يواجه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ضغوطا من قبل شركائه في الائتلاف الحكومي خاصة أحزاب الصهيونية الدينية تصل إلى درجة الابتزاز لتحقيق مكاسب سياسية كمواقع رسمية أو صلاحيات، أو لفرض وقائع على الأرض. في بعض الأحيان يقدم نتنياهو ما يمكن وصفه بالرشاوى السياسية، لتجنب أو امتصاص غضب وضغوط هؤلاء الشركاء. لكن في أحيان أخرى يلجأ نتنياهو إلى توصيات المستوى الأمني ليواجه بها ضغوط وزرائه عليه. وهذا يتناقض مع شخصية نتنياهو القوية والمناورة خاصة في فترة حكمه قبل خسارته الانتخابات قبل أكثر من عامين. إذ أدرك نتنياهو من جهة وشركاؤه من جهة أخرى مدى حاجته للائتلاف الحالي، في ظل استطلاعات الرأي العام التي تشير إلى أن اليمين لن يحصل على أغلبية في الكنيست مرة أخرى.
ولوحظ أن نتنياهو منذ بدء التحقيقات معه في قضايا فساده، حتى خسارته الانتخابات انتخابات الكنيست في آذار 2020، تجنب قدر الإمكان ما قد يؤدي إلى تصعيد عسكري عنيف تزيد نتائجه سوء وضع نتنياهو سياسيا وحزبيا. فكانت إسرائيل مثلا تمارس مؤخرا ما تسمى سياسة "قواعد الاشتباك" في قطاع غزة مثلا وتتمثل في قصف مناطق مفتوحة أو مراكز تدريب للفصائل الفلسطينية من دون التسبب بسقوط ضحايا فلسطينيين ردا على إطلاق صواريخ أو قذائف من داخل القطاع في اتجاه مناطق إسرائيلية، لأن ذلك قد يؤدي إلى تصعيد كان نتنياهو في غنى عنه. كذلك تجنب نتنياهو الذهاب إلى تصعيد عسكري واسع في قطاع غزة رغم مواجهات "مسيرات العودة"، وعمليات إحراق الأراضي الزراعية والغابات في محيط القطاع الناجمة عن إطلاق ناشطين فلسطينيين في قطاع غزة في مجموعات "الإرباك" البالونات المتفجرة أو الحارقة. ولاقت سياسة نتنياهو هذه انتقادات من قبل وزراء الدفاع خاصة أفيغدور ليبرمان الذي استقال من منصبه في تشرين الثاني 2018 متهما نتنياهو بأنه قيده ومنعه من إصدار تعليمات بشن عمليات عسكرية في القطاع. وأدت استقالة ليبرمان إلى انهيار الائتلاف الحكومي ودخول إسرائيل في سلسلة جولات انتخابية زادت من حرص نتنياهو على تجنب أي تصعيد العسكري قد تؤثر نتائجه سلبا عليه في صنادق الاقتراع. واستغل نتنياهو في تلك الفترة توصيات المستويات الأمنية والعسكرية التي عادة ما تتجنب التصعيد لمواجهات الضغوط عليه من قبل شركائه.
وتمكن نتنياهو من تكبيل ليبرمان وخلفه نفتالي بينيت في وزارة الدفاع في منع التصعيد العسكري مع قطاع غزة، مستفيدا من موقف قادة الأجهزة الأمنية الذين يميلون عادة إلى تجنب التصعيد.
ولكن بعد فشل نتنياهو في تشكل ائتلاف حكومي وتمكن يائير لبيد من ذلك ثم انهيار هذا الائتلاف وعودة نتنياهو إلى الحكم في ائتلافه اليميني الحالي، يستغل نتنياهو قلة أو انعدام الخبرة الأمنية والعسكرية لوزراء الصهيونية الدينية خاصة بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية والوزير في وزارة الدفاع، وإيتمار بن غفير، وزير "الأمن القومي"، لمواجهتهما برأي وتوصيات المستويات الأمنية والعسكرية والاستخباراتية، التي قد تقف حائلا أمام مطالبهما الإشكالية أمنيا وسياسيا ودبلوماسيا بالنسبة لإسرائيل.
مع ذلك فإن هامش المناورة بالنسبة لنتنياهو بات أضيق بكثير منه في حكوماته السابقة، في ظل طبيعة الائتلاف الحكومي الحالي، لذلك فإنه يقدم تنازلات، ستكون لها تبعات أمنية وسياسية ودبلوماسية.
بن غفير ولعبة "الحرد"ومكافآت نتنياهو!
في الشهور الثلاثة الأخيرة واجه نتنياهو على الأقل ثلاثة مواقف اضطر فيها لتقديم تنازلات لبن غفير. ففي أواخر شهر آذار 2023 قرر نتنياهو تجميد عملية سن قوانين الانقلاب القضائي (الإصلاحات القضائية) في إثر تصاعد تظاهرات المعارضة وحدوث خلافات في الائتلاف الحكومي مع قرار نتنياهو إقالة وزير الدفاع يوآف غالانت الذي دعا لتجميد التعديلات القضائية وللحوار مع المعارضة. كذلك جاء القرار استجابة لمبادرة الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ للحوار بين الائتلاف والمعارضة. هذه القرار أغضب بن غفير فهدد بالانسحاب من الحكومة. وذكرت القناة 14 العبرية أن أعضاء في الائتلاف الحكومي اتهموا بن غفير باللامسؤولية بسبب هذه التهديدات التي دفعت نتنياهو إلى دعوة بن غفير للاجتماع به في مكتبه لعدة ساعات، وفي النهاية وافق بن غفير على قرار تجميد سن قوانين الانقلاب القضائي مقابل تقديم نتنياهو تعهدين له، الأول: العودة إلى سن القوانين من طرف واحد في حالة فشل الحوار مع المعارضة، والثاني تكليف بن غفير بمهمة إنشاء "الحرس القومي"، الذي يعتبر قوة شرطية (أو ميليشيا مسلحة) تابعة بشكل مباشر له بصفته وزيرا للأمن القومي. ونقلت القناة 14 عن مصادر في الائتلاف الحكومي اتهامات لبن غفير بأنه ابتز نتنياهو بتهديده بالامتناع عن التصويت لصالح إقرار الموازنة العامة إن لم يستجب لمطالبه.
ونقلت هيئة البث الإسرائيلية عن محيطين بنتنياهو قولهم إن سلوك بن غفير وحصوله على "رشاوى سياسية" عبر ابتزاز نتنياهو لا يجب أن يستمر، وفي حالة استمراره فإن نتنياهو قد يجد نفسه يسعى لضم بيني غانتس إلى الائتلاف بدلا من الصهيونية الدينية.
ولم يكد يتخلص نتنياهو من هذا التوتر حتى استجدت قضية استشهاد الأسير خضر عدنان في إضرابه عن الطعام والتصعيد الصاروخي القصير في قطاع غزة. ولم يرق لبن غفير عدم توجيه ضربات دامية في القطاع، وما تبعه من قرار لوزير الدفاع غالانت تسليم جثامين ثلاثة شهداء قتلهم الجيش قرب جنين فاستمر وزراء "قوة يهودية" في مقاطعة جلسات الحكومة، مطالبين بسلسلة شروط، ذكر موقع "واللا" الإخباري بتاريخ 6 أيار 2023 أنها تضمنت "العودة لسياسة الاغتيالات وتنفيذ عملية عسكرية واسعة وإقرار قانون إعدام منفذي العمليات وقانون حصانة الجنود وإخلاء الخان الأحمر من الفلسطينيين". ومع اغتيال ثلاثة من قادة الجهاد الإسلامي في غزة بعد ثلاثة أيام فقط من تقديم بن غفير هذه المطالب، عاد وباقي وزراء حزبه إلى جلسات الكنيست والحكومة. وفيما تفاخر بن غفير بأنه كان السبب في العودة لسياسة الاغتيالات، نقل موقع "واينت" التابع لصحيفة "يديعوت أحرونوت" عن محيط نتنياهو وشركاء في الائتلاف الحكومي ادعاءهم أن الإجراءات الأمنية التي تقوم بها الدولة لا صلة لها بالضغوط التي يمارسها أحد الأحزاب المشاركة في الائتلاف، وأنها تتخذ بناء على اعتبارات أمنية وسياسية فقط.
لكن من الواضح أن بن غفير يدرك كيف يحقق بعض مطالبه عبر استغلال ضعف نتنياهو وتمسكه بالائتلاف الحكومي وشركائه في هذا الائتلاف خاصة أن معظم استطلاعات الرأي في الفترة الأخيرة تظهر أن فرص نتنياهو بالفوز مجددا في انتخابات الكنيست قد تكون معدومة.
سموتريتش: الصلاحيات في مواجهة التوصيات
ولا يختلف حال بتسلئيل سموتريتش عن بن غفير، بل قد يكون أكثر خطرا، لأنه يعمل بهدوء عبر الصلاحيات التي منحت له في منصبيه، وزيرا للمالية، ووزيرا في وزارة الدفاع. فمثلا رغم الانتقادات الدولية الأميركية والأوروبية والأممية لسياسة الاستيطان في الأراضي المحتلة، يعتبر عدد الوحدات الاستيطانية التي تم إقرار بنائها في الشهور الستة الأخيرة، أكبر من أي عدد وحدات أقرّ في أي عام كامل سابقا، حسب كرمل دانغور، مراسلة هيئة البث الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية. وحسب صحيفة "يسرائيل هيوم" فقد بلغ عدد الوحدات الاستيطانية التي تم إقرار بنائها منذ تولي سموتريتش منصبه قبل نحو ستة شهور 13 ألف وحدة استيطانية، وهو أكبر من عددها في فترة حكم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي اعتبرت إدارته الاستيطان في الأراضي المحتلة أمرا شرعيا.
ويشمل منصب سموتريتش وزيرا في وزارة الدفاع وضع الإدارة المدنية ومنسق عمليات الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية تحت سلطته ليصبح الحاكم الفعلي للضفة الغربية. وحسب دانغور فقد أضاف سموتريتش لنفسه امتيازا آخر عبر منح الحكومة له حصريا الأسبوع الماضي قرار الموافقة على البناء الاستيطاني واختصار عملية إصدار تراخيص بناء المستوطنات من خمس مراحل، تشمل موافقة المستوى السياسي والتخطيط وتقديم خطط البناء ونشر الإعلان (العطاء) والتسويق والموافقة النهائية، إلى مرحلتين تتعلقان بإقرار بداية المشروع ونهايته فقط. وهو ما اعتبر أبرز تغيير في السياسة الاستيطانية الإسرائيلية في آخر خمسة وعشرين عاما.
خبراء ومسؤولون أمنيون يحذرون... ولكن!
وحذر خبراء ومسؤولون أمنيون من الصلاحيات التي منحت لبن غفير ولسموتريتش، معتبرين أنهما يشكلان خطراً على أمن إسرائيل. وحسب موقع "واينت" قال متان فيلنائي، رئيس مجموعة "قادة من أجل أمن إسرائيل"، في مؤتمر صحافي شارك فيه قادة سابقون آخرون إن "الحكومة تهمل الساحة الإيرانية، وتخرب العلاقات مع الولايات المتحدة، وتهدد قوات الاحتياط والآن تقتطع مبالغ كبيرة من الوزارات لصالح إقامة "الحرس القومي" الذي سيكون تحت قيادة مجرم مدان وخطير على الجمهور. إن أمن إسرائيل هو آخر اهتمامات الحكومة". أما مفوض عام الشرطة السابق موشيه كرادي فقال في المؤتمر الصحافي ذاته إن "بن غفير أقام ميليشيا خاصة لتحقيق أغراضه السياسية، وهو يفكك الديمقراطية الإسرائيلية... والضرر الذي تسبب به غير قابل للقياس... إنه خطر على أمن إسرائيل".
لكن أبرز التحذيرات جاء من رئيس جهاز الشاباك الحالي، رونين بار، الذي قال إن "إنشاء الحرس القومي وجعله تحت سلطة بن غفير قد يؤدي إلى مواجهة أمنية". وذكرت القناة 13 أن بار تحدث مع بن غفير بإذن من نتنياهو، وقال بار لبن غفير "إنه يخلق حالة من التحريض في القدس"، في إشارة لتعليمات أصدرها بن غفير للاستعداد لشن عملية أمنية في القدس الشرقية أطلق عليها اسم "السور الواقي 2" على غرار العملية العسكرية التي اجتاح فيها الجيش الإسرائيلي مدن ومخيمات الضفة الغربية العام 2002.
رغم هذه التحذيرات وعشرات التحذيرات الأخرى المتعلقة بسلوك نتنياهو، سواء من قادة الغرب تجاه ما يحدث في إسرائيل على المستوى الداخلي (أزمة الانقلاب القضائي) وإمكانية تحول إسرائيل - في نظر الغرب- إلى دولة غير ديمقراطية، أو على مستوى ما تقوم به حكومة إسرائيل وجيشها ومستوطنوها في الأراضي المحتلة، إلا أن وضع نتنياهو وخضوعه للابتزاز لشركائه في الائتلاف جعله يتجاهل هذه التحذيرات للحفاظ على حكومته.
وكمثال على الضرر الذي يتسبب به نتنياهو لإسرائيل في علاقاتها مع الولايات المتحدة مثلا، قال الكاتب المعروف في "نيويورك تايمز"، توماس فريدمان، في مقابلة مع قناة 11 العبرية، إن ما قام به نتنياهو في حكوماته السابقة تجاه إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، وما يقوم به حاليا في داخل إسرائيل، بات ينعكس على وضع إسرائيل وتأييدها في داخل الحزب الديمقراطي. وحسب فريدمان "فقد يكون الرئيس بايدن آخر رئيس ديمقراطي مؤيد لإسرائيل". كما أشار إلى أن الجيل الجديد في الحزب الديمقراطي بات أكثر تأييدا للفلسطينيين منه لإسرائيل.
ويتطابق التصريح الأخير مع استطلاع أجرته مؤسسة غالوب في صفوف الحزب الديمقراطي وبين أن هناك تحولا في صفوف أعضاء الحزب الديمقراطي للمرة الأولى في التاريخ. فحسب الاستطلاع كانت نسبة المؤيدين للفلسطينيين العام 2001 من الديمقراطيين 16 في المئة، مقابل 51 في المئة لصالح إسرائيل، لكنها في العام الحالي بلغت 49 في المئة لصالح الفلسطينيين، و38 في المئة لصالح إسرائيل. وكانت نسبة تأييد الفلسطينيين في الحزب الديمقراطي العام الماضي 38 في المئة، مقابل 40 في المئة لصالح إسرائيل.
نتنياهو: عليّ وعلى أعدائي!
في تصعيد في شهر تشرين الثاني 2018، تعرض نتنياهو لضغوط من قبل بعض وزرائه للاستمرار في توجيه ضربات لقطاع غزة، فطلب الاجتماع بهم وقدم خلال الجلسة رئيس الأركان ورئيس الشاباك ورئيس مجلس الأمن القومي ورئيس الموساد ورئيس "أمان" تقديراتهم الأمنية بعدم الاستمرار في التصعيد وضرورة احتوائه. ومع مضي نحو سبع ساعات من النقاش الذي منع الوزراء خلالها من التواصل مع الخارج، وجد الوزراء أن مدير مكتب نتنياهو قد توصل لاتفاق هدنة بوساطة مصرية وأممية خلال ساعات الاجتماع. وحسب "يديعوت أحرونوت" اتهم بعض الوزراء الذين كانوا يعارضون الهدنة مثل افيغدور ليبرمان - وزير الدفاع حينئذ- نتنياهو بأنه "حبسهم في الاجتماع لساعات فيما كانت تجري في الكواليس جهود لوقف إطلاق النار الذي كان نتنياهو يسعى إلى تحقيقه كي لا يتسبب التصعيد بضرر سياسي له، ولأنه سعى لإظهار أن كافة أعضاء الكابينيت يدعمون الهدنة".
شخصية نتنياهو هذه لم تعد حاضرة في الوقت الحالي، فضعفه أمام شركائه ضيّق هامش المناورة المتاح له، وجعله عرضة للابتزاز بسهولة، خاصة وأن شركاءه في الصهيونية الدينية لا يسعون فقط لمصالح سياسية، بل هم مؤمنون بأيديولوجية استيطانية- قومية، ومستعدون للتضحية بالمنصب من أجل تحقيق غاياتها. والتضحية بالمنصب من قبل هؤلاء قد تعني خسارة نتنياهو منصبه والذهاب نحو انتخابات جديدة قد لا تعيده إلى الحكم، لذلك يبدو أن نتنياهو يفضّل الانصياع لشركائه في الصهيونية الدينية حتى لو كان ذلك على حساب مصالح إسرائيل واقتصادها وعلاقاتها الدولية، وبما يتناقض مع توصيات المؤسسة الأمنية التي بات بن غفير وسموتريتش يتوليان مناصب مهمة فيها، وهذا لخصه بعض قادة المعارضة الإسرائیلية بالقول إن نتنياهو يمضي على مبدأ "عليّ وعلى أعدائي"!
المصطلحات المستخدمة:
الموساد, الصهيونية, بتسلئيل, يديعوت أحرونوت, يسرائيل هيوم, مجلس الأمن القومي, باراك, الإدارة المدنية, الكنيست, رئيس الحكومة