المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1786

"مرّ أسبوعان فقط منذ نشرنا رسالتنا. لم نصل بعد إلى وضع تم فيه استدعاء أي منا إلى الخدمة العسكرية الاحتياطية. لكنني لا أعتقد أن ثمة بيننا مَن وقّع على العريضة ويوهم نفسه بأنه سيحصل على إعفاء. لسنا سُذّجا. نحن ندرك جيدا ما يمكن أن يحصل وسنواجه الأمر، لكننا مؤمنون تماما بما نفعل. ومن ناحيتي الشخصية، على الأقل، فإن العيش في دولة عنصرية يثير الخوف أكثر بكثير من الدخول إلى السجن على خلفية الرفض الأيديولوجي"!

هذا ما يقوله أفيشاي تسهجون باروخ، وهو سينمائي في الـ 36 من العمر من سكان مدينة الرملة، وأحد الشبان اليهود الأثيوبيين (المواطنين في إسرائيل) الـ 322 الذين وقعوا على رسالة يعلنون فيها رفضهم تأدية الخدمة العسكرية (الاحتياطية) في الجيش الإسرائيلي "حيال تراكم أنواع ومظاهر العنصرية ضد أبناء الطائفة الأثيوبية في إسرائيل، من جانب السلطات الرسمية المختلفة في الدولة"!

وكانت القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي قد كشفت عن رسالة جنود الاحتياط الأثيوبيين (الفلاشا) الـ 322 هذه قبل نحو أسبوعين، لكن هذه الرسالة ـ بما ورد فيها من مضمون حاد جدا ـ لم تثر أي اهتمام جدي منذ ذلك الوقت، لا في وسائل الإعلام الإسرائيلية ولا لدى السلطات الرسمية المختصة، سواء السياسية أو العسكرية. ويشدد هؤلاء، في مقابلات أجراها معهم حجاي مطر ونشرها على موقع "محادثة محلية" (سيحاه ميكوميت) العبري (يوم 14 أيلول الجاري) على أن "أي شخص من أية مؤسسة لم يتصل بنا ولم يسألنا"!

لائحة اتهام طويلة وتفصيلية

يستهل جنود الاحتياط الأثيوبيون بيانهم (رسالتهم) بالتأكيد: "لم نعد نتحمل استمرار الوضع الذي تطالبنا الدولة فيه بمواصلة الالتزام بالعقد الذي يقول إننا مواطنون علينا واجبات، لكن غير متساوين في الحقوق"! ويدعون، في ختامه، جميع الجنود الأثيوبيين الذين يؤدون الخدمة الاحتياطية في الجيش إلى الانضمام إليهم في نضالهم هذا "لمقاومة التمييز الممارَس ضد الطائفة الأثيوبية".

غير أن الجزء الأكبر والأساس من البيان، الذي لم يحظ بتغطية إعلامية ملائمة حتى الآن، كما ذكرنا، شكّل لائحة اتهام طويلة ومفصلة ضد دولة إسرائيل ومؤسساتها المختلفة بجريرة سلسلة من السياسات والممارسات التمييزية بحق اليهود المهاجرين من أثيوبيا.

ويتطرق البند الأول من لائحة الاتهام هذه، بطبيعة الحال وبوحي حملة الاحتجاج الشعبية التي نظمها اليهود الفلاشا في إسرائيل خلال السنتين الأخيرتين، إلى العنف البوليسي المتكرر ضد الأثيوبيين اليهود الذي ترافقه معدلات مرتفعة جدا، نسبيا، من عمليات التحقيق، الاعتقال والإبعاد (من أماكن السكن) التي يتعرض لها شبان أثيوبيون.

ولكن، ليس من قبيل المصادفة أن يحتل هذا الموضوع البنود الأولى التي تتصدر لائحة الاتهام هذه، ذلك أن كثيرين من الجنود الموقعين على هذا البيان كانوا قد ذاقوا على جلودهم شخصيا طعم الاعتداءات والإهانات البوليسية، إبان مشاركتهم في نشاطات الحملة الاحتجاجية المذكورة. حتى أن أحدهم يقول إن "الدعوات إلى رفض الخدمة العسكرية قد بدأت تنطلق من هناك".

ويضيف الرافضون إلى تلك البنود في لائحة الاتهام هذه سلسلة أخرى من الشكاوى، التظلمات والمطالب: ضد مراكز "الاستيعاب" (التي يتم فيها ومن خلالها "استيعاب" اليهود المهجَّرين من دول العالم المختلفة إلى إسرائيل، خلال المرحلة الأولى من وصولهم إلى البلاد، ريثما يتم توفير مساكن دائمة لهم)؛ ضد إلزام اليهود المهاجرين من أثيوبيا الذين يغادرون "مراكز الاستيعاب" بالانتقال إلى السكن في مناطق معدة لهم خصيصا، لكنها منكوبة بالجريمة والمجرمين؛ ضد معالجة القضايا التربوية للأثيوبيين من خلال قسم استيعاب المهاجرين الجدد "حتى حين يكون الأهل والأولاد من مواليد إسرائيل"! (في كل جسم حكومي هنالك "قسم استيعاب" تابع لـ"وزارة الاستيعاب" مسؤول عن الاهتمام بالمهاجرين اليهود من أثيوبيا ومتابعة قضاياهم، حتى لو كانوا مولودين، هم وأهلهم، في إسرائيل، مما يمنع اندماجهم الحقيقي في المجتمع الإسرائيلي ويكرس منظومة الفصل والعزل. وقد تظاهر اليهود الأثيوبيون ضد هذه الأقسام مرارا)؛ ضد المدارس التي ترفض انضمام أطفال وأولاد أثيوبيين إليها؛ ضد رفض المؤسسات الصحية المعنية (وخصوصا "بنك الدم") الحصول على تبرعات دم من اليهود الأثيوبيين وإبادة جميع وجبات الدم التي تم جمعها منهم ـ وهو ما كشف النقاب عنه في تحقيق صحافي نشر في إسرائيل؛ ضد الفصل في المقابر، بحيث يتم دفن اليهود الأثيوبيين في أجزاء خاصة، مفصولة عن قبور اليهود الآخرين، وضد الفصل في "الخدمات الدينية" التي تقدمها المحاكم الدينية (الحاخامية) ومؤسساتها المختلفة.

فحص إمكانيات التوجه إلى قنوات دولية!

يؤكد الجنود الأثيوبيون في رسالتهم أنه "لم يبق أمامنا خيار آخر. وطالما بقيت العنصرية مسألة طبيعية في هذه الدولة، فلن يكون بإمكاننا مواصلة تأدية الخدمة العسكرية". ويضيفون: "إن واصلنا الصمت، فسيطلقون النار علينا غداً... ستكون المسألة مسألة وقت فقط، لا أكثر".

والأشخاص المركزيون في مجموعة الرافضين هذه يؤكدون أنهم يعملون على تجنيدها وبلورتها وتركيزها منذ بضعة أسابيع، لكن موعد النشر جاء عفويا تماما، رداً على تصريح المفتش العام للشرطة الإسرائيلية، روني ألشيخ، الأخير الذي دافع فيه عن تعرض الشرطة واشتباهها لليهود من أصل أثيوبي أكثر من سائر المواطنين (اليهود)، وتبريره ذلك، ردا على سؤال حول الاتهامات المتكررة بشأن عنف الشرطة والتمييز العنصري ضد الأثيوبيين اليهود، بالقول إن "الأبحاث من أنحاء العالم، بدون استثناء، أثبتت أن المهاجرين يرتكبون الجرائم أكثر من غيرهم، ولا يجب أن يكون هذا مفاجئا"!! وهو تصريح أثار غضبا واستياء عارمين بين أبناء الجالية الأثيوبية التي طالب زعماؤها وممثلوها باعتذار المفتش العام للشرطة رسميا واستقالته من منصبه!

وقال أفيشاي تسهجون باروخ، أحد النشطاء والمبادرين المركزيين لحملة رفض الخدمة العسكرية هذه، إن الحملة تستقطب آخرين من أبناء الجالية يوميا، زيادة على الذين وقعوا على البيان حتى الآن وبلغ عددهم 322 جنديا في الاحتياط. وأضاف: "نحن نفكر الآن في كيفية توسيع نشاطنا ونضالنا ونفحص، أيضا، إمكانية التوجه إلى قنوات دولية"!

وقال باروخ إن "القشة التي قصمت ظهر البعير، من ناحيتي، كانت حادثة الجندي دماس بيكدا". وهي الحادثة التي التقطت فيها كاميرات التصوير شرطيا ينهال على شاب أثيوبي بالضرب المبرح وهو ملقى على الأرض في مدينة حولون في نيسان 2015، دون أي ذنب اقترفه. ورغم شريط التصوير الواضح، ورغم أن هذه الحادثة فجرت حملة واسعة وعنيفة من الاحتجاجات الجماهيرية من قبل أبناء الطائفة الأثيوبية، إلا أن المستشار القانوني السابق للحكومة، يهودا فاينشطاين، قرر في حزيران 2015 إغلاق ملف التحقيق ضد الشرطي المعتدي وعدم تقديم لائحة اتهام بحقه. وذكّر باروخ بأنه قبل أسبوع واحد من حادثة الشاب دماس بيكدا وقعت حادثة أخرى في مدينة القدس، إذ تعرض شاب حريدي تجند في الجيش إلى اعتداء تخلله البصق عليه في الشارع. وعندئذ، تجندت قيادة الجيش العليا وطالبت بمعاقبة المعتدين على الشاب الحريدي. وقال باروخ: "أقاموا الدنيا في تلك الحادثة ولم يقعدوها. أذكر أنني قلت في نفسي: كل الاحترام! أنت مُلك للجيش، يسيئون إليك أو يمسّون بك، فيهب الجيش ويتدخل. ثم جاءت حادثة دماس، لكن الجميع لاذ بالصمت المطبق، ثم أغلقوا الملف ضد الشرطي المعتدي. وتتساءل، في قرارة نفسك: ما الفرق بين الشابين؟ ما الفرق بين الحادثتين؟ وماذا سأفعل لو أن مثل هذا حصل لي وأنا أؤدي الخدمة العسكرية في الاحتياط؟ ... حتى البزة العسكرية الرسمية لن تنقذني من أفراد الشرطة أو الجيش"!!

وقال ناشط مركزي آخر، هو ججاو بيمرو (30 عاما)، وهو طالب جامعي في كلية الزراعة في الجامعة العبرية ـ رحوفوت، وخريج وحدة الكوماندوس "ماجلان": "نريد إيصال صوتنا إلى كل مكان، إلى المؤسسة، إلى السلطة، إلى النظام. لقد كنت عضوا في لجنة بلمور (اللجنة لاستئصال العنصرية ضد اليهود المهاجرين من أثيوبيا)، جلست هناك في جلسات ومحادثات كثيرة مع ممثلي وزارات حكومية مختلفة، لكنك ترى بوضوح أن العنصرية من وجهة نظرهم أمر معياري وطبيعي تماما. "طبيعي"، بالضبط كما قال المفتش العام للشرطة. في مثل هذا الوضع، لا يمكنني الاستمرار في تأدية الخدمة العسكرية".

ويضيف بيمرو: كانت هناك اعتداءات بوليسية عديدة تعرض لها شبان أثيوبيون لكن أحدا من المسؤولين، في أي مستوى أو مجال، لم يحرك ساكنا. بعض الشبان من أبناء الطائفة بادروا إلى تنظيم مظاهرات احتجاج رُفعت فيها شعارات جميلة، لكن الجميع بقي ينظر إلينا بكوننا "أثيوبيين هادئين ولطيفين ينفّسون غضبهم"، ثم تعود الأمور إلى طبيعتها ولا شيء يتغير. وأنا أتساءل: "أين، إذن، يمكنني إعلاء صرختي الاحتجاجية، بعد، طالما حقوقي تداس يوميا؟ وهكذا توصلت إلى الجواب: لن أؤدي هذا الواجب ولن أؤدي الخدمة العسكرية الاحتياطية".

ويؤكد بيمرو: "المشكلة أنك تلاحظ، المرة تلو الأخرى وفي كل مكان تقريبا، نظرة الاحتقار والإهمال التي يعتمدها النظام ضدك. أنا أيضا ذهبت وشاركت في المظاهرات. رأيتهم كيف استعدوا مسبقا لقمعنا في تل أبيب، مزودين بالخيالة وقنابل الغاز وكل ما استطاعوا، وكأنهم قادمون إلى جبهة حرب، لا إلى مواجهة مواطنين يعبرون عن غضبهم ورأيهم ومطالبهم. وقد تعرضتُ أنا شخصيا، أيضا، للعنف البوليسي. رجال الشرطة رشّوني بالفلفل ثم أتت "ماحش" (وحدة التحقيقات مع رجال الشرطة) وأغلقت الملفات بحقهم. وهكذا، وصلنا إلى هذه الخطوة، إذ قررنا: لن نصمت بعد اليوم وسنصعّد حملتنا الاحتجاجية".

"الجيش أقل قدسية منّا نحن البشر"!

منذ بداية انتظامهم، ثم نشر رسالتهم، لم يُستدعَ أي من أفراد المجموعة ال 322 الموقعين حتى الآن لتأدية الخدمة العسكرية (في الاحتياط)، كما لم يتعرض أي منهم لأية مساءلة لدى سلطات الجيش حتى الآن. لكن المبادرين إلى هذه الخطوة يعبرون عن إدراكهم لأبعادها والأثمان المحتملة التي قد يضطرون إلى دفعها، شخصيا، مؤكدين أنهم مستعدون لذلك.

وقال بيمرو: "لن نتوقف مهما كان الثمن الشخصي. بل سنوسع الحملة ونجعلها دولية، بالتوجه إلى عناوين وجهات دولية، لأن مسألة العنصرية والتمييز ضد السود هي مسألة عالمية".

وأضاف باروخ أن بعض ردود الفعل من أبناء الطائفة "المعروفين"، كما وصفهم، حاولوا صدّهم وردعهم عن هذه الخطوة بالعزف على وتر أن "الجيش هو بقرة مقدسة"! وقال: "لكنني أقول لهؤلاء إنني أنا المقدس الأكبر. نحن، كبشر، المقدسون. الجيش أقل قدسية منا. ومَن يعتقد بأن الجيش أكثر قدسية من حريّتنا، فليواصل تأدية الخدمة العسكرية... ما من شك في أن خطوتنا هذه حادة، استثنائية ومتطرفة، ونحن نقوم بها جراء يأسنا من هذا الوضع"!

ومع هذا، يحرص المبادرون إلى هذه الحملة وقادتها على التشديد على أن "رفضنا تأدية الخدمة العسكرية هو رفض مؤقت فحسب، طالما بقيت العنصرية الرسمية المؤسساتية مستمرة ضد اليهود الأثيوبيين". ويضيف هؤلاء: "نحن لا نعترض على أهمية الجيش ولا نشكك بها. لا نحاول إسقاط الحكومة ولا نتعامل بالسياسة، أصلا، وإنما بالاحتجاج الاجتماعي فقط. لا يسار عندنا ولا يمين، رغم أن بين الموقعين نشطاء وأعضاء في أحزاب سياسية مختلفة، من البيت اليهودي وحتى الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة".

المصطلحات المستخدمة:

حولون

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات