يُبيّن "مؤشر السياسة الإسرائيلية الخارجية للعام 2022"، الذي أجراه معهد "متفيم (مسارات) ـ المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية" ونشر نتائجه التفصيلية في أوائل شهر تشرين الأول الجاري، أن الجمهور الإسرائيلي (اليهودي) يبدي تحفظاً واضحاً مما يُسمى "الحلول الكبيرة"، التي تعني المسارات الكبيرة والشاملة لحل الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، أو حتى أي تسوية طويلة الأمد في قطاع غزة. ويبدي الجمهور الإسرائيلي تشككاً عميقاً في إمكانية "أن يشكل حل الدولتين استراتيجية قابلة للتطبيق اليوم"! وهو ما يناقض تماماً ما ادّعاه رئيس الحكومة الإسرائيلية (الانتقالية) يائير لبيد في الخطاب الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر المنصرم وأشار فيه إلى أنّ "الغالبية الساحقة من الإسرائيليين تؤيد حل الدولتين".
وهذه النتيجة ذاتها، المناقضة لتصريح لبيد تماماً، أكدها أيضاً الاستطلاع الذي أجراه "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" بالتزامن مع سفر رئيس الحكومة إلى نيويورك لإلقاء الخطاب في الأمم المتحدة، إذ بيّن هذا الاستطلاع أن نسبة الإسرائيليين المؤيدين لحل الدولتين قد تراجعت عما كانت عليه في الاستطلاع السابق، وهي تبلغ الآن أقل من 50%. وأظهر هذا الاستطلاع أن نسبة مؤيدي حل الدولتين قد تراجعت بين الجمهورين اليهودي والعربي في داخل إسرائيل، وكذلك بين من يعرّفون أنفسهم بأنهم "يسار ـ وسط" إسرائيلي، ناهيك عن أوساط اليمين الإسرائيلي بالتأكيد. وكان مركز "فيتربي" في "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" هو الذي أجرى هذا الاستطلاع بين 18 و20 أيلول المنصرم على عينة من 753 شخصاً، منهم 604 يهود و149 عربياً.
فحين سئل المشاركون في الاستطلاع ما إذا كانوا سيؤيدون اتفاقاً بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية "يشمل تقسيم البلاد إلى دولتين"، ردّ 39% فقط من المشاركين بالإيجاب (مقابل 46% في الاستطلاع السابق الذي أجري في كانون الأول 2019 و54% في الاستطلاع الذي أجري في آب 2017). وبالمثل، قال 36% فقط إنهم يؤيدون "أن تسعى الحكومة التي ستتشكل بعد الانتخابات الوشيكة إلى الدفع نحو التوصل إلى اتفاق يقوم على مبدأ حل الدولتين"، وذلك مقابل 50% في الاستطلاع السابق الذي أجري حول الموضوع في شباط 2021.
وبحسب نتائج استطلاع "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، فإن الهبوط في معدلات التأييد لحل الدولتين عابر للمعسكرات السياسية وللتقسيمات العرقية، إذ أن 60% فقط من المشاركين العرب في الاستطلاع قالوا إنهم يؤيدون هذا الحل، مقابل 79% في الاستطلاع السابق. أما بين المشاركين اليهود فكانت نسبة المؤيدين لحل الدولتين الآن 31%، مقابل 44% في الاستطلاع السابق. وحسب التقسيمة السياسية: هبطت نسبة المؤيدين في معسكر اليمين من 29.5% في الاستطلاع السابق إلى 20% الآن، وفي معسكر "اليسار" هبطت من 85% سابقاً إلى 68% الآن.
36% مع حل الدولتين مقابل 41% مع الضمّ!
بالعودة إلى "مؤشر السياسة الإسرائيلية الخارجية للعام 2022"، تبين نتائجه أنه بموازاة ما ذُكر أعلاه عن التحفظ من "الحلول الكبيرة والشاملة" والتشكك حيالها، يبدي الجمهور الإسرائيلي تأييداً لـ "خيارات عملية أخرى ترمي إلى بناء واقع يقترب من حل الدولتين"، مع التوضيح أن هذه "الخيارات العملية" تعني الإجراءات والحلول المرحلية الهادفة إلى "منع تفاقم النزاع وتدهوره وتعزيز آفاق التعاون التي سيكون لها، لاحقاً، معنى وتأثير كبيران في اتجاه الدفع التدريجي نحو حل الدولتين"!
هذا "المؤشر"، الذي نشره معهد "متفيم" الآن، للعام العاشر على التوالي، يعرض مواقف الجمهور الإسرائيلي إزاء القضايا الخاصة بأداء وزارة الخارجية، بعلاقات إسرائيل الخارجية (مع التركيز على العلاقات مع دول الشرق الأوسط، القارة الأوروبية ودول حوض البحر المتوسط، بوجه خاص) وبالسلام مع الشعب الفلسطيني. كما يستطلع المؤشر، أيضاً، مواقف الجمهور الإسرائيلي في القضايا الدولية المركزية، مثل أزمة المناخ، المشروع النووي الإيراني والحرب في أوكرانيا. ويستند المؤشر هذا العام على نتائج استطلاع الرأي الذي أجراه "معهد رافي سميث" بالتعاون مع "صندوق فريدريش إيبرت" في شهر آب الأخير وشمل عينة ديموغرافية وسياسية قوامها 800 شخص من اليهود والعرب.
فحين سئل المشاركون في استطلاع المؤشر هذا عن السياسة التي يتعين على الحكومة الإسرائيلية المقبلة اعتمادها حيال الشعب الفلسطيني والصراع معه، قال 36% فقط إنهم يؤيدون السعي العملي نحو تحقيق حل الدولتين، بينما أيد 41% "حل الضمّ" ـ ضم المناطق الفلسطينية إلى السيادة الإسرائيلية ـ فيما قال 39% إنهم يؤيدون "استمرار الوضع القائم". وفي توزيعة الـ 41% المؤيدين للضم، نجد أن 18% يؤيدون ضم الضفة الغربية بالكامل بصورة فورية و"إنشاء دولة واحدة تكون فيها لليهود امتيازات في الحقوق"؛ 15% يؤيدون "إدارة الصراع" والسعي نحو "الضم الزاحف" و8% يؤيدون ضم الضفة الغربية بالكامل وبصورة فورية و"إنشاء دولة واحدة تكون فيها مساواة تامة في الحقوق للجميع".
في القضايا التي تعتبر "استراتيجية طويلة المدى"، مثل الوضع في قطاع غزة والحلول المتاحة في نظر الجمهور الإسرائيلي، تُظهر نتائج المؤشر أن هذا الجمهور لا يعير هذه القضايا أدنى اهتمام ولا تُشغل باله بدرجة كبيرة، إذ يعبر عن "صعوبة في بلورة رأي بشأنها"! ولا يعرف إن كان "الحل الأمثل هو التطوير الاقتصادي أو العمل من أجل استعادة السلطة الفلسطينية السيطرة على قطاع غزة ثم إجراء مفاوضات حول تسوية طويلة المدى" هناك. وثمة نسبة مرتفعة من الجمهور الإسرائيلي ـ بحسب نتائج الاستطلاع ـ تفضّل "استمرار الوضع القائم المتمثل في التعامل مع حركة "حماس" بسياسة العصا والجزرة، طالما أن هذا الحل يؤتي الثمار المرجوة، على الأقل"! فقد قال 27% (مقابل 9% في الاستطلاع السابق، في العام الماضي، وهو ما يشير إلى ارتفاع حاد في هذا المجال) إنهم يؤيدون "استمرار الوضع القائم" الذي "يشمل الردع العسكري إلى جانب التسهيلات الاقتصادية، في مقابل المحافظة على الهدوء". أما بالنسبة لاستعادة سيطرة السلطة الفلسطينية على قطاع غزة، فقد أظهرت نتائج الاستطلاع أن هبوطاً حاداً طرأ على تأييد ذلك بين الجمهور الإسرائيلي (من 31% في العام الماضي إلى 16% الآن).
في النتائج المتعلقة بالصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني أيضاً: 62% من الجمهور الإسرائيلي يؤكد أن مواقف الأحزاب السياسية المتنافسة في الانتخابات العامة الوشيكة في إسرائيل بشأن المسألة الفلسطينية "تؤثر كثيراً، أو كثيراً جداً، في القرار بشأن التصويت لها أم لا"، مقابل 39% قالوا إن هذا الموضوع "لا يهمهم إطلاقاً". وقال 57% إنهم يعتقدون بأن "على إسرائيل الاستعانة بالدول العربية التي طبّعت علاقاتها معها من أجل دفع مساعي السلام مع الفلسطينيين"، مقابل 30% يعتقدون بأنه لا ينبغي على إسرائيل أن تفعل ذلك. وقال 46% إنهم يعارضون "التطبيع الكامل مع السعودية مقابل وقف البناء في المستوطنات والعودة إلى مائدة المفاوضات مع الفلسطينيين"، مقابل 35% يؤيدون ذلك. وحول الأوضاع المتوترة في مدينة القدس وضواحيها، قال 61% إنهم يؤيدون "تشكيل جهاز تنسيقيّ خاص لمنع التصعيد وتفاقم الأمور، بالتعاون مع الفلسطينيين والأردن"، بينما عارض ذلك 20%.
"فصام" في مواقف الإسرائيليين بشأن القضية الفلسطينية والحل
قد يرى البعض أن انعدام الموقف والالتزام بشأن الحلول طويلة المدى للصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني يعكس الانزياح نحو اليمين بين الجمهور اليهودي في إسرائيل. غير أن الصورة تصبح أكثر تعقيداً بكثير لدى الفحص المعمق لمواقف الجمهور الإسرائيلي بشأن الخطوات السياسية الفعلية تجاه الفلسطينيين وما تحمله هذه الخطوات من معان ودلالات سياسية بعيدة الأثر. هذا ما يمكن أن يقال، مثلاً، عن تأييد أكثر من 61% من الجمهور الإسرائيلي، بمن في ذلك غالبية ساحقة من مصوتي الوسط ـ اليمين وما إلى "يساره"، "تشكيل جهاز تنسيقيّ خاص لمنع التصعيد وتفاقم الأمور في القدس، وخاصة في الأماكن المقدسة، بالتعاون مع الفلسطينيين والأردن". ذلك أن لجهاز كهذا، إذا ما أقيم فعلاً، إسقاطات مباشرة على مسألة السيادة الإسرائيلية في ما يعرف باسم "الحوض المقدس"، وهي إحدى المسائل المركزية في المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية حول الحل الدائم. وحتى لو افترضنا أن جزءاً من المؤيدين المذكورين ليس مدركاً للدلالة السياسية الكاملة لمثل هذه الخطوة، إلا أن النتيجة الأساسية البارزة هي استعداد نسبة غير قليلة منهم للدفع نحو حل من هذا القبيل.
كيف يمكن، إذن، تفسير هذا التناقض، بين الموقف من الحل السياسي النهائي مع الفلسطينيين (الرفض) وبين الموقف من الخطوات والإجراءات المرحلية التي يمكن، أو يفضل، اتخاذها (التأييد)؟ يجيب د. غيل موريسيانو، المدير العام لمعهد "متفيم"، على هذا التساؤل بالقول إنه بالإمكان تفسير هذا التناقض، أو "فصام الشخصية" كما يصفه، بأكثر من وجه: الأول، حقيقة أن الإجراءات المرحلية لا تضع الجمهور الإسرائيلي أمام واجب/ ضرورة بناء الثقة للمدى البعيد مع الشريك الفلسطيني، بل تتمثل في إجراءات وخطوات مرحلية ومحددة ما يعني أنها تعالج مسائل محددة ومنفصلة. والثاني، حقيقة اتساع الوعي بمسألة الأثمان السياسية والعقبات البنيوية المترتبة على العودة إلى مسار المفاوضات في الوقت الراهن، ومن بينها غياب قيادة سياسية إسرائيلية على استعداد للتكفل بالدفع نحو حل الدولتين، تطرف الخط الفلسطيني، الأزمة التي تعاني منها السلطة الفلسطينية واستمرار الانقسام السياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة (كُتب هذا قبل انعقاد مؤتمر المصالحة الفلسطينية في الجزائر).
يضيف موريسيانو أنه يمكن الادعاء، في الوقت نفسه، بأن وعي الجمهور الإسرائيلي لمدى قابلية القضية الفلسطينية للانفجار قد ازداد، كما ازاد أيضاً خطر انزلاق الانفجار إلى داخل المناطق الإسرائيلية في أعقاب ما شهدته البلاد في أيار 2021 إبان عدوان "حارس الأسوار"، ثم بدرجة أكبر خلال الشهرين الأخيرين إزاء التصعيد الأمني. ولا تزال القدس وغزة تشكلان بؤرتين محتملتين للتصعيد، في نظر الجمهور الإسرائيلي. ولذا، فإن الحاجة إلى منع التصعيد وخلق ديناميات إيجابية ميدانياً تُعتبر ـ من الناحية العامة ـ حاجة ماسة وملحة حتى ولو "بثمن" الدفع بخطوات عينية سيكون لها انعكاس كبير على تشكيل وإنشاء البنى الأساسية للدولة الفلسطينية العتيدة أو على تعزيز قدرتها على الحكم.