حذرت دراسة صدرت في إسرائيل في العام 2011 وحملت عنوان "إسرائيل 2010 - 2030، في الطريق إلى دولة دينية" من أن إسرائيل تسير في اتجاه التحوّل إلى دولة دينية بصورة تشكل خطرا على استمرار وجودها.
وقد أعد الدراسة رئيس معهد "حايكين للأبحاث الجيو - إستراتيجية" في جامعة حيفا البروفسور أرنون سوفير الذي يعتبر أحد أبرز خبراء الشؤون الديمغرافية في إسرائيل، وواضع مخطط تهويد الجليل، ونُشرت ترجمة عربية لها ضمن سلسلة "أوراق إسرائيلية" الصادرة عن مركز مدار (الرقم 55).
وقال بيان صادر عن جامعة حيفا إن هذه الدراسة هي استمرار لدراسات سابقة أعدها سوفير وتصف التحولات الديموغرافية التي تمر على المجتمع الإسرائيلي من خلال التركيز على النمو الطبيعي في الوسط اليهودي الحريدي (أي اليهود المتزمتين دينيا) والوسطين الديني والعلماني وبين العرب وانعكاسات ذلك على هذه التحولات.
وتوصل سوفير إلى استنتاجات مفادها أن المتدينين اليهود سيشكلون أغلبية بين السكان في إسرائيل في العام 2030، وأن هذا أمر "من شأنه أن يؤدي إلى أحد ثلاثة سيناريوهات. وفيما يلي ما كتبه بهذا الشأن:
السيناريو الأول: ما كان هو ما سيكون
بما أن القيادة الإسرائيلية، في العقود القريبة على الأقل، لن تكون مختلفة عن تلك الموجودة اليوم، فكل المخاطر والتهديدات التي فصلت في الدراسة ستبقى ماثلة وستتعاظم. وسنشهد، في المستقبل، مزيدا من ضعف الديمقراطية مقابل القوى الدينية المناوئة للديمقراطية، وعجز الكنيست عن تأدية مهماته، واستفحال الفوضى المتحولة إلى قاعدة معيارية. وفي غياب القدرة على الحكم، ستتعاظم الحركة في اتجاه تل أبيب لتفقد المناطق اليهودية البعيدة عن المركز وزنها الديمغرافي - الاقتصادي حتى الانهيار المزدوج، أي انهيار الأطراف البعيدة عن المركز من جهة، وانهيار دولة تل أبيب من جهة أخرى.
على صعيد جودة الحياة والمستوى المعيشي، نرى أن الانهيار قد بدأ، ومن المتوقع أن يستمر ويزداد تسارعا في المستقبل، إذ ستعج إسرائيل بالأولاد الحريديم الفقراء نسبيا، وبالسكان العرب البدو كثيري الأولاد والفقراء جدا. وهؤلاء جميعا سيقودون إلى تدهور إسرائيل نحو العالم الثالث.
ونظرا لأن شيئا لن يتغير على الساحة السياسية - الحزبية، ففي انتخابات 2030، أو في الطريق نحو 2040، ستظهر في إسرائيل أغلبية من المتدينين، وسيسنّ الكنيست سلسلة طويلة من القوانين الدينية، وسنشهد هجرة واسعة من العلمانيين إلى خارج الدولة. أما الذين سيبقون هنا فهم الضعفاء غير القادرين على ضمان احتياجات المجتمع العصري - الغربي، وسيزداد مستوى الحياة تراجعا وتدهورا.
وفي الوقت نفسه، ستكون الديانة الإسلامية هي الأوسع والأقوى بين الديانات في العالم. والإسلام في إسرائيل سيكون أكثر عدوانية مما هو عليه اليوم، وسيقف قبالته مجتمع متعصب حقا، لكنه واهن. الحلم الصهيوني سيبلغ، عندئذ، نهايته المأساوية، وسيتفرق شعب إسرائيل في الشتات مرة أخرى، ليواجه من جديد لاسامية قاسية، وبوغرومات وخطر الاختلاط (التزاوج مع شعوب أخرى). وستبقى الصهيونية مجرد فصل قصير آخر في تاريخ إسرائيل والأمم.
السيناريو الثاني - الأغلبية العلمانية خلال الأعوام 2010 - 2020 ستعود إلى رشدها!
لا شك في أن الجمهور العلماني سيبقى في إسرائيل منذ الآن وحتى العام 2030. وهو لن يرضى بواقع الحياة الدينية الراديكالية. وسيواصل صراعه ضد الراديكالية الدينية مختبرا خطوات شتى لتغيير الوضع. لكن مهمته لن تكون سهلة في ضوء الوجهات الديمغرافية. إن إحدى الطرق التي سيتم اختبارها قد تكون تغيير طريقة الانتخابات ورفع نسبة الحسم في انتخابات الكنيست. هذه الخطوة قد تزيد، في ظروف معينة، من قوة الأحزاب الكبيرة، ما سيؤدي إلى نشوء ائتلافات حكومية أكثر ثباتا واستقرارا وإلى تعزيز قدرة الحكومة على الحكم.
يمكن التوقع بأن تشكيل ائتلافات من دون القوى الدينية سيتيح لحكومة إسرائيل إمكان تغيير الوضع القائم وإنجاز "ثورة علمانية" في التعليم، وسوق العمل، والخدمة العسكرية، وشبكة المواصلات وغيرها. ومع ذلك، يجب أن نتذكر أن النظام الديمقراطي في إسرائيل يعترف بحقيقة أن المجتمع الإسرائيلي هو مجتمع متعدد الشروخ، ولذا فإن رأي الأغلبية لن يُفرض على الأقلية، في حالات عديدة وعن سبق عمد. ولكن، ثمة شك قوي في ما إذا كانت الخطوات الحادة، مثل تعزيز قوة رئيس الحكومة على نحو دراماتيكي، أو تغيير طريقة الحكم إلى نظام رئاسي، قادرة على حل مشكلات المجتمع المستعصية من دون تعميق الشروخ، ومن دون دفع قوى راديكالية إلى ممارسات أكثر تطرفا. وعلى أية حال، من شأن ائتلاف علماني تشارك فيه كل الأحزاب العلمانية فقط أن يتمكن، فعليا، من تكوين أغلبية قادرة على اتخاذ القرارات في الاتجاه الذي أشرنا إليه. ائتلاف كهذا يمكن تشكيله شريطة إنهاء الصراع اليهودي - الإسرائيلي فقط، ما يتيح تقديم القضايا الاجتماعية على القضايا الأمنية.
هل هذا واقعيّ؟
يبدو أن الديمقراطية الإسرائيلية، في نسقها الحالي، عاجزة عن توفير الرد على التحديات العديدة التي أشرنا إليها. ورغم ذلك، علينا البحث عن طريقة للعمل - سوية مع الحفاظ على مبادئ الديمقراطية واجتياز حواجز المماطلة البيروقراطية والقضائية.
في الدولة الأكثر اكتظاظا في العالم الغربي، التي سيزداد فيها الاكتظاظ أكثر فأكثر، لا يعقل أن يتوقف البناء في أي كيلومتر جديد من الشوارع أو سكة الحديد، وأي أنبوب مياه، وأي منشأة لتحلية المياه وكذلك إقامة جدار الفصل - جدار الحياة بالنسبة لإسرائيل - بسبب سلسلة من الالتماسات إلى المحكمة العليا التي تعيق البناء، أو بسبب الرضوخ لضغوطات تمارسها مجموعات مصلحجية تعرقل أية عملية إيجابية وضرورية.
سيكون من الضروري تقليص المعوقات القضائية والمماطلة المرافقة (التي ينبع بعضها من فائض المحامين الضجرين ومن انعدام النجاعة في القطاع العام). لا يعقل أن يقرر "فتيان المالية"، وهم شلة من الفتيان الذين تلقوا تأهيلهم في كليات الاقتصاد في المؤسسات الأكاديمية من دون أن تكون لديهم أية خلفية جيو- سياسية، سلم الأفضليات في الدولة. يمكن الاستعانة بهم، لكن لا يجوز منحهم حق الفيتو في القرارات المصيرية ذات الأهمية القومية العليا. كذلك، ينبغي لجم جموح أصحاب الرساميل الذين يديرون، فعليا، "دولة تل أبيب" (وربما وارسو، بوخارست، ريغا وفيلنوس أيضا) ويتجاهلون المناطق البعيدة عن المركز في إسرائيل. يجب أن نعيد إلى قاموس السياسة الحزبية الإسرائيلية مصطلحات "المصلحة القومية" و"سلم الأفضليات القومي". إذا فعلنا هذا، فسنبقي أملا لدولة يهودية مع متدينين كثيرين حقا، لكن عصرية وغربية أيضا.
السيناريو الثالث – إسرائيل دولة دينية
إذا ما افترضنا استمرار حالة القدرة على الحكم في إسرائيل على ما هي عليه اليوم وعدم قيام ائتلاف علماني، فإن ما كان هو ما سيكون: الصراع الإسرائيلي - العربي سيستمر وسيبقى الأمن، بالتالي، في رأس سلم الأولويات. والمجتمع الحريدي سيزداد اتساعا، وكذلك الفقر، إذ إنه بالرغم من كون هذا الجمهور حكيما جدا، إلا إنه لن يكون من السهل دمج أبنائه في عالم التكنولوجيا والحداثة. والحقيقة أن هذا الجمهور منضبط للغاية وفي مقدوره النهوض بمشاريع قومية نسي العلمانيون، منذ زمن بعيد، كيفية إنجازها. لا بل إنه في موازاة التخاذل العلماني، ربما يبدي المتدينون جميعا إصرارا قوميا - مدنيا، وعسكريا أيضا، فيقدمون ردا على ما يحصل في الجانب الآخر من المتراس - الإسلام المتطرف في سنوات الثلاثين من القرن الحالي.
بما أن كثيرين من العلمانيين سيهجرون البلاد، في إطار هذا السيناريو، فسيضطر الباقون إلى القبول بنمط حياة ديني وبأنظمة دينية. الاكتظاظ السكاني الشديد، والعنف المستفحل، وثقافة الـسكن التي تميز الحريديم، لن تشكل عوامل داعمة لجودة البيئة، للمتنزهات الخضراء ومنهج التخطيط القومي المنظم. والجيش الإسرائيلي سيبقى على حاله، ولكن مع مزيد من القبعات الدينية. الطيارون سيكونون حريديم، وكذا المقاتلون في الوحدات الميدانية وفي شتى المنشآت والمراكز الاستخباراتية. وعدد المتهربين من الخدمة العسكرية في تل أبيب سيتناقص كلما تفشى التديّن في البلاد.
وفي كل الأحوال، فإن "الديمقراطية الفوضوية" السائدة في إسرائيل منذ بضعة عقود تقف عند شفا تغيرات عميقة.
ومن بين السيناريوهات الثلاثة التي عرضناها هنا، يبدو لنا هذا الأخير الأكثر احتمالا للتحقق. ومن الجلي أنه إذا ما دفعت القيادة الدينية شعب إسرائيل في اتجاه ضم مناطق يهودا والسامرة (الضفة الغربية) وقطاع غزة، فإننا نعود بذلك إلى السيناريو الأول والأشدّ فظاعة.
وماذا بشأن مجابهة المشكلات الموضوعية المتمثلة في الاكتظاظ الشديد والنزاع القومي المرير؟ سيتوجب على إسرائيل الاستثمار أكثر في شبكات المواصلات الناجعة (القطارات السريعة التي تغطي البلاد كلها، أولا وقبل أي شيء آخر)؛ نقل جميع المؤسسات القومية التي لا تزال قائمة في تل أبيب إلى القدس، إذ إن قيادة دينية ستكون أكثر إصغاء من العلمانيين لاحتياجات العاصمة. ولن يكون ثمة مهرب من تشريع قوانين صارمة ضد استمرار البناء في مختلف أنحاء الدولة التل أبيبية. وبالفعل، ستكون هذه دولة أقل ديمقراطية - فوضوية وأكثر إكراها.
سيكون لزاما وصول ميزانيات الثقافة والتعليم والصحة إلى المناطق النائية عن المركز، فيما سيتغلغل إلى المدارس في تل أبيب ضباط الثقافة والإعلام، وهو ما يحاولون صدّه الآن في عدة مدارس نخبوية. وإزاء السيرورات الديمغرافية التي عرضت آنفا، يجب أن يكون تدريس مواضيع البيئة والجماليات إلزاميا من روضات الأطفال وحتى المدارس الثانوية. وسعيا إلى مواجهة الازدياد المتوقع في عدد الأولاد الحريديم في المدارس الإبتدائية، سيتوجب جعل تدريس المواضيع الأساسية جزءا لا يتجزأ من أي منهاج تعليمي في إسرائيل، بغية إكساب كل مواطن في الدولة الأدوات الأساسية اللازمة لمواجهة تحديات سوق العمالة الحديثة في عالم متطور وتنافسي.