المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
.. من الفيلم. (صحف)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 47
  • سماح بصول

في العام 2022 قدّم المخرجان، الفلسطيني رامي يونس والأميركية اليهودية سارة فريدلاند، فيلماً وثائقياً يعتبر الأول الذي يواكب بنوعٍ من الشموليّة قصة المدينة الفلسطينية العريقة "اللد". بعد سنة هادئة عُرض الفيلم خلالها في عدد قليل من المهرجانات العربيّة والعالميّة اكتشفت الحكومة الإسرائيليّة سرّ الفيلم فمدّت ذراعها الشرطيّ محاولةً منع عرضه في مسرح السرايا العربيّ في يافا وترهيب منظمي العرض بحجة المحتوى التحريضيّ، فهل هذا حقاً ما يدفع حكومة لمحاربة فيلم؟

المشهد الأول الفاتح لـ "لدّ" هو صور للمكان، طرقات وأطفال وبيوت وسكّة قطار، ثم تظهر صورة واسعة لشطرين متناقضين لمدينة واحدة، شطر مكتظ وشاحب وفي الخلفية شطر آخر أكثر بياضاً وارتفاعاً للمباني، للوهلة الأولى قد تكون هذه الصورة ناتجاً طبيعياً لتطور مدينة، يحافظ جزؤها الأقدم على أصالته فيما ينشأ إلى جانبه جزء أكثر حداثة. هنا ينطلق صوت المكان ليوضّح أن المدينة بشطريها المختلفين ليست مثل روما أو أثينا، بل هي نموذج لتفرقة تقوم على أساس عرقي- وهذا التوضيح هو ما يريدون إسكاته!

في حالة فيلم "لد LYD" يبدو سرد الحكاية كنظْم الشّعر، تكون كل الكلمات في اللغة متاحة لكنها حين تتسّق معاً وتصطف واحدة تلو الأخرى وتخلق معنى جديدا يكون القادم كانفجار غير متوقّع. وهنا في تطوّر حكاية "لدّ" يوضع طرفا المعادلة، نحن وهُم، فلسطينيون واسرائيليون، روايتان، شهادة تناقض رواية وشهادة تعزز رواية.

تحوّل البطولة إلى إدانة

اول المتحدثين الفنان عيسى فانوس ابن الرملة الذي كان شاهداً على آثار مجزرة مسجد دهمش في اللد، يشير لنا بأصبعه إلى صورة مدرسيّة وفيها زميل كان يرافقه وآخرين يوم تم اقتياده إلى المسجد لإخراج جثث تعفنّت، جثث رجال ونساء وأطفال قتلوا بالرصاص داخل مسجد – يقول عيسى. يُزامن الفيلم بين شهادة عيسى وشهادات جنود سابقين في عصابة "البلماح" الصهيونية مرتكبة المجزرة، يتحدث هؤلاء عن أدوارهم ووظائفهم وممارساتهم في اللحظات التي سبقت المجزرة ويتمم عيسى التفاصيل ليخلق لنا حكاية متكاملة، ليضع كلمتهم مقابل كلمتنا، ويحوّل شهادات "البلماح" من سرد لحدث إلى إدانة لمرتكبي المجازر من أفواههم – وهذه الإدانة هي ما يريدون تعتيمه!

إن شهادات جنود عصابة صهيونية حول مجزرة ارتكبوها في هذا الفيلم ليست بالأمر الجديد، فقد سبق أن نُشرت وبخاصّة أنها مادة أرشيفيّة، ولكن خَيار الفيلم إعادة نشرها لتخدم رسالته هو ما يجعلها مادةً خطيرةً. إذاً توقيت نشرها، وسياق نشرها، يحولها من مادة بطولية في السياق الصهيونيّ ومادة مثيرة في سياق صناعة الوثائقيات الإسرائيليّة الممولّة من صناديق دعم حكوميّة، ومادة مصيريّة في السياق النقديّ الداخليّ و "النظر في المرآة" ومحاسبة النفس التي ينتهجها هؤلاء عند تقدمهم في السّن، لكنها تتحوّل هنا إلى كتاب إدانة يورّط صاحبه، خاصة وأن رقعة عرض الفيلم عالمياً آخذة بالازدياد ومحتوى الشهادات مثل جمع الناس في مكان محدّد وإطلاق النار عليهم جماعياً وتحويل دار عبادة إلى موقع تركيز، يؤكد بأن ما يحدث اليوم في قطاع غزة هو نهج عمره حوالي 80 عاماً، إذاً ليس هناك مفر من أن ما تمارسه حكومات إسرائيل هو استكمال لما مارسته العصابات الصهيونية قبل قيام الدولة، ولا يزال عملية إبادة– وهذا ما يزيد مخاوفهم في ظل عمل ملفات العدل الدولية والهبّات والتظاهرات الشعبية المساندة للشعب الفلسطينيّ في عواصم العالم!

من اللافت في شهادات جنود عصابة "البلماح" استخدامهم مصطلحات مثل: القضاء على، تركيز، منفى، إبادة، طرد، تطهير المنطقة، نهب وسرقة ممتلكات واللوذ بالفرار، كلمات مستقاة من تجارب شخصية ومن تاريخ اليهود في أوروبا، وفي التمعن في هذه المصطلحات نرى أن المتحدثين شبّهوا أهالي اللد باليهود في منفاهم وهنا نحتار في تصنيف هذه الخيارات، هل هي انتقام لجرم ارتكبه آخرون ولا شأن للفلسطيني به؟ هل هو استنساخ لإجرام آخر؟ في كلتا الحالتين هناك شعب ضحيّة لممارسات شعب آخر وهذا في باطنه تهديد لمستوى الضحويّة التي تتمسك بها الرواية الصهيونية وتبني عليها شعار الوطن القوميّ، ففي فعلها إنتاج لضحية أخرى تنافسها صنعتها هي بيديها بوسائل وأفكار ودوافع عنصرية تماماً كما فعلوا بها – وهذه الزعزعة لمفهوم الضحية هي ما يلطخ شعارهم!

صمود المخيمات

تشتَت أهالي اللد في إثر النكبة وتحولوا إلى مخيمات اللاجئين في فلسطين وخارجها، في صورة أزقة وبيوت المخيم امتداد لمشهد أزقة وبيوت اللد، ليس امتداداً شكلياً في الكثافة والتراص والمداخل وتفاصيل الحواكير الصغيرة، هو امتداد هوياتيّ عاطفيّ حيث لم ينسَ الناس حكاياتهم في مدينتهم بحلوها ومُرّها، يكررون تجاربهم على مسمع الأولاد والأحفاد، تدور حوارات تمرر من خلالها قصة صمود وانتماء، يستذكرون المجزرة والتهجير والنهب كما يستذكرون فرحة "عيد لد" ومركزية المدينة المرتبطة به. وفي الامتداد ذاته تتكرر ملاحقة "اللدادوة" حيثما كانوا، بانتشار الجنود في أزقة المخيم، بالتضييق على حرية الحركة والتحكم بها، وبترهيب الناس.

في حب استطلاع الأطفال ورغبتهم بالمعرفة وتكرار سرد الذكريات الجميلة إلى جانب الشهادة على المجزرة والمقاومة إعادة إنتاج لجيل يعرف أصوله، يعرف حقه، ويعي أن العودة حتمية لمسقط رأس الأجداد. عندما تنتقل الرواية للطفل "اللد كانت مدينة جميلة فيها مطار وسكة قطار" فهذا ميراث وصك ملكية للمكان والتاريخ يغذيان فضاء الحلم الذي لا يمكن لأي قوة احتلاله. حلم الأطفال بالعودة إلى اللد المتخيلة يتحدى دولة الاحتلال، أما سينمائياً فيرى المشاهد فجأة – غير الفلسطيني على وجه الخصوص- حق هؤلاء ومنطقية استعادته سيّما وأن شهادة المُهجَرين تطابقت مع شهادة عدوهم – وهذا ما يهدد رغبتهم بإنتاج النسيان!

بالبيت... بالسمّ!

ضمن زمنية الفيلم، كنا في لدّ النكبة، غادرناها نحو المخيمات ونعود إليها لنرى اللد اليوم، كيف يستمر الاحتلال في الحضور من خلال زحف الاستيطان والتهجير البطيء. تأتي بلدية لتحافظ وتطبق مخططا مسبقا يرمي لطرد الفلسطينيين من اللد وشطب معالمها العربية من خلال فرض السيطرة على الحيز العام وإطلاق التسميات الإسرائيلية على الأماكن. تحارب البلدية إلى جانب الحكومة في معركة الديمغرافيا فتسهل عمليات توطين المتدينين اليهود أصحاب الأيديولوجيات اليمينية، وتُنشئ لهؤلاء مع وزارة الإسكان عمارات شاهقة بمحاذاة مقبرة إسلامية لتهدد الموتى وتضيّق الحلقة حول قبورهم.

يتعامل الفيلم في جزئه هذا مع ثلاث استراتيجيات إسرائيلية لسحب الفتيل الديمغرافيّ قبل أن ينفجر: البيت والعِلم والسّم. في المستوى الأول تقضم البلدية حقوق الفلسطينيين في التعليم فيفرز ذلك بيئة تعليمية لا تتناسب مع احتياجاتهم تضاف إلى المناهج المنحازة فتُنتج هويات مشوهة لدى أطفال لا يفرّق معظمهم بين فلسطين والفلسطيني، يحصرون تعريفاتهم لذواتهم بالعائلة والتحصيل الدراسي، وتنجو قلّة منهم متشبثة بحبال "لدّاوي" و"عربيّ" و "فلسطينيّ". في المستوى الثاني تضيّق البلدية والوزارات الخناق على الحق في المسكن وتسعى لهدم البيوت القائمة بحُجة عدم الترخيص. لا حياة بغياب البيت ولا شعور بالاستقرار، وهناك انشغال دائم في البحث عن المأوى والأمان. أما في المستوى الثالث فجمعٌ ما بين التجهيل وعدم الاستقرار والإفقار وانعدام الفرص الذي يودي بالكثيرين إلى هاوية الإجرام والسموم. في هذا كله عملية إبادة بطيئة – وهذا ما يسعون إلى حجبه عن العالم من خلال تغليفه بالأفكار المسبقّة ووصم الثقافة العربيّة بالتخلّف!

كيف نقرأ "لدّ"؟

لم يسعَ هذا النص إلى قراءة "لدّ" بمصطلحات سينمائيّة صرفة، بل بالنظر إليه كنصّ معمول بصرياً. يحمل هذا النصّ همّاً كبيراً، فهو مثقل بالرسائل، مشبع بالأحداث. يصاحب الكثير من مشاهده صوت اللد تروي تاريخها، تملأ الفراغ البصري أو تفسّر الامتلاء، تلقي بالضوء على بعض التفاصيل، تحذر وتنبه مما كان ومما سيكون وتربط حكاية اللد بحكاية فلسطين كلها. تعود بين الحين والآخر صورة ميدان دهمش الذي تحول إلى ميدان "البلماح"، تدور الأحداث كما يستدير الميدان، وفي الحلقات التي يولّدها الدوران تتشابك الجزئيات. فقبور العرب بين العمارات الشاهقة تذكير بالمقابر التي تجرّف في يافا البحر لتقوم مكانها مشاريع عمرانية في شكلها هدّامة في وجودها- انهم يبنون بيوتاً على جثثنا- لقد بنيت دولة على مجازر. وفي استخدام ايادٍ فلسطينية من الرملة لحمل جثث اللداويين تذكير باستخدام الأيادي من الفريديس لدفن جثث الطنطوريين، إنه سيناريو متنقّل. وفي مداواة أم عيسى لابنها بالبصل محاولة لغسل التراوما بخيرات الأرض ولا زال الفلسطينيون يغسلون أنفاسهم بالبصل محاربين رائحة قنابل الغاز. وفي استذكار المدن الفلسطينية وما تمتعت به من حضارة ومقومات مدينيّة في مقابل محاولات تهويد الآثار وهدمها بناء يهدم فكرة أرض بلا شعب ويفتح عيون المشاهدين ليروا حقائق مغيّبة.

وفي التربة الخصبة يزرعون المبيدات، فعمليات التجهيل الساعية لتشكيل هوية فاقدة للانتماء المكاني والقومي تتجلى في عدم قدرة الأطفال على التعريف بأنفسهم واختيار أولوياتهم الهوياتية، هذه نكبة المدينة، ليست نكبتها في هدم مبانيها وتهويد معالمها فقط، بل محو هوية ورواية ساكنيها ومحاولة اسقاط رواية أخرى على المكان يحصد دويّها روح موسى حسونة. في هذا التصادم ألم يختلف عن التصادم الذي يولده هدم البيوت، الانتقال من همّ فردي إلى همّ جماعي خلال "هبّة الكرامة" أعاد إحياء الهوية الجامعة المفقودة وأوضح الحدود وأثبت أن سقوط شهيد لا يردع جمهور صوّب بوصلته تجاه قضيته.

في مقابل كل صوت إسرائيليّ يضع الفيلم صوتاً فلسطينياً يدحض المقولات المتكررة والبطولات الزائفة والأكاذيب، وفيه بناءان، الأول بناء سردي يعتمد على التضاد كُنا وأتوا، دمروا وصمدنا، قتلوا وحيينا، محوا وبقينا لنستعيد حقنا ونبني مدينتنا المرجوة بخيالنا كي لا نعيش في خيال يُفرض علينا. والثاني بناء زمني يسير نحو المستقبل المنتظر. فيقوم الفيلم في أحد مشاهده بإعادة بناء مبان تاريخية وهو ليس استعراضاً بصرياً بقدر ما هو مقولة ودعوة إلى استعادة اللد الفلسطينية وبنائها من جديد؛ ولهذا يريدون منع عرض الفيلم!

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية, اللد, تهويد

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات