المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
مشهد جوي يُظهر فلسطينيين ينتظرون السماح لهم بالعودة إلى منازلهم في شمال غزة عشية دخول الهدنة حيز التنفيذ. (وكالات)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 92
  • وليد حباس

منذ أواخر القرن التاسع عشر، تأسست الصهيونية، فور التقائها بأرض فلسطين، على السردية القائلة بـ "شعب بلا أرض لأرض بلا شعب" كمبرر للاستيطان وإقامة دولة إسرائيل. رافق هذا المشروع خطاب يؤكد على ضرورة "نفي المنفى" باعتباره الخيار الوحيد لتجاوز الشتات اليهودي، الذي يُنظر إليه كتهديد وجودي لليهودية، سواء من خلال معاداة السامية العنيفة (الهولوكوست) أو عبر اندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية الحداثية والعلمانية. بناءً على ذلك، لم يغب النقاش الإسرائيلي حول "إزالة" السكان العرب من فلسطين- الذين يُنظر إلى وجودهم على الأرض كعائق أمام تحقيق المشروع الصهيوني- عن الكتابات الصهيونية، سواء في مراحلها المبكرة أو الراهنة. بل بقي هذا النقاش حاضرًا باستمرار في المخيال الإسرائيلي، وإن تراجعت أهميته أو معقوليته في فترات مختلفة من تاريخ دولة إسرائيل.

منذ أواخر القرن التاسع عشر، كان مفهوم "الترانسفير" (النقل القسري) جزءًا أساسيًا من الفكر والممارسة الصهيونيَّين. في العام 1895، كتب تيودور هرتسل، مؤسس الصهيونية السياسية، في مذكراته: "علينا أن نستولي على الملكية الخاصة في الأراضي التي تُخَطّط لنا، وسنسعى لتهجير السكان المعدمين عبر الحدود". لاحقًا، في العام 1914، أشار حاييم وايزمان، الذي أصبح أول رئيس لإسرائيل، إلى فلسطين بأنها "أرض خالية"، ونقل عن البريطانيين قولهم: "هناك بضع مئات من الزنج (كوشيم) لا قيمة لهم". في أواخر الثلاثينيات، عبّر دافيد بن غوريون، الذي أصبح أول رئيس وزراء لإسرائيل، عن دعمه للترانسفير القسري. في العام 1937، كتب في مذكراته أن الصهيونية يمكن أن تسيطر على كل فلسطين الانتدابية (من النهر إلى البحر) على مراحل. وفي اجتماع للوكالة اليهودية العام 1938، صرّح: "أنا أحبذ الترانسفير بالقوة، ولا أجد في ذلك أي شيء يخالف الأخلاق". في العام 1948، ترأس يوسف فايتس، رئيس دائرة الاستيطان في الصندوق الوطني اليهودي، لجنة "الترانسفير" الرسمية التابعة للحكومة الإسرائيلية، ولعب دورًا محوريًا في عمليات تهجير الفلسطينيين. في العام 1948، أدى تطبيق هذه السياسات إلى تهجير نحو 700,000 فلسطيني من ديارهم، حيث فرّ أو طُرد نحو 85% من السكان الفلسطينيين في المناطق التي أصبحت إسرائيل. في العام 1967، خلال "حرب الأيام الستة"، تم تهجير نحو 300,000 فلسطيني إضافي من الضفة الغربية وقطاع غزة إلى الدول المجاورة. كما أن الحكومة الإسرائيلية شكلت لجنة لتهجير سكان قطاع غزة إلى أميركا اللاتينية (1968-1970)، وباشرت في تنفيذها قبل أن تفشل.

سياسات الاحتلال وإدارة السكان بعد العام 1967

أدى احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة العام 1967 إلى توسيع نطاق السيطرة الإسرائيلية ليشمل مليون فلسطيني إضافي (الآن، يصل عدد سكان الأرض المحتلة إلى نحو 5 ملايين)، مما زاد من تعقيد المشهد الديمغرافي والسياسي في إسرائيل. ولا بد من التأكيد على أن إسرائيل، ومنذ السبعينيات ووصول مناحيم بيغن إلى الحكم، لم تنظر إلى الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس كمرحلة مؤقتة، بل كامتداد للمشروع الاستيطاني التوسعي. وبالتالي، لم تضع دولة إسرائيل بتاتًا أي تصورا يتعلق بتسوية المصير السياسي للفلسطينيين (إقامة دولة فلسطينية أو الانسحاب من الأرض المحتلة)، وإنما بذلت كل جهدها في وضع خطط لإقصاء الفلسطينيين. في السياسة الأكثر اعتدالًا لإقصاء الفلسطينيين تبرز اتفاقيات أوسلو التي أخرجت الفلسطينيين من الفضاء السياسي لدولة إسرائيل ومنحتهم "جنسية فلسطينية"، لكن حاصرت أماكن سكنهم وحولتها إلى معازل. في السياسة الأكثر تطرفًا لإقصاء الفلسطينيين، ظل مفهوم الترحيل، الطوعي والقسري، حاضرًا كخطة عمل، مثل حزب موليدت، أحزاب الصهيونية الدينية الخلاصية، التيار المحافظ داخل الليكود، واليوم لدى شريحة آخذة في التوسع.

كانت هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 بمثابة "الخميرة" التي أعادت تنشيط وإعلاء خطاب التهجير بشكل صريح ومباشر، ونقلته من "الأرشيف" (بعد أن تحول إلى خطاب فانتازي في القرن الواحد والعشرين) لتضعه من جديد على طاولة اتخاذ القرار في إسرائيل. وردود الفعل الإسرائيلية الرسمية على خطة الرئيس الأميركي ترامب الجديدة كانت على النحو التالي:

  1. حزب الليكود: أعرب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن دعمه للخطة، واصفًا إياها بأنها "فكرة رائعة" و"أول فكرة جيدة" يسمعها. وقال نتنياهو: "ما المشكلة في السماح للغزيين الراغبين بالمغادرة بالمغادرة؟". بالإضافة، برزت أصوات أخرى داخل حزب الليكود تؤيد هذا التوجه. على سبيل المثال، بادر عضو الكنيست أفيحاي بورون إلى تنظيم عريضة موجهة إلى نتنياهو، يطالبه فيها بتنفيذ ما يُعرف بـ"خطة الجنرالات" لترحيل سكان قطاع غزة. من جانبه، أشار أمير فايتمان، رئيس جناح "الليبراليين" في حزب الليكود، إلى ضرورة استغلال الفرصة الحالية لطرد سكان غزة، محذرًا من تفويت هذه الفرصة كما حدث بعد حرب 1967. وقد أعد فايتمان مشروعًا بالتعاون مع رجل الاقتصاد الإيطالي مرسيلو دي مونتيه، يهدف إلى نقل سكان غزة إلى مناطق داخل مصر، مثل القاهرة ومدن أخرى. ومنذ بداية العام 2024، وبالتحديد خلال مؤتمر "النصر: الاستيطان يجلب الأمن" بالقدس، دعا وزراء من الليكود، مثل حاييم كاتس وميكي زوهر، إلى إعادة الاستيطان في غزة، مؤكدين أن الاستيطان يجلب الأمن، وكانت قضية "التهجير الطوعي" لسكان القطاع من الخطابات البارزة بشدة خلال هذا المؤتمر الذي حضره نحو 12 وزيرًا و15 عضو كنيست.
  1. أحزاب الصهيونية الدينية والكهانية: أعرب قادة المستوطنين في الضفة الغربية عن ابتهاجهم بخطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإخلاء قطاع غزة من سكانه وإعادة تطويره. وصف يوسي داغان، رئيس مجلس السامرة، هذا بأنه "لحظة نادرة لأعمال تاريخية" ودعا إلى "فرض السيادة في يهودا والسامرة". وأضاف يسرائيل غانتس، رئيس المجلس الإقليمي بنيامين ورئيس مجلس يشع، أن هذا يمثل "نهاية الحلم الفلسطيني". كما سارع وزير المالية بتسلئيل سموتريتش وعضو الكنيست إيتمار بن غفير إلى الترحيب بالخطة. ويرى المستوطنون أن هذه الخطة فرصة تاريخية لفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، معربين عن دعمهم لإعادة توطين الفلسطينيين في دول أخرى.
  1. حزب "إسرائيل بيتنا" من خارج الإئتلاف: من جانبه، أيد رئيس حزب "إسرائيل بيتنا" النائب أفيغدور ليبرمان الاقتراح قائلا: "أشكر الرئيس ترامب على التزامه المطلق بأمن إسرائيل، وإطلاق سراح جميع الرهائن وإيجاد حل عادل في قطاع غزة يمر عبر شبه جزيرة سيناء وبالتعاون مع مصر، للقضاء على نظام حماس، وكذلك على موقفه الثابت في مواجهة التهديدات الإيرانية".

 

 

  1. حزب المعارضة "المعسكر الرسمي": أعرب بيني غانتس، رئيس حزب "المعسكر الرسمي"، عن دعمه لخطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي تقترح هجرة سكان غزة طوعًا أو حتى قسرًا إلى دول عربية أخرى. وقال غانتس: "الفكرة القاضية بإنشاء مناطق آمنة ومزدهرة لسكان غزة خارج القطاع، والسماح للراغبين بالانتقال إليها، تستحق التقدير وستُختبر على أرض الواقع. سواء نجحت بالكامل أو جزئيًا، ليس لدى إسرائيل ما تخسره منها، بل ما تكسبه". وأضاف أن المبدأ الأهم الذي طرحه ترامب هو نقل مسؤولية سكان غزة من "حماس" إلى العالم، مما يحوّل غزة من مشكلة إسرائيلية إلى تحدٍ عالمي.

 

  1. أشاد زعيم حزب شاس أرييه درعي بترامب باعتباره يعمل كرسول الله للشعب اليهودي، معترفًا بدعمه الثابت لإسرائيل ضد خصومها.

وقد أظهر استطلاع أجرته "أخبار 14" أن 76% من الإسرائيليين يدعمون خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لنقل سكان قطاع غزة إلى دول أخرى، بينما عارضها 16%، وامتنع 8% عن إبداء رأيهم. أُجري الاستطلاع في 6 شباط 2025، وشمل 506 مشاركين بالغين، مع هامش خطأ ±4.5%. في استطلاع آخر لـ"أولبان شيشي"، أيد 69% من المشاركين الخطة، لكن 50% منهم شككوا في إمكانية تنفيذها. تفاوتت الآراء حسب الانتماء السياسي؛ إذ دعم 90% من مؤيدي الائتلاف الحكومي الخطة، مقابل 58% من معارضيها. 

بالإضافة إلى ذلك، أظهر استطلاع أجرته صحيفة معاريف أن 47% من الإسرائيليين يعتقدون أن خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن مستقبل قطاع غزة قابلة للتنفيذ، في حين أن 38% يرون أنها غير قابلة للتطبيق، و15% لم يبدوا رأيًا. فقط 13% من المستطلعين الإسرائيليين اعتبروا خطة التهجير "غير أخلاقية" ورفضوا فكرة "الترحيل". ويُلاحظ أن 78% من مؤيدي أحزاب الائتلاف الحكومي يعتقدون بإمكانية تنفيذ الخطة، في مقابل 58% من معارضي أحزاب المعارضة الذين يرون عكس ذلك. مثلا، انتقد الكاتب غور مغيدو موقف زعيم المعارضة الإسرائيلية، يائير لبيد، الذي اكتفى بوصف المؤتمر الصحافي بين ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه "جيد لإسرائيل".

من بين أطراف المشهد السياسي- الحزبي، يبرز زعيم حزب "الديمقراطيون" يائير جولان باعتباره الصوت اليهودي السياسي الوحيد الذي تجرأ بالجهر علنًا ضد إعلان ترامب، واعتبره خطوة  من أجل تصدّر عناوين الصحف فقط وتفتقر إلى فرص التطبيق العملي. وشدد على أهمية التعاون مع الولايات المتحدة والدول العربية المعتدلة لضمان إعادة الإعمار بشكل يحافظ على أمن إسرائيل وإشراك السلطة الفلسطينية في ذلك.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات