المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1007

أوصت وحدة التحقيق في الشرطة الإسرائيلية، الخاصة بجرائم الغش والخداع، بتقديم لائحة اتهام ضد بنيامين نتنياهو وزوجته، في ما يعرف بـاسم "الملف 4000"، المتعلق بسعي نتنياهو لضمان تغطية ودودة له في موقع "واللا" الاخباري، حينما كان بملكية الثري شاؤول ألوفيتش، الذي كان يملك أيضا بالتوازي السيطرة على شركة الاتصالات الأرضية "بيزك"، في مقابل امتيازات.

وهذا هو الملف الثاني المتعلق بسعي نتنياهو للسيطرة على وسائل الإعلام، والذي أوصت الشرطة بمحاكمة نتنياهو على خلفيته.

والملف الأول هو ما عرف باسم "الملف 2000"، ومحوره محاولة نتنياهو عقد صفقة مع صاحب السيطرة على صحيفة "يديعوت أحرونوت"، وموقعها على الانترنت "واينت"، أرنون موزس، بموجبها يحظى نتنياهو بتغطية ودودة، في مقابل أن يعمل نتنياهو على سن قانون يقيّد انتشار صحيفة "يسرائيل هيوم" المجانية المنافسة، التي يملكها صديق نتنياهو الثري الأميركي شلدون إدلسون، بالرغم من أن هذه الصحيفة مجندة منذ صدورها في منتصف 2007 للدفاع عن شخص نتنياهو والترويج لأجندته.

وتكشف تفاصيل الملفين حجم انشغال نتنياهو، وبشكل دؤوب، بضمان تغطية إعلامية ودية له، وهذا معروف على مدى سنين. فقد سعى نتنياهو، منذ عودته إلى رئاسة الحكومة في العام 2009، للسيطرة على وزارة الإعلام، وعلى المؤسسات الرسمية ذات الصلة، وبشكل خاص سلطة البث، وسلطة البث الثانية. وقبل حوالي عامين اختار نتنياهو وزيرا مخلصا له ليتولى وزارة الإعلام، هو أيوب قرا، لضمان استمرار السيطرة على الوزارة. كما سعى نتنياهو حتى قبل ثلاث سنوات لضرب القناة العاشرة للتلفزيون.

ومنذ منتصف سنوات التسعين من القرن الماضي، بدأ وجه الإعلام الإسرائيلي يتغير، بعد أن تحوّل إلى تجاري بقدر كبير. وكان بداية عنوانا للاستثمار، إلا أنه سرعان ما تبين أن وسائل الإعلام ليست حقلا لجني الأرباح، إلا أنها ذراع لتحقيق نفوذ قوة داخل مؤسسة الحكم، وهذا ما دفع مستثمرين كبارا، وبالأساس حيتان مال، للسيطرة على أسهم وسائل إعلام، بهدف ضمان نفوذ لهم في أروقة الحكم، بحيث تصبح وسيلة الإعلام مروّجة لهذا السياسي أو ذاك، طالما يحرص على مصالح حيتان المال الاقتصادية.

وقبل أيام قليلة نشر المحلل الاقتصادي غاي رولنيك مقالا مطولا في صحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية التابعة لصحيفة "هآرتس". ونستحضر هنا مقاطع واسعة من هذا المقال لعرض جانب مركزي من هذه القضية، التي تشغل الحلبة الإسرائيلية منذ سنوات.

يقول المحلل رولنيك إن ملفي 2000 و4000 لم يهبطا فجأة، وإنما هما حصيلة لعملية بدأت في أعقاب حملة الاحتجاجات الشعبية على كلفة المعيشة، في صيف العام 2011، والتي تضمنت نقاشا شعبيا حول القوة السياسية لكبار المستثمرين، الذين وقفوا على رأس شركات ضخمة، وكانوا أيضا ذوي سيطرة اقتصادية بالأسهم على وسائل إعلام مركزية. وسبق كل هذا حدثان مركزيان، لم يصلا إلى حد التحقيقات الجنائية، لكنهما كشفا عما يجري من وراء الكواليس في الصحافة الإسرائيلية، هما: سيطرة نوحي دانكنر على صحيفة "معاريف"، وإفلاس إليعازر فيشمان، صاحب السيطرة على صحيفة "غلوبس".

ويتابع رولنيك أن الحدث الأول، بمعنى ما جرى في صحيفة "معاريف"، والذي وصل إلى حافة تقديم لائحة اتهام جنائية، سلط الضوء أكثر على ما يجري في موقع "واللا". فعلى الرغم من الانتشار الواسع نسبيا لموقع "واللا"، إلا أنه كان ذا تأثير قليل على جدول الأعمال العام، وبالنسبة إلى الكثيرين من المهتمين بالشأن العام والسياسات، ومتخذي القرارات في السلطة المركزية، لم يكن هذا الموقع على رأس وسائل الإعلام المفضلة لهم. إلا أن قضية "معاريف" لفتت النظر إلى العلاقة بين رأس المال والسلطة الحاكمة والصحافة، وأيضا في وسائل إعلام من الدرجة الإخبارية الثانية، كما هو موقع "واللا". وفي السنوات السبع الأخيرة كشفت سلسلة من الأحداث عما يجري في وسائل الإعلام الإسرائيلية.

وكان الصحافي رفيف دروكر، الذي يُسجّل له كشف العديد من قضايا الفساد وبضمنها قضايا نتنياهو وسعيه للسيطرة على وسائل الإعلام، قد قال في برنامج تلفزيوني قبل نحو ثلاثة أسابيع إن الكثيرين من الذين عملوا في موقع "واللا"، ومن بينهم من جاء إلى الموقع من صحيفة "يديعوت أحرونوت"، قالوا لتحقيق تلفزيوني، دون كشف هويتهم، "إن ما كان يجري في وقع "واللا" رهيب للغاية، ولم يكن مريحا". وحسب دروكر، فإن ما كان في "يديعوت أحرونوت"، بمعنى التدخل بالمضامين، والتوجيه نحو جهات مستهدفة، كان يتم بشكل أكثر ذكاء، ولذا كانوا يحققون نتائج أشد قسوة، مما كان يتم تحقيقه في موقع "واللا" وصحيفة "يسرائيل هيوم".

ويقول رولنيك إن القارئ والمشاهد، الذي ليس لديه معرفة عميقة أو أي مستوى معرفة بقضية علاقة رأس المال بالسلطة، ووسائل الإعلام، بقي مشوشا أمام نصف ساعة من التحقيق التلفزيوني، وما تم عرضه من شهادات قاسية عن الفساد الصحافي من الدرجة العليا، في العلاقة بين بين العاملين والإداريين في موقع "واللا" مع رئيس الحكومة.

ويضيف رولنيك: لماذا تتركز غالبية الشهادات حول ما جرى في "واللا" و"معاريف" و"غلوبس"؟ التفسير بسيط: إن أصحاب السيطرة على وسائل الإعلام الثلاث هذه أعلنوا افلاسهم، وخلال انهيارهم الاقتصادي تم هدر دمائهم. بمعنى هم فقدوا مكانتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فمن ناحية، نشأ مسار يمنح شرعية للبحث بشأن عمل هذه الجهات الثلاث، ومن ناحية ثانية، انخفض مستوى الأخطار الشخصية، التي كان من الممكن أن يتعرض لها من قرروا فتح أفواههم، والكشف عما لديهم.
إن انهيار نوحي دانكنر وشاؤول ألوفيتش وإليعازر فيشمان، وبالأساس توقيته، مرتبط بشكل مباشر بحملة الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في العام 2011، وبتغير الحوار العام، الذي أدى إلى إصلاحات وتشريعات قانونية، مسّت بهرمية شركات اقتصادية واحتكارات حيتان المال. والمشترك لوسائل الإعلام الثلاث هذه هو أنها تحت سيطرة مستثمرين، كانت وسائل الإعلام هذه بالنسبة لهم استثمارا هامشيا ضمن شبكة استثماراتهم، وكان الهدف من الاستثمار في وسائل الإعلام هذه هو ضمان قوة سياسية لهم.

ويقول رولنيك إنه أمام كل هؤلاء يبرز صمت محرري وصحافيي "يديعوت أحرونوت"، وفي الموقع التابع لذات الصحيفة "واينت"؛ فوسيلتا الإعلام هاتان تشكلان استثمارا مركزيا لأصحاب السيطرة عليهما، وعلى مدى عقود من الزمن باستثناء الفترة التي كان فيها ذات المستثمرون يستثمرون بشكل فاعل في شركة الكوابل التلفزيونية "هوت". وغالبية الجمهور الذي شاهد التحقيق التلفزيوني عن الفساد في وسائل الإعلام، خاب أملهم وهم يسمعون محررين وإداريين في موقع "واللا"، كيف كانوا يوجهون الأخبار والتقارير في اتجاهات بحسب طلب أصحاب السيطرة على الموقع، ومديره العام. ولكن ما برز أكثر هو النفور الذي ساد بين العاملين من الأوامر العليا التي كانت تهبط عليهم من فوق، وما قاله محررون عن الضغوط التي لا تنتهي عليهم من جانب نتنياهو وزوجته، والمقربين منهم. ومحاولات نتنياهو السيطرة على موقع "واللا" سجلت نجاحا جزئيا فقط، إذ أن العاملين في الموقع لم يكفوا عن الاعتراض على هذا الحال.

ويقول رولنيك: ها نحن أمام السؤال المهم: هل إيهود أولمرت كان عليه أن يتصل بأرنون موزس والمحررين والمراسلين في صحيفة "يديعوت أحرونوت" وموقع "واينت"، في الفترة التي شرعت وسليتا الإعلام هاتان بحملة دعم له؟ وهل الصور والصياغات الودية حيال أفيغدور ليبرمان في وسيلتي الإعلام هاتين، على مدى سنين، كانت بفعل ممارسة ضغوط لا تتوقف على الناشر والمحررين؟ هل تأييد "يديعوت أحرونوت" لابني العم داني ونوحي دانكنر في بنك "هبوعليم" وشركة "إي دي بي"، ومعارضة الصحيفة للإصلاحات التي مسّت بمصالح حيتان المال، كانت نتيجة ضغوط كتلك الضغوط التي مورست في موقع "واللا"، وضغوط مارسها سياسيون ومستثمرون وحيتان مال على محرري الصحيفة وبعض المحللين الكبار؟

وبرأي المحلل، فإن هذه أسئلة مهمة، والطريقة الأفضل لفهمها هي إجراء مقارنة بين ثقافة العمل في موقع "واللا"، وبين نهج العمل الذي ساد في "يديعوت أحرونوت". فهناك فوارق بين ألوفيتش وموزس، والبارز فيها هو شبكة العلاقات التي كانت قائمة بين أصحاب السيطرة وبين الصحافيين في كل واحدة من وسائل الإعلام تلك. فألوفيتش كان كالجندي المبتدئ (نفر) في سوق الإعلام، ولم تكن لديه مجموعة صحافيين ومقربين مخلصين. وهو شخصيا قال في البرنامج التلفزيوني إنه لم يكن لديه مفهوم لوظيفة الصحيفة، ومن تخدم.

وحسب رولنيك، فإن ألوفيتش تصرّف بشكل استبدادي، لكن أيضا بشكل عشوائي، ما جعله يترك من خلفه إثباتات وبصمات في كل مكان. بينما موزس بنى على مر السنين حلقة صغيرة من الأشخاص، الذين طوروا نموذجاً من الإخلاص له، والشراكة في المصير، والتعلق التام بزعيمهم في الصحيفة. وقسم منهم استوعب بشكل كامل ما هي مصالح الناشر، ولم يتجادلوا معه، وكانوا كالأصفار في موقع "واللا".

ولهذا السبب يتحدث موزس بحرية مع نتنياهو، كما ورد في تحقيقات "الملف 2000"، حول شكل "توجيه السفينة"، بمعنى توجيه التقارير الإخبارية في الصحيفة، لتكون ودودة لشخص نتنياهو، وأن يصدر تعليمات لعشرات المحررين والمراسلين ليغيروا خط نهج الصحيفة.

وحسب رفيف دروكر فإن الأمور في "يديعوت أحرونوت" تدار بشكل أكثر فسادا، لكنها أكثر حكمة وذكاء، وتحقق نتائج أكبر من وسائل إعلام أخرى. فنتنياهو وألوفيتش لم يستطيعا الوصول إلى درجة التناغم بين الناشر موزس والعاملين في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، والإخلاص للعلاقة بين موزس وأشخاص وجهات في الحلبة السياسية. في المقابل، فإن المشهد في موقع "واللا" كان مختلفا، فقد كان ينتشر فيه فساد مهني وفظ، لكن في ذات الوقت كانت هناك حالات تمرد من الصحافيين على التعليمات التي كانوا يتلقونها.

ويقول رولنيك إن لائحتي الاتهام، اللتين كما يبدو ستقدمان ضد نتنياهو، في ملفي 2000 و4000، ستكونان ضد رئيس الحكومة وضد الناشرين، لكنهما في ذات الوقت ستكونان ضد جهات في الصحافة، ممن سمحت لأصحاب القوة الاقتصادية والسياسية في إسرائيل أن يصدروا تعليماتهم وأوامرهم للصحافة في كيفية عرض الأمور والسياسات. وأكد أن على لائحتي الاتهام هاتين أن تقودا ليس فقط إلى إدانة، وإنما أيضاً إلى تغيير عميق في الصحافة الإسرائيلية.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات