المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
×

تحذير

JFolder: :حذف: غير قادر على حذف المجلد. المسار: [ROOT]/administrator/cache/com_content

  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 894

قال البروفسور مناحيم كلاين إن أي حلّ للمواجهة الإسرائيلية- الفلسطينية سوف يجرّ تمرداً مسلحاً ضد الحكومة الشرعية، بل حتى سيجر حرباً أهلية بمدى معيّن.

وكلاين كان أحد واضعي "مبادرة جنيف"، وهو أستاذ جامعي متخصص في تاريخ القدس مع التشديد على العلاقات اليومية بين العرب واليهود فيها. ووردت أقواله هذه في سياق مقالة نشرها أخيراً في الملحق الأسبوعي لصحيفة "هآرتس"، وفيما يلي ترجمة لأهم ما ورد فيها:

إن النقاش المتواصل بين مؤيدي حل الدولتين وبين أنصار الدولة الواحدة هو نقاش حول الهدف: هل أحدهما حل مثالي أم واقعي فقط، وكيف سيبدو هذا الحل؟.

في ثمانينيات وتسعينيات القرن الفائت كان الجواب على هذين السؤالين واضحاً. حل الدولتين يحظى بدعم دولي، وإلى حد ما بدعم غالبية الإسرائيليين والفلسطينيين، والسبيل للوصول إليه هو بواسطة مفاوضات مباشرة بين الطرفين. ترتكز هذه المفاوضات على حدود 4 حزيران 1967 مع تبادل أراضٍ. وعلى النقيض من الإجماع الدولي، فإن "صفقة القرن" لصاحبها ترامب تسعى إلى فرض مخطط آخر، مفصّل وفقاً لمقاس اليمين الإسرائيلي. إن فشل المفاوضات التي أطلقها اتفاق أوسلو، وتوسيع المستوطنات خلال المفاوضات ومنذ العام 2000، زاد لدى الجمهورين الإسرائيلي والفلسطيني من أسهم حل الدولة الواحدة. وتطورت في إسرائيل رؤية مفادها غياب الحل وضرورة إدارة الصراع.

لكن حتى لو كان الجدل حول الهدف مهماً، فإن المتناقشين يتجاهلون السؤال بشأن السبيل للوصول إليه. ليس المقصود إن كان السبيل فقط بواسطة "عملية سياسية" أو فرض حلّ من قبل المنظومة الدولية. ولا أقصد أيضاً سؤال ما إذا كانت حركة BDS هي وسيلة ناجعة لدفع الحل. مناقشة هذه المسائل تفترض أنه لو لم يكن الطرفان قادرين على جسر الفجوة بين مواقفهما خلال المفاوضات، فإن المنظومة الدولية سوف تجبرهما على فعل ذلك. مع ذلك، يجب طرح السؤال عما إذا كان المجتمعان سيقبلان بالحل الذي يتوصل إليه قادتهما، سواء توصلوا إليه بقواهم الذاتية أو وافقوا على قبوله تحت ضغط دولي كبير. ومع أن الاتفاق أو الضغط الدولي لا يلوحان حالياً في الأفق فمن الجدير التفكير في هذا السؤال؛ لأنه سوف يصبح راهناً في مرحلة قادمة.

أريد طرح الفرضية التالية: كل حلّ للمواجهة الإسرائيلية- الفلسطينية سوف يجرّ تمرداً مسلحاً ضد الحكومة الشرعية، بل حتى سيجر حرباً أهلية بمدى معيّن. لست من حملة لواء الحتمية التاريخية. ممكن بالتأكيد أن لا يندلع التمرّد، لأن كل طرف سيعرف كيف يتعامل مع المتطرفين لديه، ويتغلّب على التمرد قبل أن يتحول إلى حرب أهلية. لكن هناك حاجة، كي يحصل ذلك، في طرح السؤال والخوض فيه، لغرض معرفة كيفية تقليص الأضرار في حال تحقق أحد هذين الاحتمالين.

خديعة "انعدام الشريك" الفلسطيني

سوف أركز على الجانب الإسرائيلي، لأن الأسباب التي قد تؤدي إلى تمرّد أو إلى حرب أهلية، تختلف عن تلك التي قد تتطور في الجانب الفلسطيني.

الرفض الفلسطيني لاتفاق دائم وفقاً لمقاييس مبادرة السلام العربية سوف يستند إلى تسويغات دينية وقومية رمزية: تنازل عن عودة كاملة للاجئي 1948 إلى إسرائيل، منح الشرعية للصهيونية وإسرائيل والتنازل المطلق عن أرض فلسطين، التي تقوم عليها إسرائيل. في المقابل، فإن الرفض في إسرائيل لن يكون مدفوعاً بأسباب رمزية فقط، بل أيضاً بفعل مصالح مادية. علاوة على ذلك، فإن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتحقيق استقلال كامل سيشكلان إنجازاً فلسطينياً تاريخياً يخفف من ألم التنازلات لديهم. أما في الجانب الإسرائيلي، فنحن نتحدث عن فشل مدوٍّ.
إمكانية اندلاع تمرّد أو حرب أهلية ليست افتراضية. وتحققها يحوم في الفضاء العام ويشغل وعي متخذي القرارات. الفيل القابع في الغرفة يسبب تشدّداً في المواقف. الجانب الإسرائيلي، بفعل أسباب مختلفة، ولكن أيضاً لكي يهرب من مواجهة داخلية، يفضّل الإعلان أنه لا يوجد شريك، أو عرض مواقف من شأنها منع أي احتمال للبدء بمفاوضات. بموازاة ذلك، يسود في المجتمعين تشاؤم بخصوص استعداد الطرف الآخر لقبول التسوية. هناك المزيد من الأصوات التي تؤيد حل الدولة الواحدة، بتسويغ استحالة إخلاء المستوطنين.

لماذا يشكل إخلاء المستوطنين عائقاً بهذه الدرجة من الجدية؟ لأن مشروع التوسع الاسرائيلي والسيطرة على السكان الفلسطينيين هو مشروع الدولة الأكبر الذي أدارته إسرائيل في أية مرة بتاريخها. وحجمه من حيث الزمن والمساحة وتكاليفه غير مسبوق في تاريخ إسرائيل. أخمّن أن إقامة الدولة كلّفت أقلّ من توسعتها بعد 1967. كل الدولة تقريباً مستثمرة في المشروع. وليس الحديث عن استثمار أيديولوجي ونقل سكان إلى مناطق فلسطينية فقط، بل أيضاً عن توفير عمل لمئات ألوف أو ملايين الإسرائيليين، ومراكمة أرباح من تصدير معرفة، تكنولوجيا ومنتجات أمنية تم تطويرها لغرض السيطرة الإسرائيلية على أرض وسكان فلسطينيين. إن وجود دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة سيجبر إسرائيل على القيام بانعطافة شاملة في نهجها، بما يتجاوز كثيراً اتخاذ قرار سياسي أو إخلاء نحو مئة ألف مستوطن.

إن الاستثمار الإسرائيلي في السيطرة على السكان الفلسطينيين قد ازداد كلما ازداد التوسع الإسرائيلي. في العام 2002 أعادت إسرائيل احتلال الضفة الغربية وحوّلت السلطة الفلسطينية الى مقاول ثانوي، بواسطة التنسيق الأمني. منذ ذلك الحين نشأ واقع لسلطة واحدة بين نهر الأردن والبحر المتوسط. تحت هذه السلطة، تسيطر المجموعة الإثنية اليهودية على تلك الفلسطينية. ومقابل الفجوة العميقة بينهما في علاقات القوة، حقوق الإنسان ومنالية الموارد، هناك تكافؤ ديمغرافي بين المجموعتين الإثنيتين العدوتين. الميزان الديمغرافي الذي ترجح كفته في غير صالح اليهود، يلزمهم بتعميق سيطرتهم على الفلسطينيين. المستوطنات لا تنتج ضماً على أرض الواقع فقط، بل تشكل أيضاً أداة سيطرة على الفلسطينيين. كلما ازداد الاستثمار يصبح من الأصعب على المجموعة اليهودية- الإسرائيلية التحرر منه، والتنازل عن الامتيازات التي توفرها لها مكانتها كمسيطرة. الأغلبية اليهودية تقوم بتجنيد سلسلة من التسويغات لغرض إضفاء الشرعية على مسيرة الحماقة التي تواصلها. في رأس تلك التسويغات هناك الأمن. الجانب اليهودي يشعر بما يهدد استعلاءه وقدرته على السيطرة. هذا التهديد لديه ما يثبته على أرض الواقع، لكن كثيرين في الجانب اليهودي يفسرون ذلك، خطأً، كتهديد وجودي. هذا يصعّب عليهم القيام بتغيير الوجهة.

من هو المستوطن؟

من الخطأ التفكير أن المشكلة المطروحة هنا نابعة بالأساس من عدد المستوطنين. صحيح أن جمهور المستوطنين كبير، أكثر من نصف مليون شخص، وليسوا جميعاً متطرفين على شاكلة قتَلة عائلة دوابشة. وثمة منهم من يؤمن فعلا بالتعايش المشترك مع جيرانهم الفلسطينيين، أو بالحاجة إلى قبول حسم الأغلبية الديمقراطية. ولكن يجب تذكّر أن المستوطنين كفصيل سياسي، ديني واجتماعي، لا ينحصرون في نطاق الضفة الغربية. بكلمات أخرى، ليس موقع السكن ما يحدد من هو "المستوطن". من هذه الناحية هناك "مستوطنون" في نطاق دولة إسرائيل أيضاً - أي من تماثل رؤيتهم الدينية والسياسية والأمنية والقومية تلك التي لدى المستوطنين المتطرفين. بتقديري، قسم منهم قد يحمل السلاح من أجل إحباط قرار ديمقراطي يسمح بسيادة فلسطينية كاملة في الضفة الغربية وقطاع غزة، بما يشمل القدس الشرقية والحرم الشريف، ويمكّن من عودة عدد متفق عليه من اللاجئين إلى إسرائيل مقابل "وهم السلام". الديمقراطية الإسرائيلية سوف تتواجه عندها مع مسألة مجرّد شرعيتها. لن تكون هذه مواجهة مع عدو خارجي بل ضد قسم من مواطنيها وقسم من جنودها. باسم قداسة البلاد وانعدام الثقة العميق بنوايا الفلسطينيين، قد تقوم تلك المجموعة بتصويب السلاح الذي في حوزتها، والمعرفة العسكرية التي اكتسبتها، ضد الجيش وأجهزة الأمن التي تطبق قرار أغلبية المواطنين. هذا سيحدث بعد نقاش داخلي صعب ونضال ديمقراطي شرعي من قبل رافضي الاتفاق.

حين صادق استفتاء في الستينيات على إخلاء الجزائر، واجهت فرنسا تمرداً لمستوطنين ووحدات عسكرية كانت تخدم هناك. لقد تم ضم الجزائر إلى فرنسا وكان فيها نحو مليون مستوطن ونصف مليون جندي فرنسي. يجدر التذكير بأن فرنسا قررت إخلاء الجزائر في سياق عالمي من مناهضة الاستعمار. هذا السياق ليس قائما اليوم، وهذا الأمر سيصعّب أكثر على الإخلاء الإسرائيلي. وأشبه بفرنسا، فإن علاقة التغذية المتبادلة بين المستوطنين وبين المؤسسة العسكرية والأمنية التي تحميهم في الضفة الغربية، قد تقود إلى نشوء واقع مشابه في إسرائيل. المستوطنون بالمفهوم الذي وصفته هنا، متواجدون ليس فقط في المستوطنات، بل أيضاً في وحدات مقاتلة داخل الجيش الإسرائيلي (بعضها وحدات متجانسة)، وفي الإدارة المدنية وفي جهاز الأمن (الشاباك). أنا أفترض أن معظمهم سوف يستصعبون التحرّك ضد الجيش وأجهزة الدولة، ولكن من غير المستبعد أن يساعد بعضهم المتمردين من خلف الكواليس، بواسطة الفعل أو التقاعس، وقسم أصغر سوف يتمرّد.

لقد كان تعداد أعضاء التنظيم السري اليهودي في الثمانينيات نحو 30 فقط، لكنه أثبت أنه يوجد بين الجمهور نشطاء ذوو قدرات عسكرية وقدرات تنظيم سرية، ينشطون بغطاء من مرجعيات أيديولوجية لخلق تغيير استراتيجي. احتمال تكرار هذا الأمر كبر فقط منذ ذلك الحين. بعد إخلاء المستوطنات من قطاع غزة عام 2005، لم يتقلص الغلاف الداعم للمستوطنين بل اتسع أكثر، والى جانبه تطورت ثيولوجيا تنفي عن دولة إسرائيل التي تنسحب من أجزاء البلاد والأرض الموعودة مكانتها المقدسة. على النقيض من الانطباع في التقارير المتتالية حول عنف مستوطنين ضد فلسطينيين، فإن الخطر الأساس الذي يهدد تطبيق تسوية دائمة لا يأتي من جهة عصابات شغب شابة، بل من تنظيم سري لديه امتداد واسع نسبيا داخل المجتمع وداخل مؤسسة الدولة.

من أجل دفع المجموعة اليهودية المنغمسة إلى حد عميق في مشروع التوسع والسيطرة، للتنازل عن امتيازاتها، هناك حاجة إلى أزمة قاسية أو ضغط خارجي كبير. لم تكن هناك أية قوة استعمارية تنازلت عن مستعمراتها لأسباب ضميرية واعترافا بحقوق الإنسان. كلما كان الضغط والأزمة أقسى، سواء من جهة الفلسطينيين أو من جهة المنظومة الدولية، أو كليهما معا، فسيصعّب الأمر أكثر على إسرائيل الانصياع له. سيتم وصم أعضاء معسكر السلام كخونة ومتعاونين وسيتم إخراجهم رمزيا خارج المجموع القومي. ومثلما أثبتت الأحداث التي سبقت اغتيال رابين، قد تكون هذه مقدمة لإخراج فعلي خارج حدود المجموع القومي. ولكن يومها كان ذلك ضد شخص واحد فقط. أما في المستقبل فإن هذا السلاح سيوجه ضد طبقة بأكملها.

إن حل الدولة الواحدة أيضا لا يحيّد إمكانية اندلاع حرب أهلية. وخلافا للصراع بين دولة إسرائيل وبين مجموعة يهودية متمردة، ففي الدولة الواحدة سيكون الصراع بين مجموعتين إثنيتين، دينيتين ولغويتين. المجموعة الإثنية اليهودية لن توافق عن التنازل عن امتيازاتها من أجل إقامة نظام حكم متساو بين اليهود والعرب الفلسطينيين. فالناتج المحلي الخام للفرد في إسرائيل عام 2017 وصل إلى نحو 36250 دولار، مقابل نحو 3000 دولار فقط في المناطق الفلسطينية. من المعقول الافتراض أن هذه الفجوة ستتقلص ولكن المتوقع أنها ستظل على حالها – ليس بسبب قلة مهارات الفلسطينيين، بل بفعل مصلحة الطرف اليهودي. أمام التفوق اليهودي في كل معيار ممكن (ما عدا الديمغرافي) ليس هناك احتمال بألا يسيطروا على المواقع المؤثرة العليا في الدولة الواحدة أو أن يمتنعوا عن استثمار مواردهم الكبيرة لصالح تكريس مكانتهم. في واقع من المساواة الديمغرافية تقريبا بين المجموعتين الإثنيتين، ليس هناك احتمال بأن يوافق الفلسطينيون على البقاء في مكانة متدنية. الخلاصة هي أن الدولة الواحدة هي وصفة أكيدة لحرب أهلية متواصلة، أشبه بما حدث في البلقان مع تفكك يوغسلافيا أو في لبنان.

إن الجدل حول حرب أهلية يقع في باب المحظور في المجتمع الإسرائيلي، حيث يسيطر شعار "اليهودي لا يخلي اليهودي". لا شك في أن الأحداث التي سترافق تحرير الضفة الغربية وقطاع غزة وفرض السيادة الفلسطينية الكاملة عليها وعلى القدس الشرقية، بالترافق مع عودة لاجئين، سوف تكون حدثا صادما. لغرض المقارنة، فعند إغراق السفينة ألتالينا عام 1948 قتل 16 من أعضاء حركة الإتسل وثلاثة جنود في الجيش الإسرائيلي، وذلك في حدث لا يزال يعتبر ذكرى مؤلمة ومثيرة للخلاف في إسرائيل.
إن التأمل في تاريخ الشعوب الأخرى، وفي أحداث رافقت انتهاء أنظمة تمييز وقمع، تبين أنها واجهت تمردا أو حروبا أهلية حين مرت بعمليات تحول جوهرية. وما أخشاه هو أن مصير المجتمع الإسرائيلي لن يكون مختلفا عن تلك الشعوب.

المصطلحات المستخدمة:

هآرتس, الإدارة المدنية, معسكر السلام

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات