تدل التقارير الاقتصادية الإسرائيلية الجديدة على أن اتساع الحرب على لبنان واستمرارها، زادا من غوص الاقتصاد الإسرائيلي في وحل، لربما سيكون الأعمق منذ عشرات السنين، ففاتورة الحرب المباشرة تتضخم، وهذا انعكس في الزيادة الثالثة لميزانية العام الجاري 2024، واستفحال العجز المالي، وزيادة المديونية الحكومية، وسط توقعات بخفض تدريج إسرائيل الائتماني في العالم، في حين أن الأزمة تستفحل في القطاع الاقتصادي، والخسائر المدنية الجديدة في الشمال توحي بأنها أقرب إلى شلل اقتصادي، وكل هذا يجعل التقديرات للعام المقبل، وحتى ما بعده، تنقلب إلى الأسوأ، ما يؤكد مجددا أن هذه الأزمة سترافق إسرائيل لسنوات، وبات من الصعب تحديد عددها منذ الآن.
فقد قال تقرير دوري لمكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، إنه في الربع الثالث من العام الجاري 2024، بمعنى منذ 1 تموز وحتى 30 أيلول الماضيين، سجل النمو الاقتصادي ارتفاعا مفاجئا بنسبة 0.9%، وبمعدل سنوي 3.8%، إلا أن كل التحليلات الإسرائيلية، أكدت على أن هذا النمو عابر، لا يعكس حقيقة الاقتصاد؛ أولا، لأنه كان عشية توسيع الحرب على لبنان، وثانيا، أن النمو كان ضعيفا إلى درجة شبه انكماش، في النشاط الاقتصادي التشغيلي، وهو الأساس لثبات النمو الاقتصادي، الذي يشمل كل جوانب النشاط الاقتصادي والخدماتي في البلاد.
وحسب تقرير مكتب الإحصاء، فإن ارتفاع النمو كان مصدره أساسا، ارتفاع الاستهلاك الفردي، الذي ارتفع في الربع الثالث بنسبة 5.8%، وهو ما منع انكماش الاقتصاد.
ويقول المحلل الاقتصادي غاد ليئور، في مقال له في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، إن المعطيات الواردة في تقرير مكتب الإحصاء، تضع تقديرات وزارة المالية بشأن النمو الاقتصادي لهذا العام موضع شك، إذ أن الوزارة تتوقع ارتفاعا بنسبة 0.4%، وهو عمليا يعد انكماشا بالنسبة للفرد. ويقصد ليئور هنا أن كل نسبة نمو اقتصادي تقل عن نسبة التكاثر السكاني، وهي 2%، تعد انكماشا فعليا بالنسبة للفرد.
ويتابع ليئور كاتبا أن حال النمو الاقتصادي في هذه المرحلة تسبق الضربات الاقتصادية التي سيتلقاها المواطنون ابتداء من اليوم الأول من العام الجديد القريب، 2025، والتي من شأنها أن تقلص القدرة الشرائية للمواطنين، وذلك على وقع زيادة الضرائب، وتجميد الرواتب والمخصصات الاجتماعية، هذا عدا عن استمرار الغلاء.
واستعرضت الصحافة الاقتصادية حال الاقتصاد الإسرائيلي من خلال تقلب تقديرات وزارة المالية، بين ما كان قبل نحو نصف عام، وبين التقديرات الجديدة. فقبل نصف عام كانت تقديرات الوزارة تشير إلى أن النمو في العام الجاري سيكون 1.6%، بينما التقدير الجديد 0.4%، والتضخم المالي (الغلاء) 2.5%، بينما هو حاليا 3.8%، والعجز في الميزانية العامة 6.6%، وحاليا يلامس 8%، وأن الصادرات ستسجل ارتفاعا بنسبة 0.6%، إلا أنها تراجعت حتى الآن بنسبة 7%، كما كانت التقديرات تشير إلى أن الاستثمارات سترتفع بنسبة 0.3%، ليتضح أنها تراجعت بنسبة 12.5%.
وفي هذا السياق، قال تقرير جديد لوكالة التصنيف الائتماني ستاندرد أند بورز، العالمية، إن الحرب ستستمر في العام المقبل 2025، ولذا فإن بداية الانتعاش الاقتصادي الإسرائيلي ستتأخر إلى العام التالي- 2026. ولا يستبعد محللون أن تصريح الوكالة الهامة هذا قد يكون مقدمة لخفض آخر في تدريج إسرائيل الائتماني.
حرب لبنان تزيد ميزانية 2024
أقرت الحكومة الإسرائيلية، في الأسبوع الماضي، زيادة ميزانية العام الجاري 2024 للمرّة الثالثة على التوالي، وهذه المرّة من أجل تغطية كلفة الحرب الإسرائيلية على لبنان، وبلغت الزيادة 33 مليار شيكل، لترفع الميزانية إلى 620 مليار شيكل، حتى أنها باتت تلامس حجم الميزانية المخططة للعام المقبل 2025، والتي لم تدخل بعد مسار التشريع البرلماني، بتأخير كبير، رغم عدم وجود أي أزمة ائتلافية، تمنع الحكومة من طرح مشروع ميزانية العام المقبل على الكنيست.
إلا أن هذا التأخير يدل على حجم تخبط الحكومة ووزارة المالية، في تقدير احتياجات العام المقبل، في ظل حرب لا يلوح أي أفق لوقفها، فكيف يكون هذا، في حين أن كل أطراف الحكومة تؤيد استمرارها في كل الجبهات، سعيا لتحقيق أهداف لا يبدو أن كلها باتت واضحة ومعلنة، خاصة في قطاع غزة.
وبحسب أقوال مصادر حكومية لوسائل إعلام إسرائيلية، فإن من مسببات زيادة الميزانية بهذا الحجم الكبير نسبيا، 33 مليار شيكل، وما يعادل 5.6% عن آخر حجم مقرر للميزانية، توسيع الحرب على لبنان، وتأخير- من دون تفسير- أموال الدعم الأميركي، الذي من المفترض أنه بلغ 18 مليار دولار (قرابة 67 مليار شيكل)، وبضمنه ميزانيات لتمويل شراء أسلحة، وأيضا لتغطية جزء من العجز الذي بات عند نهاية تشرين الأول الماضي، يعادل 8% من حجم الناتج العام، بمعنى 160 مليار شيكل.
وكانت الميزانية الأساسية للعام الجاري 2024، التي أقرت في ربيع العام الماضي 2023، قبل شن الحرب، 514 مليار شيكل، لكن تم رفعها بثلاث دفعات (تشمل الأخيرة) لتصل إلى 620 مليار شيكل. بينما مسودة ميزانية العام المقبل 2025 تتحدث عن ميزانية صرف عامة بقيمة 620 مليار شيكل، وبات من الواضح أن الحكومة ستعمل على رفعها قريبا.
وبحسب تقديرات المحللين والخبراء الاقتصاديين الإسرائيليين، فإن رفع حجم الميزانية من جهة، وزيادة العجز في الميزانية العامة من جهة أخرى، من شأنهما أن يدفعا وكالات التدريج الائتماني العالمية إلى أن تخفض تدريج إسرائيل مرة أخرى، ليكون مؤشرا لوضعية اقتصادها السلبي، ما يعني أيضا رفع مستوى الفوائد على الديون الإسرائيلية في العالم.
ويشار إلى أنه عشية شن الحرب، قبل قرابة 14 شهرا، كان حجم الديْن العام يعادل 60% من حجم الناتج العام، أي حوالي 120 مليار شيكل ((حوالي 32 مليار دولار)، وهو معدل ديْن مقبول في اقتصاد الدول المتطورة. غير أن التقديرات الحالية تشير الى أن حجم الدين العام سيقفز مع نهاية العام الجاري الى ما يزيد بشكل واضح عن 73% من حجم الناتج العام، وهناك من يرى أن الدين سيكون أكبر.
انهيار اقتصادي في أقصى الشمال
وتنشر الصحافة الاقتصادية الإسرائيلية بشكل دائم تقارير اقتصادية في مجالات مختلفة تعكس الأوضاع الاقتصادية المتردية. وقال تقرير لصحيفة "كالكاليست" الاقتصادية إن العام الجاري شهد تراجعا بنسبة 12% في عدد المصالح الاقتصادية الجديدة، مقارنة مع العام الماضي 2023. وقالت تقارير إن قطاعات عديدة تشهد الضربة الاقتصادية أكثر من غيرها، وبشكل خاص قطاع المطاعم، ليس فقط في شمال البلاد بل إن هذا القطاع يشهد أزمة عامة.
وقال استطلاع للرأي العام أجري في الكلية الأكاديمية في كريات شمونة (كلية تل حاي)، في أقصى شمال البلاد، إن 80% من المصالح الاقتصادية في منطقة الجليل وشمال البلاد تشهد تراجعا في المداخيل منذ أشهر طويلة. كما أن 50% من المصالح الاقتصادية هذه قالت إن تراجع المداخيل عندها بلغ نسبة 65%، وذلك بدون أفق للخروج من الأزمة.
ونشير هنا إلى أن منطقة شمال البلاد، وبجوارها مرتفعات الجولان السورية المحتلة، تتميز بكونها أيضا منطقة زراعية ذات خصوصية، بمعنى أن من منتوجاتها ما يقتصر تقريبا على تلك المنطقة، وهي خسرت مواسم زراعية جدية في الأشهر الـ 13 الأخيرة، وصلت إلى حد إهمال أراض زراعية، أو أن جني المحاصيل لم يكن بالمستوى الكافي.
كذلك فإن سوق العمل في شمال البلاد تشهد تراجعا حادا، مقارنة مع باقي المناطق، وقال تقرير دوري جديد في الأسبوع الماضي لسلطة التشغيل إن عدد طالبي العمل في البلاد تراجع في شهر تشرين الأول الماضي إلى أكثر بقليل من 165 ألف شخص، وهو عدد طالبي العمل الأدنى منذ شن الحرب. وتقدّر القوة العاملة في إسرائيل بحوالي 4.3 مليون شخص. إلا أن نسبة البطالة تبقى عالية جدا في شمال البلاد، مقارنة مع باقي المناطق، ففي حين أن نسبة البطالة العامة لا تصل إلى 3.5%، فإنها في مدينة شفاعمرو العربية 11.6%، وفي كريات موتسكين، القريبة منها، حوالي 17%، رغم أن نسبة البطالة في مدينة نهريا القريبة من الحدود مع لبنان هي 2.8%.
وقال الخبير الاقتصادي روبي نتانزون، المدير العام لمعهد الأبحاث الاقتصادية "ماكرو"، في مؤتمر لمعهد الديمقراطية الإسرائيلي، إن العام الجاري سيشهد تراجعا في العدد الإجمالي للمصالح الاقتصادية، ففي حين أن المعدل السنوي لإغلاق المصالح يتراوح ما بين 50 ألفا إلى 60 ألفا (ويتم فتح عدد أكبر منها سنويا)، فإنه من المتوقع أن يصل عدد المصالح الاقتصادية التي ستغلق هذا العام إلى 80 ألف مصلحة.
وقال نتانزون إن الأزمة الجارية ستكون أشد عمقا مما شهده الاقتصاد الإسرائيلي في السنوات الماضية، وخاصة الأزمة الاقتصادية الناجمة عن تفشي وباء كورونا، إذ بحسب توقعاته فإن الانتعاش الاقتصادي لن يكون سريعا كالوتيرة التي شهدها الاقتصاد الإسرائيلي بعد زوال وباء كورونا.