تعود قضية المواد والوثائق السرية، المودعة في أرشيفات دولة إسرائيل الرسمية، الى الظهور بقوة في مركز النقاش العام، من فترة الى أخرى، حاملة كثيراً من الدلالات وأولها شدّة ارتباط ما تتستر عليه مؤسسة الدولة من معلومات بالحاصل في الحاضر الراهن، ليس بمفهوم تأثير ما يمكن أن يكشف على أداء مؤسسات معينة اليوم، أو تعريض أدوات عملها للضرر – كما يُزعَم عادة – وإنما بمفهوم الصدمات المحتملة التي سيحملها كشف الأوراق القديمة بشأن ما فعلته أذرع صهيونية تحوّلت إلى رسمية إسرائيلية، عام 1948 خصوصاً، ولكن ليس حصراً.
وبعيداً عن المقولات الافتراضية حول إمعان السلطات الرسمية في تزييف أحداث عام النكبة وما سبقه وتلاه، ها هي التحركات الإسرائيلية الرسمية نفسها تؤكد صدق الفرضية: رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو يصدر قرارا بإرجاء نشر وثائق أمنية عن عام 1948، بحيث يصل تمديد حجب معلوماتها عن الجمهور إلى عشرين عاما أخرى، بناء على طلب المؤسسة الأمنية الإسرائيلية.
الصحافيان اللذان كشفا الأمر، يونتان ليس وعوفر أديرت من صحيفة "هآرتس"، كتبا أنه "كان من المتوقع أن يتم الكشف عن هذه الوثائق هذا العام بعد مرور سبعين عاما، كما هو متفق عليه، لكن التمديد الجديد سيعني وصول الحجب إلى تسعين عاما، ومن بين الأسباب، عدم الرغبة الإسرائيلية بالكشف عن وثائق متعلقة بمجزرة دير ياسين التي وقعت قبل الحرب بأسابيع عدة".
من ناحية رواية سلطات الدولة يتكرر الحديث عما أشيرَ اليه أعلاه: "كشف أدوات عمل"، وكما قال الصحافيان فإن قرار تمديد الحجب جاء "بتوصية مؤسسات استخبارية وأجهزة أمنية إسرائيلية لمنع كشف المصادر التي وفرت لإسرائيل تلك المعلومات الاستخبارية، خشية أن تكون تستخدم ذات المصادر أو ما يشبهها حتى اليوم... فالوثائق المذكورة تضم معلومات حصلت عليها إسرائيل من جهات أجنبية لم يتم الكشف عنها حتى اليوم". لكن هذه الذريعة لا تصمد أمام حقائق أخرى كُشفت في السابق. فمثلا يؤكد معهد بحث الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني "عكفوت" الناشط لإماطة لثام السرية عن مئات ألوف الوثائق، انطلاقاً من مبدأ حق الجمهور بالمعرفة، ورفض التعميم الجارف في حجب الوثائق المصنّفة كـ "أمنية"، بأنه سبق تمديد فترة التقييد في العام 2010 (خلال رئاسة نتنياهو الحكومة أيضاً) من 50 الى 70 عاماً، وبالمقابل تعهدت الهيئات الأمنية ذات الصلة بأن تعدّ نظاماً خاصاً بها حول آلية كشف المواد الأرشيفية التي يفوق عمرها 50 عاماً على الأقل. ويقول المعهد إن هذا الالتزام لم تطبقه جميع الهيئات الأمنية، ومن طبقه منها لم يفعل بشكل كامل. أما الآن فصار مطلبها فرض تقييد جارف شامل على كشف جميع المواد الأرشيفية دون تمييز بين ما إذا كان كشفها منوطاً بخطورة – وفقا للهيئات نفسها – أم لا. أي أن الحديث عن"كشف أدوات عمل" قد سقط!
فترة تقييد تمتد عملياً لـ90 عاماً
يعود الجدل الراهن الى أسابيع قليلة مضت إذ عممت المستشارة القانونية لأرشيف الدولة الإسرائيلي، نعومي الدوفي، مسوّدة تعديل لأنظمة السماح بقراءة مواد الأرشيفات. وفي مركز الاقتراح تمديد فترة تقييد حظر الاطلاع على المواد الأرشيفية الخاصة بعدد من الهيئات الأمنية المحددة منها الشاباك، الموساد، لجنة الطاقة النووية، المعهد البيولوجي وغيرها. ويسعى هذا المقترح لتحديد فترة تقييد تمتد عملياً لـ90 عاماً بدلا من فترة الـ70 عاماً الحالية (بعد تمديد 2010).
يتضح من مسودة التعليمات، التي تم توزيعها على الوزراء، بأن تعليمات تمديد فترة الحجب لـ 20 سنة أخرى، تشمل، إضافة الى المواد الموجودة لدى الشاباك والموساد، مواد شعبة الاستخبارات التابعة للجيش، والمعلومات الخاصة بجمع المعلومات الاستخبارية التي تصنف بعنوان «سري» فما فوق (سري جداً، وهكذا)، ومواد خاصة بوحدات معينة في الجيش ووزارة الدفاع. قوانين الأرشيفات في إسرائيل تنص على أنه يحق لكل مواطن الاطلاع على المواد المحفوظة في «أرشيف الدولة»، لكنها تمنح الحكومة صلاحية فرض قيود على الاطلاع بحسب تصنيف المواد، كـ"سرية" وما شابه، أو بحسب المدة الزمنية التي مرت على صدورها. وتتراوح هذه الفترة ما بين 15 و70 عاماً، بحسب مضمون المواد ومصدرها. مع انتهاء مدة السرية، فإن "أرشيف الدولة"، وأرشيفات أخرى مثل "أرشيف الجيش"، لا يبادر إلى كشف المواد، وانتهاء فترة السرية لا تشكل شرطاً كافياً لكشف المواد للجمهور، حيث إن المسؤول عن "أرشيف الدولة" يفحص ذلك أولاً، وبإمكان اللجنة الوزارية ذات الصلة، التي تترأسها وزيرة العدل، أن تفرض قيوداً أخرى. وتمنع القواعد الجديدة نشر معلومات استخبارية أصلية من المخابرات العسكرية بالإضافة إلى وثائق تتعلق بجمع معلومات استخبارية لمواد مصنفة على أنها سرية إلى جانب مواد تتعلق ببعض وحدات الجيش الإسرائيلي ووحدات وزارة الدفاع.
معدّا التقرير الصحافي قدّرا بأن مثل هذا القرار من شأنه مراكمة مصاعب وحواجز أمام المؤرخين والباحثين والصحافيين في أداء عملهم، بسبب حجب معلومات تاريخية لها أهمية كبيرة، ناهيك عن منع الرأي العام والجمهور من الوصول إليها. النقطة "الساخنة" في هذا المضمار هي التالية: قرار تمديد الحجب سيحظر كشف معلومات ووثائق وإفادات مرتبطة بشكل وثيق بمجزرة دير ياسين التي نفذتها عصابة إيتسل الصهيونية، التي تعتبر بذرة حزب الليكود الذي تأسس لاحقاً، في نيسان 1948. وهكذا نشأ وضع يجري فيه حجب وثائق جلسات لجان الكنيست لمدة 20 عاما، ومواد تخص علاقات إسرائيل الخارجية لمدة 25 عاما، وأرشيف الشرطة 30 عاما، وبروتوكولات المجلس الوزاري الأمني والسياسي 50 عاما، بينما المواد المصنفة "أمنية" تصل مدة الحجب إلى 70 عاما.
تخويل الوزارات قرار اختيار ما يمكن كشفه كالسماح للقطط بحراسة الحليب!
ارتباطاً بما سبق، فقد أمر المستشار القانوني للحكومة، قبل نحو عام، باشتراط إطلاع الجمهور على وثائق في أرشيف الدولة، بموافقة الوزارات التي أودعت تلك الوثائق في الأرشيف. وكان المبرّر الذي اعتمده المستشار تقنياً هو الزعم أن الثورة الرقمية قد تقود الى كشف غير مراقب لوثائق تاريخية حساسة. وفي حينه حذّر باحثون كبار من أن أوامر المستشار القانوني هذه ستضرّ بالبحث التاريخي وتفرض قيودا غير عادية على وصول الجمهور إلى مواد الأرشيف. كذلك عبر خبراء قانونيون عن الخشية من أن الوزارات قد تستغل القانون من أجل حجب ما يمكن أن يحرج الوزارات أو تستعرض صورة سلبية لأدائها. وقالت عضو المجلس الأعلى للأرشيفات الإسرائيلية، الدكتورة تهيلا ألتشولر، إن تعليمات المستشار القانوني تفتقر إلى المنطق. وشبّهت تخويل الوزارات بقرار اختيار ما يمكن كشفه من مواد، بالسماح للقطط بحراسة الحليب. وحذرت من إقدام هيئات حكومية على استغلال هذه التعليمات الجديدة ومنع الجمهور من الاطلاع على مواد لأسباب غير موضوعية، مثل الرغبة في إخفاء فضائح محرجة أو الامتناع عن كشف أعمال فساد.
ليئور يفنه، مدير عام معهد "عكفوت"، الذي يعنى بالكشف عن مواد أرشيفية تتعلق بالصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، قال إن "حرية الاطلاع في الأرشيف تم تحميلها طوال سنين على ظهر جمل تم تجويعه وهو يعرج، والتعليمات الجديدة هي بمثابة القشة التي ستؤدي إلى انهياره نهائيا".
وبالفعل، فقد تبيّن أنه حتّى بعد مرور 40 سنة على حرب أكتوبر، ما زالت الحكومة الإسرائيلية تمنع نشر مئات الوثائق المتعلقة بسلوك السياسيين عشية الحرب في تشرين الأول 1973. وصحيفة "هآرتس" كشفت قبل خمس سنوات أنّ في أرشيف الدولة في القدس محاضر جلسات سرية للجان الوزارية للشؤون الأمنية ولجلسات مجلس الوزراء من العام 1973، لم يجرِ كشفُها للجمهور بعد رغم أنه وفقاً للقانون يُفترَض أن تكون هذه السجلّات مفتوحة للرأي العام بعد مرور أربعين سنة.
وقد قيل للصحافيين الذين توجّهوا إلى الأرشيف في السنة الأخيرة لإعداد تقارير وتحقيقات صحافية، إنه وفقاً للقوانين، يُمكن نشرُ الوثائق فقط بموافقة مكتب رئيس الحكومة، الذي يتبع لمكتبه الأرشيف، رسمياً. ولكن مكتب رئيس الحكومة رفض نشر الوثائق. وتشير الصحيفة: يسمح القانون لمكتب رئيس الحكومة بإبداء مرونة في قضية كشف النقاب عن الوثائق السرية إذا كانت هناك "مصلحة عامّة". رغم ذلك، نُقل عن مكتب رئيس الحكومة أنّه "وفقاً لأنظمة قانون السجلات، يُتاح للجمهور الاطّلاع على محاضر جلسات ونُسخ طبق الأصل عن المحاضر للجان الوزراء للشؤون الأمنية ولجلسات الحكومة عندما تلتئم كلجنة وزراء لشؤون الأمن، بعد 50 سنة. إذا تقرّر أي تغيير بخصوص نشر أمرٍ ما، فسيجري إطلاع الجمهور عليه". لكنّ فحص أنظمة قانون الأرشيف يكشف أيضاً أنّ لدى الدولة صلاحيةَ الخروج عن هذه القواعد وتبكير نشر وثائق من هذا النوع. وخلصت الصحيفة الى أن رفض مكتب رئيس الحكومة نشر التقارير والوثائق العديدة هو أمر مُريب، وخصوصاً أنّ الجيش ووزارة الدفاع أتاحا كشف مئات الوثائق والتسجيلات المصنّفة سرّية قُبَيل الذكرى السنوية الأربعين للحرب!.
إدارة الأرشيف ترى أن واجبها هو الجمع والتخزين والرقابة أولا!
موقع أرشيف الدولة، الذي يقع ضمن موقع رئيس الحكومة، يعرّف مهامه كالتالي: إنه "المسؤول عن جمع المواد الأرشيفيّة لمؤسّسات الدولة وحفظها للأجيال القادمة كلّما تبرّر ذلك قيمتها القانونيّة أو الإدارية أو الدراسيّة وعن فتح المواد للبحث العلميّ وفهرسة المواد ونشرها. كذلك، أرشيف الدولة مسؤول عن المراقبة المهنيّة لأعمال حفظ الملفات ودور الحفظ والأرشيفات في جميع مؤسّسات الدولة والسلطات المحلّيّة، وعن صيانة ملائمة وجيّدة للمستندات وعن حرقها إذا لم تكن حاجة للحفاظ عليها للأبد. وهو المسؤول عن تسجيل مادة أرشيفيّة (ما) في الملكيّة الفرديّة والمؤسّسات العامة حيث يوجد اهتمام للبحث العلمي عن الشعب والدولة والمجتمع".
هذا التعريف يثير الانطباع بأن إدارة الأرشيف ترى أن واجبها هو الجمع والتخزين والرقابة، أما فعل الكشف والإتاحة فيقع في الدرجة الثانية فقط.
ومع الخطوة الجديدة بتمديد الحجب حتى 90 عاماً، ثار سخط عدد من الصحافيين الذين يرتبط بعض أدائهم بالمواد المدموغة بالسرية. وأحدهم هو الصحافي الاستقصائي رونين بيرغمان من جريدة "يديعوت أحرونوت"، الذي اعتبر أن قرار الحجب "بائس، عديم المنطق، ويمس بحرية المعلومات وحرية التعبير". وقال في مقال نشره مؤخراً إن هذا النهج الذي يقضي بتمديد الحجب مرة تلو الأخرى دون أي كوابح، يجعل السلطة ممثلة بإدارة الأرشيفات، وبالأجهزة الأمنية، تحدد دون رقابة ما يمكن للجمهور الاطلاع عليه، وتقرر "بناء على موقفها هي نفسها كيف تصمم تاريخ دولة اسرائيل". وهو يورد حادثة تعرّض لها في الماضي كالتالي: "قال لي مسؤول كبير في أسرة الاستخبارات بابتسامة شماتة: لا تقلق، حين نصل الى السبعين سنزيد الزمن الى مئة سنة، أنت لن ترى هذه المادة أبدا"!
المصطلحات المستخدمة:
المستشار القانوني للحكومة, الموساد, الصهيونية, يديعوت أحرونوت, هآرتس, دولة اسرائيل, الليكود, الكنيست, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو