على نحو ذي صلة، كشف تقرير للصحافي عوفر أديرت، في "هآرتس"، مجدداً، أن الهدف من مجزرة كفر قاسم الرهيبة، عام 1956، كان تهجير سكان القرية وجوارها إلى الأردن، ضمن خطة معدة سلفاً لا تزال قيد السرية واسمها "خطة الخلد".
وكتب الصحافي تحت العنوان "كانت محاكمة صورية: الاعتراف الأخير لقائد القطاع الذي وقعت فيه مجزرة كفر قاسم"، أن الضابط الأكبر الذي حوكم في القضية، العميد احتياط يشكا شدمي، كان قائداً للّواء الذي ارتكبت المذبحة في منطقته، وقد أبلغته جهات رسميّة بأن محاكمته جاءت للتستر على الخطة التي كانت في خلفية المجزرة: تهجير الفلسطينيين من منطقة المثلث الى الأردن.
الوثائق الخاصة بهذه الخطة الترانسفيرية ما زالت قيد الحجب والتكتم، لذلك قام المؤرخ آدم راز بتقديم دعوى قضائية يطالب فيها بإصدار أمر لأرشيف الجيش الإسرائيلي ليكشف عن الوثائق السرية في القضية. وقال بسخرية سوداء للتعبير عن شدة العبثيّة: "الغالبية المطلقة للمواد ما زالت سرية. لقد فوجئت لدى اكتشافي أنه من الأسهل الكتابة عن الذرّة الإسرائيلية من الكتابة عن سياسة إسرائيل تجاه المواطنين العرب".
يقول التقرير الصحافي: إن التفاصيل الكاملة لخطة الترانسفير هذه لم تُكشف وما زالت تخضع للسرية، والرقابة العسكرية لا تسمح بكشفها وهي محفوظة في أرشيف الجيش الإسرائيلي. كذلك فإن جلسات محاكمة شدمي التي جرى خلالها التطرق إلى "عملية الخلد"، عُقدت خلف أبواب مغلقة وكانت سرية. وجرى التطرق إليها أحيانا بأسماء مشفرة، مثل "الأمر العسكري المشهور" الذي يتطرق إلى "حيوان من عائلة الثديات". راز مقتنع بأن الغاية من إجراء محاكمة صورية لشدمي هي حماية مسؤولين أرفع مستوى منه، في محاولة للتستر على وجود خطة سرية عنوانها "عملية الخلد"، وتهدف إلى القيام بعملية ترانسفير، تهجير العرب في المثلث، وبينهم سكان كفر قاسم، إلى الأردن.
قبل شهرين كتب راز نفسه مقالا بعنوان "ما لا تريد الرقابة أن تعرفه عن الخمسينيات في دولة إسرائيل"، قال فيه إن إسرائيل ما زالت تعمل بموجب المادّة الثامنة من أنظمة قانون الطوارئ عام 1945، التي وضعها الانتداب البريطاني، وهي تستند إلى تلك القوانين لكي تمنع مواطنيها من معرفة الحقيقة كاملة. وينوّه الى أن المستشار القانوني الأوّل للحكومة، يعقوب شمشون شابيرا، أقرّ عام 1946 بأن قوانين الطوارئ هي "تدمير للقضاء في إسرائيل". ومثله تساءل دوف يوسف، وزير العدل: "هل سنكون جميعا عرضة للإرهاب بعقوبة رسمية… أم ستكون هناك حرّية للفرد؟". المادة 87 من قوانين أنظمة الطوارئ حددت بأن الرقابة تحظر نشر أية مادّة قد تضرّ بأمن إسرائيل أو سلامة جمهورها أو النظام العام. بينما تنصّ المادّة 97 على أن الرقابة يمكن أن تأمر أي شخص بتقديم "أية مادّة" لمراجعتها قبل النشر.
راز يتحدث عن الدعوى القضائية الماثلة منذ أشهر أمام المحاكم وكيف أن الرقابة تحذف تفاصيل من بعض الوثائق، وهو ما يرفضه الباحث. وهو يتهم الجهات المسؤولة بمحاولة حماية مصالحها وليس كما تزعم "حماية أمن اسرائيل". ويذكّر بما قاله مرة البروفسور يشعياهو ليبوفيتش، المثقف الذي انتقد سياسات إسرائيل بشدة، من أن "الرقابة لا تهدف لإخفاء أسرار عن العدوّ، وإنّما لإخفاء أعمال الزعماء عن شعبهم".
سلطات الاحتلال تحجب كل ما من شأنه كشف انتهاك المعاهدات الدولية
جانب آخر للتحكّم بالوثائق وبفترات حجبها وكشف القليل منها، يرتبط بالراهن المباشر الخاص بالاحتلال الإسرائيلي منذ 1967.
وقبل عامين كتبت المحامية روني بيلي أن سلطات الاحتلال تحجب المواد التي من شأنها كشف انتهاك المعاهدات الدولية في المناطق المحتلة. وهي تشير هنا الى تعريف الفلسطينيين كـ"سكان محميين"، إذ "يستدل من الوثائق التي تعود إلى عامي 1967- 1968 أنه كان واضحاً على الصعيد الداخلي ضرورة التزام السيطرة العسكرية بأحكام الاحتلال. ومنذ تموز 1967 قال النائب العسكري حينذاك مئير شمغار إن النيابة العسكرية أعدّت البيانين العسكريين رقم 1 و 2 اللذين يعبران عن التزام الجيش المحتل (الجيش الاسرائيلي) بأنظمة لاهاي 1907 ومعاهدة جنيف الرابعة. لكن مع مرور العقود، وتكرّس الاحتلال والاستيطان، تغيرت أيضاً وجهة نظر مسؤولي القانون. فتم بواسطة بهلوانيات قانونية إضفاء شرعية مرة بعد الأخرى على خطوات مخالفة للمعاهدات الدولية، وهي بهلوانيات راحت تتطور أكثر. بموازاة ذلك، اهتمت الحكومة بالحفاظ على غموض وامتنعت عن الإقرار بأن الفلسطينيين هم سكان محميون".
الجمهور يُمنع من حق الوصول إلى الغالبية الساحقة من مواد الأرشيفات
للتذكير: قال معهد "عكفوت" المذكور أعلاه، في ورقة معلومات أصدرها في أيلول 2017، إن القسم الأكبر من مواد الأرشيفات الإسرائيلية محجوب عن الجمهور. وعلى الرغم من أن قانون الأرشيفات في إسرائيل يحدد مبدأ مفاده أن "كل شخص مخول بالاطلاع على المادة الأرشيفية المودعة في أرشيف الدولة"، فإن المعطيات تظهر أن الجمهور يُمنع من حق الوصول إلى الغالبية الساحقة من مواد الأرشيفات الحكومية الكبرى، خصوصا أرشيف الدولة، أرشيف الجيش ووزارة الدفاع. والسبب هو قرارات الجهات المسؤولة عن المواد الأرشيفية بعدم كشفها، دون أية صلاحية ولا أي تسويغ. كذلك، يجري الامتناع عن فتح مواد أمام الجمهور حتى بعد انتهاء فترة التقييد التي نصّت عليها الأنظمة. ولا يتم تخصيص موارد كافية لتمويل مهام فحص المواد قبل كشفها العمومي. الى هذا تُضاف سياسة أرشيف الدولة منذ نيسان 2016 القاضية بتمكين الاطلاع على المواد التي يتم نشرها إلكترونياً فقط، مما أدى هو الآخر إلى تقليص منالية المواد الأرشيفية للجمهور، وذلك لأن معظم المواد التي سمح بكشفها في الماضي ليست موجودة على موقع الانترنت، والذي بات يشكل عمليا وسيلة الاطلاع الحصرية تقريبا في مواد أرشيف الدولة.
كذلك، فإن تقريراً وضعه مدير "أرشيف الدولة" في إسرائيل يعكوف لازوفيك (في كانون الثاني 2018) كشف عن أن هناك الكثير من العوائق التي تمس بسير العمل السليم في الأرشيف، وهي مرتبطة بمناهج/سياسات كشف المواد وإتاحتها أمام الجمهور للاطلاع. وهو يؤكد أن إسرائيل "لا تعالج المواد الأرشيفية الخاصة بها كما يُتوقع من دولة ديمقراطية، فالغالبية الساحقة من المواد الأرشيفية مغلقة ولم يتم فتحها أمام الجمهور للأبد. أما المواد القليلة التي سيتم عرضها فستكون ضمن تقييدات غير معقولة حيث لا توجد رقابة عامة على إجراء الكشف وليست هناك شفافية".
ومعطيات هذا التقرير تشير إلى ما يلي: 42% من المواد التي تم إيداعها في الأرشيفات الحكومية ليست متاحة لاطلاع الجمهور ولا تقوم الأرشيفات الحكومية بتقديم كتالوجات لـ 94% من المواد الموجودة فيها. وهكذا فإن من يستخدمون الأرشيف لا يعرفون أية معلومات موجودة فيه، ويمنع الجمهور من الوصول إلى المعلومات التي سمح بكشفها وتم أصلا جمعها وتخزينها بأموال الجمهور ولمصلحته، وهي معلومات يجب أن تعود إلى الجمهور لكي يستخدمها في البحث والنقاش وإثراء معرفته حول السيرورات المختلفة التي قادته إلى ما وصل إليه، ولكي يستخدمها لمواصلة بناء مستقبله، وفقاً لتعبير التقرير.
من بين نحو 15 مليون ملف في أرشيف الدولة وأرشيف الجيش وجهاز الأمن يوجد في متناول الجمهور على الأكثر نحو 191 ألف ملف. وتوجد في أرشيف الدولة وفقا للتقديرات ثلاثة ملايين ملف ومن بينها تم السماح بالاطلاع على 400 ألف ملف فقط، أي حوالي 13% من ملفات الأرشيف. على الرغم من ذلك فإن الملفات المتوفرة لاطلاع الجمهور فعلياً أقل بكثير وهي تقتصر على نحو 144 ألف ملف، وهي تشكل 8ر4 بالمئة فقط من مجمل تلك الملفات.