المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1325
  • برهوم جرايسي

تزايد الحديث في الأيام الأخيرة عن أن بنيامين نتنياهو يعتزم افتعال أزمة حول مشروع ميزانية الدولة، كي لا يقرها الكنيست حتى الـ 25 من آب المقبل، ليتم حل الحكومة تلقائيا، والتوجه لانتخابات برلمانية مبكرة رابعة، تجري في نهاية تشرين الثاني المقبل. والدافع الأقوى الذي يدور الحديث عنه في كواليس السياسة الإسرائيلية، هو تخوف نتنياهو من صدور قرار قضائي حتى نهاية العام الجاري، يفرض عليه تجميد صلاحياته، بسبب مسار محاكمته المكثف الذي سينطلق في الشهر الأول من العام المقبل.

وكانت المحكمة قد أقرت قبل أيام برنامج عملها في محاكمة نتنياهو في قضايا الفساد الثلاث. إذ ستعقد ثلاث جلسات أسبوعيا، من الاثنين وحتى الأربعاء، ابتداء من الشهر الأول من العام المقبل، للاستماع لشهود الادعاء. وبما أن الحديث عن أعداد كبيرة جدا من الشهود، وبينهم شهود مركزيون، شهاداتهم طويلة، فإن الحديث يدور عن أسابيع عديدة لهذا المسار القضائي. وهنا يصبح من المنطق أن تتوجه جهات ما إلى المحكمة العليا، بطلب أن تفرض على نتنياهو تجميد صلاحياته ومنصبه، لأن انشغاله في المحكمة في ثلاثة أيام مركزية في الأسبوع ولأسابيع طويلة، سيمنعه من التفرغ لمزاولة عمله الحساس.

وورد ذكر سيناريو تجميد الصلاحيات كاحتمال، في اتفاقية الائتلاف الحكومي بين الليكود وحزب أزرق أبيض. وجاء في الاتفاقية أنه في حالة كهذه، فإن الصلاحيات ستنقل فورا إلى ما سُميّ بـ "رئيس الحكومة البديل"، بيني غانتس، على أن تعود الصلاحيات لنتنياهو حينما ينتهي مفعول القرار القضائي.

وحسب ما ينتشر من أحاديث، فإن نتنياهو لا يريد نقل الصلاحيات لغانتس، خوفا من أن يفقد السيطرة على زمام الأمور، التي يطمح للاستمرار بالإمساك بخيوطها من وراء الكواليس. ولهذا فهو يعتقد أن حل الحكومة والتوجه إلى انتخابات مبكرة جديدة، سيغير موازين القوى بحيث تكون تركيبة الائتلاف كلها من اليمين الاستيطاني المتطرف. وفي حالة تجميد الصلاحيات، فإن نتنياهو سيختار شخصية "مؤتمنة" نوعا ما من ناحيته، لتسلميه الصلاحيات، على أن يستمر في الإمساك بالخيوط، في الوقت الذي يكون فيه بعيدا، ظاهريا، عن دائرة القرار.

وتنص اتفاقية الائتلاف الحاكم على أن تقر الحكومة والكنيست موازنتي العامين الجاري والمقبل معا في هذا العام. والقانون يفرض على الحكومة أن تنجز الموازنة المستحقة، على الأقل، وهي لهذا العام، حتى ثلاثة أشهر من يوم بدء عملها رسميا، بمعنى الـ 25 من آب المقبل. إلا أن نتنياهو انقلب على الاتفاق ويريد إقرار ميزانية العام الجاري فقط، الذي سيكون قد شارف على الانتهاء، عند إقرار الميزانية، وتأجيل ميزانية العام المقبل 2021، لتقر حتى نهاية آذار المقبل، وبنيّة اختلاق مشكلة، وعدم إقرارها، ليتم حل الحكومة قبل الوصول إلى موعد استحقاق تسليم غانتس منصب رئاسة الحكومة يوم 21 تشرين الأول من العام المقبل.

منذ اليوم الأول لظهور اتفاقية الائتلاف، وحتى قبل إقرارها في الكنيست، كانت تقريبا وحدة حال لدى المحللين والمراقبين، بأن نتنياهو لن يلتزم بالاتفاقية، برغم تعهدات كتلتي المتدينين المتزمتين الحريديم: شاس ويهدوت هتوراة لبيني غانتس بحماية الاتفاقية وضمان تطبيقها. ويوم الأربعاء الماضي، نشأت ظروف تسمح لكتلتي الحريديم بالتخلي عن ذلك التعهد، بعد أن أيدت كتلة أزرق أبيض مشروع قانون قدمته كتلة ميرتس ويمنع فرض "العلاج النفسي بالإكراه" على من أراد التحول الجنسي من المثليين. فهذا القانون أقرته الهيئة العامة بالقراءة التمهيدية، ولكن لا احتمال لنقله إلى مراحل تشريع متقدمة، غير أن دعم كتلة أزرق أبيض للقانون أساء لعلاقتها بكتلتي الحريديم. وفي هذا السياق نذكر أنه على الرغم من الأزمة التي نشأت بين كتلتي أزرق أبيض وكتلتي الحريديم، إلا أن الأخيرتين ليستا معنيتين بحل الحكومة، والذهاب لانتخابات مبكرة، في الوقت الذي فيه انتشار الفيروس بين جمهورهما هو الأعلى جدا من دون منافس، وبأضعاف نسبة انتشاره بين الجمهور العام.

انتخابات في ظل أزمتين صحية واقتصادية

بعد عرض الغموض بشأن مصير استمرار نتنياهو في منصبه، فإن الغموض سيكون أشدّ في الأزمتين الصحية والاقتصادية التي تواجههما إسرائيل في هذه الأيام. فاتخاذ قرار في بحر الشهر المقبل، للتوجه إلى انتخابات تجري بعد ثلاثة أو أربعة أشهر، سيكون مجازفة كبيرة على مستوى الأزمة الصحية.

فقد اندلعت الموجة الثانية من انتشار فيروس الكورونا في مطلع شهر حزيران، رغم أن التقديرات كانت تتحدث عن أنها ستندلع في شهر أيلول المقبل، وما أن انهارت إحصائيات الانتشار وبدا وكأن إسرائيل تخرج من الأزمة الصحية، حتى بدأت الإحصائيات بالارتفاع. ففي حين هبط عدد المرضى الفعالين في 24 أيار المقبل إلى 1914 شخصا، وعدد المرضى بوضع صعب هبط إلى أقل من 50 مريضا، فإن عدد المرضى الحاليين، حتى مطلع الأسبوع الجاري، الأحد 26 تموز، تجاوز 34 ألف مريض، وعدد الموتى قفز من 290 شخصا إلى حوالي 450 شخصا. إلا أن الذين هم في حالة صعبة حوالي 310 مرضى.

وفي هذه النقطة بالذات نقول إن من يقرر التوجه إلى انتخابات في نهاية آب، لن يعرف ما سيكون عليه الوضع الصحي بعد ثلاثة أشهر، وفي يوم الانتخابات تحديدا، وهناك احتمال بأن تكون الجائحة بحجم يستدعي فرض إغلاقات. فكيف من الممكن حينها دعوة الناس، كل الناس، للتدفق على صناديق الاقتراع؟ ولا يلوح في الأفق أي مؤشر للجم الارتفاع المتواصل حاليا في أعداد المرضى، في حين أن الخبراء باتوا يتحدثون عن اندلاع موجة ثالثة في الخريف المقبل؟ وطالما لم يُقر تطعيم حقيقي لهذا الوباء، فلا حدود لهذه الدوامة الصحية، التي باتت تُنهك مجتمعات العالم، صحيا واجتماعيا، وفوق كل هذا اقتصاديا. وهذه هي الزاوية الثالثة الأخطر على نتنياهو، فحتى الآن تتصاعد الاحتجاجات في شوارع إسرائيل، على الأوضاع الاقتصادية، وخصوصا في تل أبيب والقدس الغربية. ولكن كي نضع الأمور في نصابها، تجدر الإشارة إلى أن أعداد المشاركين في المظاهرات في القدس الغربية خصوصا وتل أبيب، هي بالآلاف، وليست من المستوى التي تهدد نتنياهو سياسيا، رغم أنها صاخبة وتتخللها مواجهات واعتقالات.

قد يكون الوضع الصحي عائقا أمام مشاركة أعداد أضخم، تصل إلى عشرات الآلاف، أو مئات الآلاف، كمظاهرات صيف العام 2011. ولكن بحسب استطلاعات الرأي، فإن نتنياهو وحزبه لا ينهاران فيما لو جرت الانتخابات الآن.

وفي الواقع فإن إسرائيل تغوص في أزمة اقتصادية جدية، وهذا ما تدل عليه المؤشرات الاقتصادية. وأبرزها صدر في الأسبوع الماضي، إذ قالت إحدى شركات الأبحاث الاقتصادية، بالتعاون مع صحيفة "كالكاليست" الاقتصادية، إن الاستهلاك الفردي انهار في الربع الثاني من العام الجاري، بنسبة 50%. وإن العامل المؤثر الأكبر في هذا التراجع غير المسبوق هو تراجع القوة الشرائية، إذ إنه في أوج الإغلاق كان 1,2 مليون شخص معطّلين عن العمل، و22% منهم من دون مخصصات، والباقي حصلوا على مخصصات تقل بما بين 60% إلى 30% من رواتبهم الأصلية. كذلك فإن التخبط في معطيات البطالة متواصل، ففي أسبوع واحد قرأنا تقريرين، الأول يتحدث عن بطالة في حدود 18%، وآخر يتحدث عن 10,5% في نهاية حزيران.

بموازاة ذلك، اندلعت نضالات نقابية، سارع نتنياهو، على غير عادة، لإصدار أوامر للإسراع في التوصل إلى اتفاقيات، مثل نقابة الممرضات والممرضين، التي حصلت على مطالبها في غضون 24 ساعة، منذ أن بدأ إضرابها في الأسبوع الماضي، وهي زيادة الملاكات لتخفيف الضغط. وبعدها نقابة العاملين الاجتماعيين، التي استمر إضرابها 17 يوما، حتى حصلت على علاوات وزيادة ملاكات. ولكن ليس هؤلاء وحدهم، فأصحاب المطاعم ومرافق الطعام ينضمون إلى المظاهرات، ومعهم "المستقلون" من الحرفيين والمهنيين، أصحاب المصالح الصغيرة. وحالة الغليان تتفاقم لدى شرائح أخرى.

أمام كل هذا، تظهر حالة الارتباك لدى نتنياهو، كونه يُصر على الإمساك بكافة خيوط مواجهة الأزمتين، وهذا ينعكس في سرعة اتخاذ القرارات والتراجع عنها، مثل مسألة الإغلاقات وغيرها. وفي الأسبوع الماضي، أقر الكنيست قانونا بادرت له الحكومة، ينقل فيه الكنيست صلاحياته للحكومة تحت غطاء مواجهة أزمة كورونا، ولكن القانون يمنح الحكومة صلاحيات واسعة، حتى في استخدام أنظمة الطوارئ دون الرجوع إلى الكنيست.

دخلت إسرائيل الأزمتين الصحيّة والاقتصادية في ظل معطيات اقتصادية "إيجابية"، حسب وجهة نظر خبراء الاقتصاد والمؤسسات الرسمية وحتى العالمية، فالبطالة كانت في حدود 3,8%، ومعدل النمو الاقتصادي حوالي 3,5%، وحجم الدين العام يشكل نسبة 60% من حجم الناتج العام، وهي نسبة تعد "نموذجية" عالميا. وفقط العجز في الموازنة العامة كان 3,4%. ولكن الآن، ولنقل حتى الآن، فإن كل هذه المعطيات انقلبت رأسا على عقب. فالبطالة كما سبق ذكره هنا، لا أحد يعرف نسبتها الحقيقية، بين 10,5% وحتى 18%. ولم يعد أحد يتحدث عن نسبة العجز في الموازنة العامة، فبنك إسرائيل المركزي يتوقع أن يقفز إلى 12%، وحجم الدين العام قد يقفز إلى نسبة 75% من حجم الناتج العام. والآن هناك من يقول إن الأزمة الاقتصادية ستتعمق، وفي حال استمرت الأزمة الصحيّة، أو تراجعت وتبعتها موجة ثالثة، فإن الأوضاع الاقتصادية ستتعمق أكثر، وهذا ما سيقع على كاهل الجمهور. وكل هذا يعني أن نتنياهو، في حال قرر التوجه إلى انتخابات مبكرة، سيجد نفسه يغوص في أزمتين خطيرتين جدا، قد تؤثران على مصيره.

لا بديل وتحديات سياسية والضم

العامل الأقوى الذي يساعد نتنياهو في مواجهة كل هذا، هو غياب بديل له على الساحة السياسية، بديل بمستوى شخصية قادرة على قيادة الحكومة المقبلة. فنتنياهو نجح في صد ظهور أي بديل له في حزبه الليكود، وخاض مناورات بعد انتخابات آذار الماضي، قادت إلى تفتت التحالفات والكتل البرلمانية، ليشكل فيها حكومته الحالية.

وكانت الضربة القاصمة كانت لتحالف أزرق أبيض بتشكيلته السابقة، الذي كانت قوته البرلمانية، ككتلة، تنافس كتلة الليكود، ولكن للأخير تحالف برلماني أقوى بما لا يقاس، وهذا ما زال قائما. ومن الصعب جدا رؤية إعادة بناء تحالف أزرق أبيض من جديد، ليعود إلى صيغته السابقة، بعد كل ما حصل في الأشهر الأربعة الأخيرة. ونشير هنا إلى أن استطلاعات الرأي تظهر أن الكتلتين الأكبر اللتين تشكلتا بعد الانشقاق، تحصلان معا على ما بين 28 إلى 30 مقعدا، مقابل 33 مقعدا في انتخابات آذار.

وعلى الرغم من ذلك، فإن نتنياهو تنتظره تحديات سياسية، بالذات في معسكر اليمين الاستيطاني.. فقيادة نتنياهو لليكود نجحت في العقد الأخير في التوغل في المعسكر اليميني الاستيطاني، وأيضا في معسكر التيار الديني الصهيوني، وهذا ما أضعف الأحزاب المباشرة للتيار الديني الصهيوني، ووصلت إلى حضيض في تمثيلها البرلماني في انتخابات آذار الماضي. إلا أن نتنياهو في تشكيلة حكومته الحالية استبعد الحليف السياسي الأقوى من ناحية سياسية يمينية استيطانية، كتلة "يمينا"، لا بل وعمل على شقها. وفي المقابل، وحتى اللحظة، فإن مخطط فرض ما تسمى "السيادة الإسرائيلية" على المستوطنات ومناطق شاسعة في الضفة المحتلة لم يخرج إلى حيز التنفيذ، على الرغم من أن نتنياهو أعلن أنه سيبدأ بتطبيق المخطط في الأول من تموز.

ومن ناحية اليمين الاستيطاني وقيادة المستوطنين، فإنهم يعتبرون هذه المرحلة هي "الفرصة الذهبية" لتطبيق المخطط، قبل الانتخابات الأميركية. وهذا يتعزز على ضوء نتائج الاستطلاعات في الولايات المتحدة الأميركية التي تتنبأ خسارة دونالد ترامب وفريقه الرئاسة الأميركية. وهذا يزيد القلق لدى قيادات المستوطنين، على الرغم من أن احتمال فوز ترامب ما زال قائما. ولذا بدأنا نرى استطلاعات الرأي تزيد قوة تحالف "يمينا" بشكل كبير، وبالإمكان القول زيادة بحجم غير منطقي في هذه المرحلة، من 6 مقاعد في انتخابات آذار، إلى ما بين 13 وحتى 15 مقعدا، مقابل تراجع قوة الليكود من 36 مقعدا في انتخابات آذار، إلى 33 وحتى 30 مقعدا.

وكما يبدو فإن نتنياهو يتخبط في هذه القضية: عدم وضوح الموقف في الولايات المتحدة الأميركية، من ناحية، ومن ناحية أخرى حاجة نتنياهو للإمساك بورقة سياسية مستعجلة، إذا ما قرر بالفعل حل الحكومة والتوجه إلى انتخابات مبكرة، وقد يكون هذا على شاكلة اتخاذ قرار حكومي سريع لفرض ما تسمى "السيادة الإسرائيلية" ولو على جزء من الكتل الاستيطانية.

ساعة الرمل مضبوطة الآن على يوم 25 آب، وهو الموعد الأخير لإقرار ولو ميزانية للعام الجاري، وهي تنقص مع مرور كل يوم، ولذا فإن القرارات قد تتخذ بشكل مفاجئ تحت الضغوط الشخصية والسياسية العالق نتنياهو فيها شخصيا، كونه يظهر دائما كمن يصارع على استمرار حكمه بأي ثمن.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات