المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
ارتباك غير مسبوق، وتعثّر في تحقيق أهداف الحرب

تُسلّط هذه المساهمة الضوء على دراسة إسرائيلية جديدة تتطرق إلى الجدل الدائر حول استمرار الحرب على قطاع غزة، وحول طبيعة الأهداف التي يجب تحقيقها والوسائل والآليات، بالإضافة إلى معضلة الجبهة الشمالية والمواجهة المتصاعدة مع حزب الله، وسط تصاعد الحديث عن احتمالية تدحرجها إلى مواجهة شاملة وسط دعوات لإبعاد قوات حزب الله إلى شمال نهر الليطاني. في ضوء ذلك، تحاول الدراسة العودة إلى عمليات صنع القرار في العام 1982 والمناخات المصاحبة لهذه العمليات، وكذلك العواقب على الجيش الإسرائيلي خلال تلك الفترة وخاصة في العام الأول عندما انسحب الجيش من جانب واحد، حيث تسعى لإجراء مقارنة مع الوضع الحالي، في محاولة لتسليط الضوء على أخطاء الماضي التي يجب أن تُشكّل بحسب كاتبيها عوفر شيلح ويردين أسرف (من "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب) ضوء تحذير لأصحاب القرار في إسرائيل على كافة المستويات.

في 31 آب 1982، أي بعد حوالي ثلاثة أشهر من اندلاع الحرب الأولى على لبنان، خرج ياسر عرفات وآلاف من مقاتلي وعناصر منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت وتوجهوا إلى تونس وسورية (قدّر وزير الخارجية الإسرائيلي حينها إسحق شامير عددهم بـ 11 ألف، في خطاب ألقاه في الكنيست). ويُشير الكاتبان إلى أن هذا الخروج كان يعني أنه قد تم إنجاز المهمة المعلنة للحرب المعروفة إسرائيلياً باسم "سلامة الجليل" بنجاح، وهي إزالة التهديد الصاروخي على الجبهة الشمالية. لكن، لم ينسحب الجيش بعد أن تحقّق هذا الأمر إلى الحدود الدولية بين لبنان وإسرائيل إلّا بعد 18 عاماً، تخلّلها سقوط مئات القتلى وثلاثة انسحابات معلنة: في أيلول 1983، انسحبت القوات إلى خط جنوب نهر الليطاني؛ في عام 1985 إلى "الحزام الأمني"، حيث حارب الجيش الإسرائيلي وجيش لبنان الجنوبي ضد منظمة حزب الله؛ وفي أيار 2000 حتى الحدود الدولية. في الحقيقة، تؤكّد الدراسة أنه لم يتم نشر عدد ضباط وجنود جيش الدفاع الإسرائيلي الذين قتلوا خلال هذه السنوات الثمانية عشر رسمياً، لكن وفقاً للتقديرات التي تم التحقق منها بحسب الكاتبين، فقد وصل العدد إلى 675 من الجيش الإسرائيلي، وهو ما أدى إلى جانب حوالي 540 قتيلاً في الفترة من حزيران إلى أيلول 1982 إلى وضع ثمن الحرب على لبنان على نحو بلغ 1217 قتيلاً، منهم نحو 250 قتلوا في الفترة ما بين أيلول 1982 والانسحاب إلى منطقة "الحزام الأمني" في العام 1985.

يؤكّد كاتبا الدراسة أن ظروف اندلاع الحرب الأولى على لبنان- "سلامة الجليل"- تختلف جذرياً عن ظروف الحرب الحالية على قطاع غزة والمعروفة إسرائيلياً باسم "السيوف الحديدية"، حيث لم تندلع الأولى في أعقاب هجوم واسع كانت نتائجه مؤلمة وقاسية على إسرائيل كما حصل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. فبعد عام من وقف إطلاق النار منذ صيف العام 1981، كان سبب اندلاع الحرب هو اغتيال سفير إسرائيل لدى بريطانيا شلومو أرغوف في 3 حزيران 1982. ومع ذلك، كان هدف الحرب المعلن حينها، كما هي الحال الآن، هو إزالة التهديد المباشر على إسرائيل. هناك تشابه أكبر بكثير في الحديث عن كيفية المضي قدماً بعد التحرك العسكري المكثف في الأشهر الأولى من الحرب، لضمان عدم تآكل إنجازاتها العسكرية وعدم عودة التهديد. وهنا أيضاً هناك فرق جوهري: في الحرب الحالية، من الواضح أنه إذا عادت حماس وسيطرت على القطاع، فإن التهديد لإسرائيل سوف يتجدد؛ وفي العام 1982، بعد الاتفاق على خروج منظمة التحرير من بيروت، كان واضحاً أنهم لن يعودوا، ولم يكن هناك أي تهديد من التنظيمات اللبنانية في ذلك الوقت.

تشير الدراسة إلى أن الأمل في أن يضمن اتفاق سياسي مع لبنان السلام تضاءل بعد اغتيال بشير الجميل في 14 أيلول 1982، على الرغم من الاتفاق الذي وقعته إسرائيل مع شقيقه وخليفته أمين الجميل في 17 أيار 1983. وعلى الرغم من عدم وقوع أي عمليات ضد إسرائيل في الأشهر الأولى التي تلت الحرب، ورغم عدم وجود منظمة لبنانية تقاتل ضد إسرائيل كما هي الحال اليوم، إلا أن المستويات السياسية والعسكرية أبقت على التواجد العسكري في لبنان، بما في ذلك في أماكن تبعد عشرات الكيلومترات من الحدود الإسرائيلية، كضمان لحماية الجليل. ولم يتغير هذا التصور حتى عندما أصبح يتضّح بشكل تدريجي في الأشهر التي تلت أيلول 1982، أن مجرّد وجود الجيش الإسرائيلي في المناطق المأهولة بالسكان في لبنان، وتورّطه في العديد من الصراعات الداخلية والاحتكاك المستمر مع المدنيين- هي أسباب تخلق العداء لإسرائيل، وأن هذه الفئة من اللبنانيين الذين ألقوا الأرز كتحية لقوافل الجيش الإسرائيلي التي دخلت لبنان في حزيران 1982، بدأوا بإطلاق الرصاص وزرع العبوات في محاربته مع مرور القوات.

تستعرض الدراسة بشكل موسّع وتفصيلي أهم نقاط التشابه والاختلاف بين الحرب الإسرئيلية الأولى على لبنان عام 1982، وبين وحرب الإبادة الإسرائيلية المستمرّة على غزة منذ 7 أكتوبر، بما في ذلك المواجهة الحالية مع حزب الله على الحدود الشمالية واحتمالية تدحرجها لحرب شاملة على النحو التالي:

  • "الانسحاب ضعف": كان من أبرز الأسباب التي أبقت على الجيش الإسرائيلي في لبنان هو الخوف على صورة إسرائيل إذا ما انسحبت، وقد أظهرت عدّة أبحاث استندت إلى بروتوكولات وملخصات المناقشات التي جرت في قيادة الجيش أن "مثل هذا الانسحاب سيخلق لإسرائيل، في عيون العرب وفي عيون الولايات المتحدة، صورة لجيش يتراجع، هذا بعد أن كان قد تقدّم"، وسيفسر على أنه اعتراف بفشل السياسة التي سعت إلى تحقيق أهداف أساسية في لبنان وإظهار الضعف وعدم القدرة على الصمود في وجه الضغوط الداخلية والخارجية، وبعد الانسحاب قد ينشأ انطباع بأن إسرائيل لن تتوقف عند هذا الحدّ، وأن ممارسة ضغوط إضافية قد يؤدي إلى المزيد من الانسحابات والتنازلات. إن هذه الفكرة، التي بموجبها يتم تصوير كل خطوة إلى الوراء بمثابة إظهار الضعف، وحتى وإن كانت تنطوي على منطق عسكري، وحتى لو لم يكن هناك سبب لبقاء القوات في الأراضي المحتلة لتحقيق هدف واضح، تعود أكثر من مرة في حروب إسرائيل، وهي بالطبع ذات صلة أيضاً بالنقاش الدائر اليوم في الحرب على غزة.
  • "حتى يعود الأسرى والمفقودون": أضيف شرط الانسحاب بعودة الأسرى والمفقودين وجثث القتلى إلى الخطاب الإسرائيلي، وعلى الرغم من أن المقارنة غير صالحة- كما يؤكّد كاتبا الدراسة- مع الوضع في غزة اليوم، لكن يبدو أن هذه القضية يتم استخدامها كمبرر لاستمرار العملية العسكرية، حتى لو كانت جدوى العملية موضع شك وسلبية في بعض الأحيان سواء من حيث إنجازات الحرب أو من حيث الأسرى والمفقودين أنفسهم.
  • "الضغط العسكري سيحقق الإنجازات": الحجة الأخرى الثابتة هي أن الإنجازات والخطوط الأمامية التي وصل إليها الجيش أثناء القتال هي بسبب "الضغط العسكري" الذي يجب أن يستمر حتى تحقيق إنجاز سياسي- حتى لو لم يكن مرئيا. في 21 نيسان 1983، بينما كان معدل العمليات ضد الجيش (المتفجرات والألغام، وإطلاق النار، الهجمات على المواقع ونقاط التفتيش) يتزايد باستمرار، وعدد القتلى يقترب من عشرة في الشهر، صرّح رئيس أركان الجيش "في جوهرها، هذه مشكلة سياسية- إن بقاء الجيش الإسرائيلي على الخطوط التي يقف عليها يهدف إلى خدمة المفاوضات السياسية ويمنح إسرائيل مزايا سياسية".
  • "إذا انسحبنا - فلن يكون الآن وليس حتى النهاية": وحتى عندما بدأت المناقشات حول الانسحاب الأحادي الجانب، فإن العناصر العسكرية- التي كان وزنها في النقاش، كما هو الحال الآن، حاسمًا، في ظل غياب التخطيط دفعت من أجل انسحاب جزئي فقط، رغم صعوبة الإشارة إلى مزايا الخطاب الجديد، حيث لم يرقَ إلى مستوى «الخروج من لبنان»، وبالتالي لم يكن القصد منه شراء الشرعية الدولية لإسرائيل، كما أن استمرار تواجد الجيش في منطقة "الحزام الأمني لم يحم الجليل": لم يكن هناك أي تهديد للجليل في ذلك الوقت، لكن في الواقع، كانت هذه هي السنوات التي بدأ فيها حزب الله بتنظيم نفسه كقوة مقاومة في جنوب لبنان، بل ونفذ الهجوم الضخم المعروف باسم "كارثة صور" في تشرين الثاني 1983، والذي أدى إلى ثمن دموي (56 قتيلاً) بين جنود الجيش والأجهزة الأمنية.
  • النقاش العام والحركات الاحتجاجية: كانت الحرب على لبنان مثيرة للجدل حتى قبل اندلاعها، لأن استعدادات الجيش الإسرائيلي للحرب، التي بدأت قبل أكثر من عام من حزيران 1982، كانت معروفة لدى الكثيرين وحذر سياسيون من المعارضة، مثل رئيس الأركان السابق مردخاي غور، من أن هذه حرب غير ضرورية وأن إنجازاتها مشكوك فيها. وبمرور الوقت، عندما أصبح من الواضح أن الحرب تجاوزت هدفها المعلن بكثير- وهو دفع التهديد إلى ما هو أبعد من مدى صواريخ الكاتيوشا (40 كيلومتراً) - اشتد النقاش وتحوّل إلى احتجاج حقيقي. يؤكّد الكاتبان أنه لا يمكن مقارنة حدة هذا النقاش بالانقسام الحاد الذي شهده المجتمع الإسرائيلي عشية 7 أكتوبر، ولكن هناك أوجه تشابه بين الحالتين: ففي كليهما، تم التعبير عن خطوط صدع اجتماعية واضحة، والانقسامات السياسية وسياسات الهوية، التي حددت إلى حد كبير ومواقف المعسكرات حتى فيما يتعلق بقضايا "عملية" على ما يبدو، مثل المشكلة الأمنية في شمال البلاد أو العلاقات بين السلطات. كانت الحملة الانتخابية العام 1981 صعبة وخطيرة مثل الحملات الانتخابية التي سبقت تشكيل الحكومة الحالية؛ كما أن نزع الشرعية المتبادلة بين المعسكرات الإسرائيلية في المجتمع لم يكن أقل من ذلك بكثير.

مثلاً، يُشير الكاتبان إلى النقاشات والمواقف خلال الحرب في العام 1982، فبعد وقت قصير من اندلاعها، تجددت المناقشة حول مسار الحرب. قبل أيلول 1982، حذر مردخاي غور من أن إسرائيل مقيدة ومعقدة ومتورطة في بيروت الشرقية والغربية، وأن هناك تفضيلاً للاعتبار التكتيكي و"النغمة الوطنية" على الاعتبارات الاستراتيجية السياسية الشاملة، مضيفاً أن "التاريخ وحده هو الذي سيحكم على ما إذا كان ذلك ضرورياً أم لا، لأن الحكومة الإسرائيلية حينها قررت غير ذلك ونحن منذ ذلك الحين نتعرض لحرب استنزاف ووحل عسكري وسياسي وأخلاقي"، في المقابل، رد رئيس الوزراء مناحيم بيغن في مقالة خاصة، حيث ذكر أن هذه "حرب اللا خيار بالنسبة لحياة مواطني إسرائيل والشعب اليهودي". وقد احتدم النقاش العام حتى بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت ومجزرة صبرا وشاتيلا (16-18 أيلول 1982)، وهي أحداث عززت الشعور بأن الحرب كانت حرب خداع منذ البداية (كعنوان للحرب) وأن هدفها الحقيقي الذي كان خلق نظام جديد في لبنان كان مخفياً عن الجمهور، ولسوء الحظ، بحسب المعارضين، فقد استنفدت الحرب بالفعل إنجازاتها وقد استمرّت لأسباب سياسية وجمود فكري، وكانت ذروة الاحتجاج المتنامي هي المظاهرة الضخمة التي خرجت بعد مجزرة صبرا وشاتيلا (مظاهرة الـ 400 ألف في أيلول 1982) التي طالبت بتقديم المسؤولين عن المجزرة إلى العدالة، مما أدى إلى تشكيل لجنة كهان وإقالة آرييل شارون من منصب وزير الدفاع.

  • الأهمية المتزايدة لقضية الضحايا في الخطاب حول الحرب: مع تنامي الشعور بأن الجيش الإسرائيلي ليس له ما يفعله في الأراضي التي احتلها في لبنان في حزيران 1982، استمر الاحتجاج وركز على الادّعاء بأن الضحايا (القتلى) في لبنان- حوالي ثمانية عشر قتيلاً شهرياً في المتوسط ​​والعديد من الجرحى- هم ضحايا السياسة الفاشلة. وعلى الرغم من العدد الكبير من القتلى (حوالي 540 حتى حزيران 1982) طلب شارون (وزير الدفاع حينها) من محطات الإذاعة والتلفزيون التخفيف من حدة التقارير حول الخسائر. يؤكّد الكاتبان أن قضية الضحايا تصدّرت عناوين الأخبار ليس فقط بسبب الادعاءات الموجّهة ضد المستوى السياسي، ولكن بسبب الخطاب المتزايد حول إخفاقات الجيش الإسرائيلي، على سبيل المثال، اكتسب تقرير للبنتاغون نُشر في صحيفة واشنطن تايمز أهمية كبيرة في ذلك الوقت، ووفقاً للتقرير، فإن حوالي 20% من إجمالي خسائر الجيش الإسرائيلي في الحرب كانت ناجمة عن القصف الإسرائيلي. يُشير الكاتبان إلى أن عوامل الشعور بالحرب التي تختلف أهدافها، واستمرارها غير واضح، وأداء الجيش الإسرائيلي الذي يفتقد خلالها لاستراتيجية واضحة، جعلت مسألة الضحايا مركزية في الخطاب العام. بالنسبة للعديد من المصادر، كان لهذا الخطاب وانتشاره الكبير في المجتمع الإسرائيلي وفي الطرقات وخلال الاحتجاج تأثير كبير في قرار رئيس الوزراء بيغن الاستقالة من منصبه في تشرين الأول 1983.
  • العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة: يُشير التقرير إلى أن هناك فرقاً واضحاً بين الوضع في حزيران 1982 وتشرين الأول/ أكتوبر 2023، حيث كانت إدارة ريغان تعارض صراحة الغزو الإسرائيلي للبنان، وفي العام الذي سبق اندلاع الحرب كانت هناك محادثات كثيرة حول هذا الأمر بين الرئيس ريغان وإدارته وبين رئيس الوزراء بيغن؛ في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وقفت الولايات المتحدة بكل قوتها إلى جانب إسرائيل، سواءً في دعم الحرب وشرعيتها وهدفها المتمثّل في إزالة التهديد الأمني ​​لإسرائيل والإطاحة بحكم حماس في غزة - أو في منع انتشار الحرب إلى ساحات أخرى. وعلى الرغم من ذلك، تشير الدراسة إلى أنه في جوانب أخرى، ومع استمرار الحرب، يظهر تشابه بين الحرب حينها والتهديد بشنّ حرب شاملة على لبنان اليوم، فقد نظرت إدارة ريغان إلى الغزو الإسرائيلي للبنان باعتباره عملاً ضد مصالحها- خاصة وأن الغزو طال أمده وأصبح دائماً. وفي ضوء ذلك، وبخ الرئيس ريغان رئيس الوزراء بيغن في اجتماعهما في واشنطن، ولأسباب تبدو مألوفة جداً يظهر التباين والخلافات بين إدارة بايدن والحكومة الإسرائيلية. يؤكّد الكاتبان، أنه وعلى الرغم من أن العلاقات بين إدارة ريغان وحكومة بيغن كانت أفضل بكثير من العلاقة بين إدارة بايدن وبين نتنياهو وحكومته الحالية، وقد بدأت تظهر هذه الخلافات في تصريحات الرئيس الأميركي وكبار المسؤولين في الإدارة الأميركية ضد من اعتبروهم عناصر متطرفة في الحكومة، بل وتحدثوا عن أن "نتنياهو نفسه يشكل عائقاً أمام تحقيق أهداف الحرب الجديرة بنظر الأميركيين". لذلك، هناك مدعاة للخوف من أن استمرار الحرب والنظر لإسرائيل بأنها تسعى جاهدة لاحتلال غزة، خلافاً للموقف الأميركي الصريح، فإن الضرر الذي سيلحق بالعلاقات الإسرائيلية الأميركية أكبر بكثير مما حدث في الحرب الأولى على لبنان.
  • الخلافات بين ضباط الجيش والمستوى السياسي: يُشير الكاتبان إلى الظروف المختلفة بين الحرب الأولى على لبنان والحرب الحالية في هذه القضية تحديداً، لكن يظهر التشابه في الاتهامات المتبادلة بين المستوى السياسي والجيش، ففي حرب لبنان الأولى شعر شارون أن الجيش الإسرائيلي لم يحقق الإنجاز الذي وعده به، في حين أكد بعض الضباط الذين لم يكشفوا هوياتهم لوسائل الإعلام الأجنبية أن عملية صنع القرار الإسرائيلي تعتمد على اعتبارات سياسية لشارون تحديداً. كذلك الشعور باقتراب التحقيق في الحرب، كما حدث بالفعل مع تشكيل لجنة القاضي كهان ("لجنة التحقيق في أحداث مخيمات اللاجئين في بيروت") تسبب في توتر بين شارون وكبار القادة العسكريين، الذين كانوا يخشون من أن شارون سيتخلى عنهم في مرحلة لجنة التحقيق في اليوم التالي.

بين الماضي والحاضر: لبنان وقطاع غزة

يُؤكّد شيلح وأسراف أنه لا يوجد تشابه مطلق بين المراحل التاريخية، ومع ذلك، فإن التواجد العسكري الإسرائيلي في لبنان خلال الفترة الممتدة بين الأعوام 1982-2000 بما شهدته من انسحابات عديدة تشبه إلى حد كبير من حيث التأثير والتبعات ما يحدث في قطاع غزة، من حيث استمرار الجيش الإسرائيلي في القطاع منذ 7 أكتوبر، وفي ضوء التحديات الكبيرة التي تواجه إسرائيل، وكذلك القرارات الصعبة التي يتعيّن عليها اتخاذها، تفرض ضرورة دراسة هذه الفترة بسبب أوجه الشبه وتأثير القرارات التي يتم اتخاذها أو تجنّب اتخاذها على الجيش الإسرائيلي وعلى المستويات السياسية والأمنية والاجتماعية في إسرائيل، التي يتضح بعض منها حتى في هذا الوقت.

وتشير الدراسة إلى أنه على الرغم من حالة الإجماع الكامل حول ضرورة الحرب على قطاع غزة، إلّا أنه بات هذا الأمر موضع شك بسبب الجدل المحتدم في الأشهر الأخيرة حول الحرب، وإدارتها، وكذلك في ظل الانقسام القائم في المجتمع الإسرائيلي حول مختلف القضايا السياسية والمدنية قبل الحرب، وحالة الصراع بين المعسكرات في إسرائيل، وما شهده الشارع من احتجاجات انتظمت حول قضايا معينة {الإصلاح القضائي مثلاً}، هذا الأمر بحسب الكاتبين يجعل من الصعب للغاية خلق حالة إجماع حول القرارات الضرورية مع مرور الوقت واستمرار الحرب، ومع اشتداد الاحتجاجات الداخلية وسياسات الحكومة الإسرائيلية وتأخير إبرام صفقة تعيد الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين من غزة، بالإضافة إلى الاعتبارات السياسية في إدارة الحرب بحسب التصورات العامة في إسرائيل، وهذا كله على الرغم من حالة الإجماع على الحرب الحالية في بدايتها بعكس الحرب الأولى على لبنان التي لم تكن محط إجماع وكانت هناك شكوك حول أهدافها الحقيقية.

تؤكّد الدراسة أن الأسباب المذكورة أعلاه يستخدمها المستوى السياسي ​​لتأجيل الخطوات والقرارات الضرورية وفي مقدّمتها الانسحاب من الخطوط التي وصل إليها الجيش الإسرائيلي في الحرب على غزة بشكل يشبه إلى حد كبير المرحلة الأولى من القتال في الحرب الأولى على لبنان. إن المنطق القائل بأن الانسحاب الأحادي الجانب سيُنظر إليه على أنه ضعف، والادعاء الذي لا أساس له من الصحة بأن ما تم تحقيقه والمناطق التي وصل إليها الجيش تهدف إلى توفير الحماية للحدود البعيدة عنها أساساً، وتجاهل أهمية السيطرة على الأرض وتآكل القوات النظامية والاحتياطية وصعود قضية الضحايا إلى مركز جدول الأعمال والخطاب السائد وهو ما يخلق شعوراً متنامياً بأنهم يتعرضون لخسائر عبثاً، كل ذلك يُسمع الآن بحسب الكاتبين في المجتمع الإسرائيلي وقد سُمع أيضاً في الحرب على  لبنان، وربما يظهر بقوة في طور الحديث عن عملية عسكرية واسعة النطاق في لبنان والتي قد تشمل "مناورة برية" لاحتلال جنوب لبنان وإنشاء "حزام أمني" مرة أخرى (على سبيل المثال تصريحات عضو الكنيست أفيغدور لبيرمان).

من ناحية أخرى، يؤكّد الكاتبان أن استمرار الحرب والإبقاء على تواجد الجيش في غزة خلافاً لرغبة الإدارة الأميركية من شأنه مفاقمة التوتر بين إسرائيل والولايات المتحدة، وهذا الأمر يضر بمصالح إسرائيل وكذلك بحاجتها للولايات المتحدة لمنع توسع الحرب، التي أصبحت بالفعل اليوم إقليمية لكن نطاقها ما يزال محدوداً نسبياً في الجبهات الأخرى قبل أن تتحول إلى حرب إقليمية شاملة ضد "محور المقاومة" التابع لإيران. إن الصمود في وجه مثل هذه الحرب في حال اندلاعها سيكون بسبب استمرار القتال الذي يتسبّب فيه الجمود الفكري والاعتبارات السياسية وتجنّب اتخاذ القرارات بشأن "اليوم التالي" وهو ما يُمكن القول بأنه يُلحق الضرر بشدّة بأمن إسرائيل في هذه المرحلة.  يتعزّز هذا الخطر إلى جانب خطورة تحول إسرائيل إلى دولة مجذومة (بشكل مغاير للحرب على لبنان)، ما سينعكس على مكانتها وحضورها في المؤسسات الدولية والرأي العام العالمي، وتحديداً في الغرب وهذا له آثار على مبرر وجودها، والعلاقات التجارية والثقافية معها وغيرها من الأسس المتميزة للأمن القومي الإسرائيلي. إن هذه المخاطر قد تتسبب بفقدان الحاضنة السياسية، وفي حال توسّعت المواجهة إلى حرب إقليمية واسعة النطاق من دون دعم أميركي لتحركات إسرائيلية محتملة ضد لبنان فإن التكاليف قد تكون باهظة للغاية على كل من الجيش الإسرائيلي والجبهة الداخلية في إسرائيل. أما بخصوص قضية الأسرى الإسرائيليين فإن استمرار عدم إعادتهم يقوّض المفهوم الأساسي لمسؤولية الدولة تجاه مواطنيها، والتي لم يكن لها مثيل في أي حرب سابقة، بما في ذلك حرب لبنان الأولى، وما يزيد الصورة تعقيداً وغموضاً هو تعمّق حالة الاستقطاب الداخلي، والذي يصاحبه شعور بعدم جدوى الوضع، وفقدان الإحساس بالأمن الشخصي والعام حتى داخل حدود إسرائيل، ومخاوف بشأن وجودها ذاته في المستقبل. إن هذا الوضع- بحسب الكاتبين- يتطلّب تفكيراً عميقاً واتخاذ قرار من منطلق المسؤولية الوطنية والاعتراف بخطورة الوضع الحالي، وعبر التعلّم من أخطاء الماضي، بما في ذلك أوجه التشابه بين الوضع الحالي والوضع على الجبهة اللبنانية في نهاية العام 1982 وما بعده، هو شرط ضروري لمثل هذا التفكير.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات