعرف عليه من خلال سيرة المنظمة والحالات التي تمثلها من جهة، ومن خلال التصنيف الواضح الذي تقوم به بين الإرهاب (المقتصر على الفلسطينيين حصرا) وبين ردة الفعل الانتقامية النابعة من عجز الدولة والإحباط الذي يقابله على شكل عمليات قتل أو انتقام، ومن خلال الأمثلة التي تستشهد بها وتعتبرها النموذج المثالي الذي تناضل من أجل تبنيه في دوائر الجيش والنيابة وصناع القرار في إسرائيل من جهة أخرى.

مؤسس منظمة "حونينو"، شموئيل ميداد، يعتبر أن مساهمته الشخصية ما قبل تأسيس المنظمة تعد جزءا من تاريخ "حونينو" وإرثها، وأنها امتداد للحملات التي قام بها لإطلاق سراح أعضاء التنظيم السري اليهودي الذي يصنف على أنه تنظيم إرهابي تشكل في العام 1979 ونفذ عمليات إرهابية شهيرة مثل تفجير سيارات رؤساء بلديات الضفة في الثمانينيات ومؤامرة تفجير قبة الصخرة والهجوم على الجامعة الإسلامية في الخليل، وخلية الإخوة كهلاني من كريات أربع التي حاولت قتل شاب عربي في بداية التسعينيات.

الروح التي يذكرها ميداد في تعريف منظمته لنفسها على موقعها الرسمي ويريد للمجتمع الإسرائيلي تمثلها والتماهي معها، تتجسد في نماذج مثل الوحدة 101 وهي وحدة الكوماندوز الإسرائيلية التي أسسها أريئيل شارون في العام 1953 للرد والانتقام على العمليات الفدائية التي تستهدف الإسرائيليين وكانت أبرز عملياتها التي نفذتها خارج حدود اسرائيل في نفس العام الذي تأسست به، هي مجزرة قبية التي قتلت فيها الوحدة 60 مدنيا فلسطينيا من أهالي القرية الآمنة وقامت بهدم ما لا يقل عن 45 منزلا.

خريج آخر وأحد مؤسسي الوحدة 101 يعتبر الرمز المثالي الآخر الذي يجسد النموذج الذي تريد منظمة "حونينو" تعميمه هو مئير هار تسيون الذي قاد عملية انتقامية ضد تجمعات عرب العزازمة والجهالين البدوية في العام 1955 ردا على مقتل شقيقته وصديقها. هارتسيون نفذ العملية بروحية وطريقة العصابات الصهيونية عشية النكبة التي تعتبر ذكرى مجازرها ما زالت طازجة، حيث اختطف خمسة من أبناء القبيلتين، قتل أربعة بالسكاكين مع التمثيل بجثثهم وترك الخامس ليفر إلى قبيلته ليخبرها بما شاهده من فظائع والسبب الذي قتل أبناؤها من أجله ليعتبروا ويرتدعوا. وهارتسيون لم يسجن رغم أن الجريمة التي ارتكبها أثارت جدلا واسعا، حيث قرر موشيه دايان رئيس هيئة الأركان في تلك الفترة ووزير الدفاع ديفيد بن غوريون عدم محاكمته "لعدم كفاية الأدلة" وبدل ذلك نال وسام الشجاعة مرتين في العام 1955 والعام 1973.

نشاط منظمة "حونينو"

الروح العنيفة القائمة على الإرهاب وغريزة الانتقام التي تستلهمها منظمة "حونينو" من الأعمال التي تخلدها في برنامجها وهويتها التي تعرف بها نفسها، تتجسد بشكل عملي في نشاطها والدور الذي أخذت على عاتقها تأديته في سياق تمثيل والدفاع عن وتمويل الجنود والمستوطنين الذين يجدون أنفسهم متهمين بسبب أعمال نفذوها ضد عرب وفلسطينيين إما بشكل مباشر أثناء المواجهة وتأدية الخدمة العسكرية أو على شكل رد فعل نابع "من الإحباط وعجز الدولة والرغبة في الانتقام".

أول الملفات التي تولت المنظمة الدفاع عنها ونظمت حملات رأي عام لصالحها كانت في الدفاع عن أربعة جنود من حرس الحدود نفذوا عملية انتقام في مدينة الخليل ردا على مقتل أحد زملائهم، ثم تلتها خلية "بت عاين" التي نفذت عمليات انتقام وزرع عبوات أمام مدرسة في الطور في العام 2002 وصولا إلى قتلة الطفل محمد أبو خضير، ومنفذي عملية حرق عائلة دوابشة والجندي إليئور أزاريا قاتل الشهيد الشريف في الخليل، وعشرات الحالات التي يتم ملاحقتها واعتقالها من منفذي عمليات "تدفيع الثمن" و"شبيبة التلال" مثل قتلة الشهيدة عائشة الرابي في حوارة قرب نابلس.

كل هذه النماذج تعتبر في نظر منظمة "حونينو" ومديرها أبطالا وليسوا مجرمين، لأن "العمل لا يجب أن يفصل عن 100 عام من الصراع" وفق تعبيرهما، ولا الظروف التي قادت اليه.

التمويل وتورط الحكومة الاسرائيلية

عمليات الدفاع عن المتهمين أمام المحاكم، وتنظيم حملات دعائية، ورفع عرائض وجمع تواقيع للإفراج عن المعتقلين اليهود على خلفية أمنية/ إرهابية، هي الجزء العلني والظاهر لنشاط هذه المنظمة الذي تتباهى به.

الجزء الأقل علنية هو المتعلق بنشاطها المالي، حيث كشف تقرير نشرته القناة التلفزيونية العاشرة (القناة 13 حالياً) في العام 2015 عن أن منظمة "حونينو" قدمت منحا مالية مباشرة بحوالي 200 ألف شيكل لمعتقلين يهود أدينوا بعمليات إرهابية ضد فلسطينيين على خلفية أمنية قومية، وبدوافع عنصرية، مثل عامي بوبر المعتقل على خلفية قتل سبعة فلسطينيين وإصابة أحد عشر ببندقيته في ريشون لتسيون إبان الانتفاضة الأولى، كما تلقت زوجته مساعدات مالية من المنظمة تحت عنوان "مساعدات معيشية".

القناة كشفت أسماء أخرى تلقت مساعدات مالية مثل يوسف حاييم بن دافيد، المحكوم بالمؤبد و20 عاما لقيادته الخلية التي أعدمت الطفل محمد أبو خضير، بالإضافة إلى مئير إتينغر، الذي يعتبر أحد أخطر الشخصيات الخاضعة للمراقبة من قبل القسم اليهودي في جهاز "الشاباك"، وأيضا يعقوب سيلع، وهو جندي أدين بنقل معلومات أثناء خدمته في الجيش لمجموعات إرهابية يهودية، وأيضا جاك تايتل المدان بقتل فلسطينيين اثنين في نهاية التسعينيات وبمحاولتي قتل.

تمويل المنظمة يتم من خلال جمع التبرعات من قبل منظمات وجماعات يهودية في إسرائيل والعالم، إلا أن مساهمة الحكومة الإسرائيلية تكمن فيما كشفت عنه القناة العاشرة من أنها تحظى بإعفاء ضريبي من قبل الحكومة على الأموال والتبرعات التي تصلها.

هذا الكشف دفع عضو الكنيست في "المعسكر الصهيوني" (تحالف حزبي العمل والحركة سابقا) مانويل ترختنبرغ إلى الطلب من وزير المالية موشيه كحلون في العام 2015 وقف هذه التسهيلات خاصة بعد الكشف عن أنها جندت أموالا لصالح يغئال عمير، قاتل رئيس الحكومة الأسبق إسحاق رابين.

وتثير نشاطات المنظمة قلقا متزايدا في أوساط أجهزة الأمن الإسرائيلية ولدى قيادة الجيش على ضوء تزايد نشاطها في أوساط الجنود حيث قامت بتوزيع عشرين ألف منشور داخل معسكرات الجيش مع أرقام هاتف خاص بها ودعوة للجوء إليها إبان حملة "لجرف الصامد" على قطاع غزة في العام 2014.
وكشف موقع "واللا" الإخباري في العام 2015 عن أن عشرات الجنود المتهمين بمخالفات ضد الفلسطينيين تتعلق بأوامر إطلاق النار وجدوا في المنظمة عنوانا لهم بديلا عن النيابة العسكرية والأطر التابعة للجيش والتي تهتم بمتابعة هذا النوع من القضايا ما يجعلها تشكل جسما موازيا لها.

التقرير أشار إلى أن هذا التوجه أصبح ظاهرة تقلق قادة الجيش خاصة على ضوء الشعار الذي تحمله حملات المنظمة تحت عنوان " الجيش لن يحميني" وهو ما يهدد روح الانضباط في أوساط الجنود وأفراد الشرطة وحرس الحدود.

لا يكاد يمر أسبوع دون أن تنشر وسائل الإعلام الإسرائيلية خبرا أو تقريرا عن منظمة "حونينو" ونشاطها، وهو ما يسير بالتوازي مع تعاظم قوة وحضور اليمين الفاشي الاستيطاني وأفكاره ومؤسساته في المجتمع الإسرائيلي وقوته الآخذة في التعاظم في مفاصل الدولة والجيش ومنظومة إنفاذ القانون، وصدور أحكام قضائية تشكل أرضية خصبة لنمو هذه الجماعات ومرجعياتها كما حدث في فتوى الحاخام شموئيل إلياهو، حاخام صفد، التي نصت على أن "كل من يرفع يده على يهودي يجب قتله، ويجب الانتقام منه، حتى لو أنه لم يقتل، بل فقط ضرب أو أراد أن يقتل" حيث اعتبرت محكمة الاستئناف بشأن تلك الفتوى، أنها تقع في حدود "حرية تعبير الحاخامية" المشروعة، وهي تأتي من منظور ديني قومي .

المحلل السياسي تسفي برئيل قال في صحيفة "هآرتس" تعقيبا على هذه الفتوى إنها تذكر بتصريح الحاخام إلياهو وقرار حكم الحاخام إسحاق يوسف الذي قرر في 2016 بأنه "يجب إطلاق النار على كل من أسماهم (مخربين) من أجل قتله، ولا يهم ماذا تقول المحكمة العليا"، وتذكر أيضا بما قاله وزير الأمن الداخلي السابق، إسحاق أهرونوفيتش، بأن "(المخرب) الذي يمس بالمدنيين حكمه هو القتل"، وبأقوال الوزير في حينه نفتالي بينيت في 2013 بأنه "إذا تم إلقاء القبض على (مخربين) فيجب ببساطة قتلهم"!.

 

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات