المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
مشهد من كيبوتس نير دافيد الذي يشقّه "العاصي". (ذي ماركر)
مشهد من كيبوتس نير دافيد الذي يشقّه "العاصي". (ذي ماركر)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 2185
  • هشام نفاع

تدعو صفحة تسويق على موقع تجاري المتصفّحين، وبلغة عربية ركيكة (أقتبسها كما هي)، إلى "إجازة رومانسية مترفة للأزواج في كيبوتس نير دفيد المذهل أمام جدول الآسي"، في إشارة إلى وادي العاصي في مرج بيسان. وتتابع: "بالكثير من التفكير والمحبة، بنينا 41 كوخاً خشبياً جميلاً، منتشرة بين المسطحات العشبية والأشجار، التي تنتظركم قرب جدول الآسي (...) كيبوتس نير دفيد يقع على سفوح جبال الجلبواع في قلب حقول مترامية الأطراف، وفرة من الجداول المائية، الينابيع وزوايا طبيعية ساحرة". ثم تعدد المغريات: جاكوزي وتدليك مهني وإبحار زوجي بالكياك وساونا جافة، وحتى: "حديقة عامة أسترالية فريدة" فيها "كل الحيوانات والنباتات أتت مباشرة من أستراليا". أما لماذا استقدام أستراليا إلى مرج بيسان، فهو ما سيظلّ أحجية عصيّة على العاصي نفسه كما يبدو.

هناك جدل عام يحتدّ من حين إلى آخر في منطقة مرج بيسان، ووصل أحياناً إلى صدامات عنيفة وتدخّل للشرطة. خلاصة الأمر أن كيبوتس نير دفيد حظي بمقطع هام من وادي العاصي يمرّ فيه، فاستحوذ عليه وصار يسمح بالوصول إليه فقط لمن يشاء، غالباً في مقابل مبلغ مالي، إذ تمت إقامة مراكز استجمام وترفيه في محيطه. وهنا قام نشطاء من مواقع مجاورة بالاحتجاج وأطلقوا تحركاً يطالب بإتاحة وصول الجمهور العام إلى هذا الوادي وضفافه بكونه مورداً طبيعياً عاماً.

تكثر العيون المائية في هذه المنطقة، ومنها عين الساخنة وعين العاصي شرقي الساخنة، ثم عين زهرة إلى الشمال الشرقي، وعين الجوسق في الجنوب. سمّي الوادي بالعاصي لأنّه خلافاً لسائر العيون الكبيرة في المنطقة، التي تنبع عند التقاء مرج بيسان وجبال فقوعة: جمّاعين والفوّار ومدّوع والجوسق التي تتّحد في مجرى واحد سُمِّي وادي جمّاعين، فإن مياه عين السّاخنة تجري وحيدة منفردة ولذلك أطلقوا عليها العاصي (الموسوعة الفلسطينية).

قضية الجدل: حق الوصول بمساواة إلى الموارد الطبيعية

وصلت هذه القضية إلى الجدل العام في إسرائيل قبل نحو سنة، حين كتبت عنات جورجي في جريدة The Marker مقالا واسعاً حول الموضوع. ويتضح أن الكيبوتس كان قد منع الجمهور العام من الوصول إلى جزء من الوادي الذي يمر في نطاقه، منذ العام 2010، بعد أن وضع أنظمة للوصول إلى ينابيع في المنطقة، بما يشمل جباية أموال من الزوار على المداخل.

أثارت هذه الخطوة معارضة كبيرة من سكان المنطقة، وخصوصاً لسكان من "بيت شان"، وقادت إلى احتجاجات لمنظمات بيئية. لاحقاً، تم التوصل إلى تسوية في العام 2015 يقوم بموجبها الكيبوتس بتخطيط منطقة ترفيهية في قسم آخر من الوادي خارج نطاقه، تكون في متناول الجمهور. لكن لم يتم تنفيذ ذلك وبقي الوضع على حاله. وقبل عامين أطلقت مجموعة نشطاء احتجاجاً وأقامت حركة تسمى "تحرير العاصي".

يكتب أورن زيف في موقع "سيحا ميكوميت" أن "النضال على فتح وادي العاصي أمام الجمهور تحوّل في العام الماضي لقضية رئيسة على الأجندة العامة. ما بدأ كمجموعة من النشطاء الأفراد الذين جاؤوا إلى بوابة الكيبوتس للاحتجاج على حقهم في التمتع بموارد عامة أصبح احتجاجاً لمئات الأشخاص. تم تقديم التماسات للمحكمة، وتم حشد أعضاء كنيست، وطرح القضية الأساسية المتمثلة بحق الوصول إلى الموارد الطبيعية على الجدل العام في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي".

وكما يحدث في أوضاع مشابهة، راح كل طرف يحشد أنصاره على شبكات التواصل الاجتماعي. أنشأ المحتجون صفحة على فيسبوك تضم نحو 23 ألف متابع، وقام الكيبوتس بخطوة مماثلة في صفحة عنوانها "كل الحقائق عن الصراع على العاصي". خلاصة قول الأخير إن الوادي الذي يمر بين البيوت ليس حيّزاً عاماً مفتوحاً بل منطقة مأهولة لها معاييرها، ولا يمكن أن تتحوّل إلى "متنزّه ماء قومي يزوره آلاف الناس يومياً"، وادعى أن هذه باتت "حقيقة ناجزة".

خلف الصراع على الحق في الوصول الحرّ للوادي، هناك معطيات متعلقة بمسألة تقسيم استخدام الأراضي في هذه المنطقة. فهذه الأراضي، وفقاً لما نشرته جريدة "كلكاليست"، تابعة لـ "مديرية أراضي إسرائيل" وتم إعطاء جمعية كيبوتس نير دفيد حق استخدامها، وجرى تجديد هذه الاتفاقية مجدداً العام 1997 لتظل سارية المفعول حتى العام 2049 مع إمكانية تمديد إضافي. لكن الوادي نفسه لا تشمله المنطقة المتفق عليها، وهو يعرّف قانونياً كمورد بملكية الدولة.

كذلك، هناك فرق في مساحات الأراضي التي بحوزة مجموعات سكانية مختلفة في المكان: فمساحة مدينة "بيت شان" هي 7500 دونم، وعدد سكانها حوالي 20 ألف مواطن. أما المساحة التي تمتد عليها الكيبوتسات التي يضمها المجلس الإقليمي "عيمق همعينوت" (مرج الينابيع) ويشمل وادي العاصي وكيبوتس نير دفيد، فتصل إلى 250 ألف دونم، وعدد سكان كل الكيبوتسات هو نحو 13500 شخص. الفرق شاسع وصارخ.

تاريخ لا يغيب: "السور والبرج" حاضران

يقدم موقع "مركز المعلومات عن الاستيطان في الجليل" معطيات عن كيبوتس نير دفيد كالتالي: التأسيس: 1936؛ عدد السكان: 700؛ الموقع: عند سفح الجلبوع؛ الارتفاع: 100 متر تحت مستوى سطح البحر؛ منظر: ناحال آسي يعبر الكيبوتس؛ ينتمي إلى حركة هشومير هتسعير، كان أول مستوطنة في البلاد أقيمت بطريقة السور والبرج".

"السور والبرج"- وفقا لموقع ويكيبيديا- هو "أسلوب استيطاني استخدمه المستوطنون الصهاينة في فلسطين الانتدابية خلال الثورة الفلسطينية الكبرى 1936–1939. كان إنشاء المستوطنات اليهودية الجديدة مقيد قانوناً من قبل سلطات الانتداب، ولكن البريطانيين أعطوا عموماً موافقة ضمنية لتدابير السور والبرج كوسيلة لمواجهة الثورة العربية. وأثناء حملة السور والبرج، أنشئت نحو 57 مستوطنة يهودية من بينها 52 كيبوتسا والعديد من الموشافات في أنحاء البلاد. كان الأساس القانوني هو قانون عثماني تركي ساري المفعول خلال فترة الانتداب، الذي نص على أنه لا ينبغي هدم أي بناء غير قانوني إذا كان السقف قد اكتمل".

ووفقاً لموقع "باب الواد": "شكّلت مستعمرة "تل عمل"، المعروفة اليوم بـ"كيبوتس نير دفيد،" مستعمرةَ السور والبرج الأولى على أرض فلسطين. تشير المراجع الصهيونية إلى أنّ ظهورها يعود إلى ربيع العام 1936، بالتزامن مع اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى. سعت حينها مجموعةٌ من المستعمرين الصهاينة في تل أبيب إلى إيجاد أرضٍ ليقيموا عليها مستعمرةً جديدةً، ليعثروا على أرضٍ يُقال إنّ الصندوق القومي اليهودي كان قد اشتراها من ملّاكٍ لبنانيين غائبين، بالقرب من كيبوتس بيت ألفا" ("مستعمرات السور والبرج وأصول العمارة الاستيطانية في فلسطين"، الباحثة إشراق عواشرة).

الدولة وكيبوتس نير دفيد توصلا إلى اتفاق بشأن الأزمة

ضمن آخر تطورات الصراع، بعد أن قدم عضو الكنيست موشيه أربيل من حزب شاس وحزب شاس التماساً بمطلب فتح كل مجرى الوادي للاستخدام العام، عقدت جلسة يوم الأربعاء الماضي في المحكمة المركزية في حيفا. الدولة اقترحت اتفاقية تسوية يتم بموجبها فتح جزء من وادي العاصي للجمهور مع تحديد عدد الزوار ووضع رقابة. وزارة العدل التي صاغت التسوية شدّدت على حق سكان الكيبوتس في الحفاظ على "نهج حياتهم"، وفتح جزء محدد من الوادي لعدد محدّد من الجمهور العام في الزيارات. الملتمسون رفضوا المقترح وأكدوا أنهم يطالبون بفتح إمكانية الوصول إلى الوادي على طول مجراه ودون رقابة.

يشير مقترح التسوية هذا إلى الجزء المعروف باسم "الشاطئ الأخضر"، والذي سمح كيبوتس نير دفيد بالوصول إليه منذ 22 حزيران دون المرور عبر المنطقة المأهولة، وبما يخضع لتسجيل مبكر وتحديد عدد الزوار حتى 250 شخصاً. ووفقاً لما اقترحته نيابة الدولة في لواء الشمال يتم توسيع المنطقة المتاحة للاستخدام العام، وإلغاء متطلبات التسجيل المبكر، ورفع عدد الزوار حتى 400 شخص.

اتهم المحامي الذي مثّل مقدمي الالتماس الكيبوتس بالاستيلاء على مورد عام وانتهاك حرية التنقل وانتهاك مبدأ المساواة فيما يتعلق بالوصول إلى الوادي.

أعلنت جمعية "تحرير العاصي" في بيان بعد جلسة الاستماع في المحكمة: "لقد شاهدنا اليوم حشد صفوف النخبة في دولة إسرائيل، حين كانت الدولة تنسق اتفاقية تسوية محرجة مع الكيبوتس، بشكل يتجاوز الملتمسين، وتتعامى عن شعب إسرائيل وعن وضع المناطق الطرفيّة في واقع العام 2021. الاقتراح يعطي مكافأة للجهة التي نهبت ثروة طبيعية وصنعت منها أرباحاً خاصة لها. هذه سابقة ليس لها أفق قانوني أو أخلاقي. لم يعد مواطنو إسرائيل، وخاصة في مناطق الأطراف، مستعدين لقبول الفتات والتنازل بما يترك الغبن متواصلا على حاله".

من جهته، قال كيبوتس نير دفيد: "الدولة وكيبوتس نير دفيد توصلا إلى اتفاق بشأن أزمة وادي العاصي. وسيُسمح للجمهور بدخول الشاطئ الأخضر في الجزء الغربي من الوادي خارج المنطقة السكنية. ويمكن دخول ما يصل إلى 400 شخص، بدون تسجيل مسبق هذا الصباح". وقال محامو الكيبوتس إن المقترَح يحفظ "التوازن اللائق" بين الطرفين.

ماذا كان في المنطقة قبل مجيء مستوطني نير دفيد؟

روعي مروم هو مؤرخ وباحث في تاريخ فلسطين، يدرس لنيل شهادة الدكتوراه في قسم تاريخ الشرق الأوسط في جامعة حيفا، وهو يقدّم خطاباً نقدياً واضحاً يرفض فيه الكثير مما يمكن اعتباره أساطير يحملها ويتناقلها سكان الكيبوتس عن الصراع وعن تاريخ المكان. في مقال بعنوان "ليست مستنقعات، وإنما زراعة مزدهرة: منطقة العاصي قبل إقامة نير دفيد"، يكتب: "يبث أعضاء الكيبوتس روايات عن الريادة والنشاط الفريد، والتضحية الخاصة والمثابرة، لتبرير وضعهم المتميز كمتصرفين حصريين بمجرى نهر العاصي، بحكم الأمر الواقع. أما الرواية الأخرى، فهي من السكان الآخرين، بما في ذلك بعض سكان مدينة بيسان، الذين ينتمون في الغالب للمهاجرين الجدد، الذين تم توطينهم في المدينة، بعد تهجير سكانها العرب الفلسطينيين خلال حرب 1948. فروايتهم تقول إن سكان نير دفيد استولوا على العاصي، في انتهاك للقانون والأخلاق، ورغبة في الثراء على حساب مورد عام وجماهيري في دولة إسرائيل".

رداً على الزعم بأنه "عندما أتى الكيبوتس لاستيطان وتعمير هذا المكان، كان مكاناً للمستنقعات وصحراء"، يكتب الباحث: "يتنازع الجانبان (سكان الكيبوتس وسكان بلدات مجاورة) على حق الأولوية، والعدالة الاجتماعية التوزيعية. ويتردد صدى الافتقار إلى الوضوح في الجدل الكبير على هذه القضية فيما يتعلق بالجغرافية التاريخية لمنطقة الكيبوتس، بسبب عدم وجود إجابة راسخة للسؤال: ماذا كان في المنطقة، قبل مجيء مستوطني نير دفيد، في العام 1936؟. والجواب لهذا السؤال، يتعلق بفصل منسي من تاريخ تطوّر القرى الفلسطينية ونشاطها الزراعي".

وهو يحاجج بأن الخرائط والوثائق التاريخية المحفوظة في أرشيفات المؤسسات الإسرائيلية الرسمية، تُظهر وتثبت أن منطقة كيبوتس نير دفيد، لم تكن على الإطلاق "مكاناً للمستنقعات أو صحراء". بل "كان نهر العاصي، قبل إقامة نير دفيد، يُشكّل حدودا بين قريتين فلسطينيتين- شمالا أراضي قرية الساخنة، وجنوباً أراضي قرية تل الشوك، وهي أملاك حكومية بدأ تطويرها في أواخر القرن التاسع عشر، وتم ربطها بالمركز الإداري الجديد، الذي أقيم في قرية بيسان آنذاك، التي بنيت على أنقاضها مدينة بيت شان. لم تكن هناك مستنقعات على طول مجرى نهر العاصي إطلاقاً، بل كانت هذه المنطقة عبارة عن مساحات شاسعة، تُروى بواسطة شبكة قنوات متفرّعة، حفرها الفلاحون العرب والبدو، بمبادرة من السلطات العثمانية، في عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1908)... نقلت هذه القنوات مياه الينابيع الغزيرة، إلى الأراضي الزراعية الخصبة... حيث زُرِعت الخضار وقصب المص والقطن والموز والأرز، وبعض المحاصيل الأخرى، التي بيعت في أسواق حيفا وجنين والناصرة ودمشق وبيروت. لقد كانت مياه المجاري المائية، تدير سلسلة من مطاحن القمح القديمة، التي خدمت الزائرين من قريب وبعيد، وكل هذا قبل إنشاء كيبوتس نير دفيد".

ويختتم الباحث: لقد نشأت المقاومة العربية لإقامة الكيبوتس، بسبب ما اعتبره السكان العرب المحليون، تشريدا وتجريدهم من حقوقهم... إنشاء كيبوتس نير دفيد، لم يكن جديدا على المنطقة، بل كان استمراراً، حتى وإن بطرق وأدوات أخرى، لعمليات تطوّر للاستقرار البشري والتحول، والتي بدأها السكان العرب المحليون في منطقة غور بيسان، ومهاجرون آخرون من جميع أنحاء الأردن والأغوار وشمال جبال نابلس، برعاية وتشجيع السلطات العثمانية، قبل ستين عاماً من إنشاء الكيبوتس، وحوالي ثمانين عاماً من وضع بواباته الصفراء الشهيرة أمام قاصدي نهر العاصي، المنعزل عن الجميع.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات