المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

قال بحث إسرائيلي جديد، سيصدر في كتاب بعد نحو شهرين، إن الحلبة الحزبية الإسرائيلية تتخلى عن الأيديولوجيا في مقابل الشخصنة. كما أن الأحزاب تبتعد عن إرادة الجمهور العام وتوجهاته، بسبب سيطرة عناصر اليمين الديني والمستوطنين على أحزاب الحكم، مثل الليكود وتحالف "البيت اليهودي"، فهم من يبلورون السياسات والقوائم الانتخابية، وهذا بدعم مطلق من شخص رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي شهد تحولات فكرية في العقدين الأخيرين، وهو بات أكثر انتهازية من أجل البقاء على رأس الحكم.

وتقول كاتبة البحث، الباحثة في قسم العلوم السياسية في الجامعة العبرية في القدس د. غيل طالشير، في مقابلة مع مجلة "ذي ماركر" الشهرية، إن الجهاز الحزبي في إسرائيل يبدو حاليا مغايرا كليا، فبدلا من الجدل المتبع بين يمين ويسار، بات الحديث الآن عن الهوية اليهودية في مواجهة الهوية الإسرائيلية. وتقول إنه "في العقد الأخير، تجري الانتخابات الإسرائيلية حول طابع الهوية، بمعنى هل إسرائيل هي أولا دولة ديمقراطية، أم هي دولة يهودية". وهذه المسألة هي محور مركزي في كتاب سيصدر بعد شهرين للباحثة حول الأيديولوجيا في حكومات نتنياهو.

وتضيف طالشير أنه في معسكر اليمين يتنافسون حول من هو يهودي أكثر، بينما في معسكر "الوسط- يسار" يتنافسون على من هو إسرائيلي أكثر. وبالإمكان رؤية أنه لا يوجد انتقال جمهور مصوتين من معسكر إلى آخر، بسبب تعريف الهوية هذا. فالمعسكر اليهودي يجذب نحو القطب الإثني الديني، بينما المعسكر الإسرائيلي يجذب نحو القومية المدنية. ويتمسك الوسط- يسار بوجهة نظر مدنية لدولة إسرائيل، من شأنها أن تسهّل على كل من هو ليس يهوديا. ووجهة النظر هذه، يتم طرحها مع أجندة رفاه عالمية، وهذا ينعكس في حملة الاحتجاجات الاجتماعية، التي أبرزت الفوارق بين يمين وبين يسار مدني اقتصادي. بينما وجهة نظر اليمين، بحسب طالشير، هي أن إسرائيل أولا وقبل كل شيء دولة يهودية، تابعة للشعب اليهودي، وهذا يعني يهودي بالمفهوم الديني، وليس فقط القومي. وقد فهم نتنياهو أن منافسته الكبرى على الأصوات هي أمام الأحزاب الدينية، وأولها تحالف "البيت اليهودي". وهو عمليا يأتي إلى جمهور المصوتين ويقول له: "إذا أردتم إسرائيل يهودية صوّتوا لنتنياهو، فإسرائيل هي قومية وأيضا قومجية ودينية"، بحسب تعبير طالشير.

وتسلط طالشير الضوء على التغيّرات الأيديولوجية والدينية التي حصلت في الأحزاب الدينية. وبحسب وجهة النظر القديمة، فإن الأحزاب الدينية، وتلك الدينية المتزمتة (الحريديم)، لم تكن موزعة بين يمين ويسار، ولم تكن تهمها المسألة السياسية أو الاقتصادية، طالما أنها تتلقى الميزانيات لجمهورها ومؤسساتها. وهذا صحيح حتى سنوات التسعين، لكن بعد ذلك بدأت التحولات، واحتدت أكثر في السنوات الأخيرة.

وتقول طالشير إن الأحزاب الدينية تحوّلت إلى بيضة قبّان لصالح اليمين المُتشدّد، وحتى المُتطرّف، بموجب المفاهيم الأوروبية. وباتت هذه الأحزاب تموضع نفسها على يمين حزب الليكود، بوجهة نظر ترى أن إسرائيل دولة يهودية، بينما هي ديمقراطية بموجب مقاييسها فقط.

وتؤكد طالشير أنه في الحلبة الحزبية الإسرائيلية لا يوجد وسط، لكن الأمل في تغيير الحكم يمر عبر الوسط، لأن الوسط هو المنطقة التي يمكن من خلالها انتقال الأصوات من اليسار إلى اليمين وبالعكس. ولذا، نما في إسرائيل تكتل لأحزاب الوسط، إلا إننا نرى بروز الشخصنة في أحزاب الوسط هذه، بقصد أنها أحزاب تقام حول شخصية ما، مثل يائير لبيد، الذي أقام حزب "يوجد مستقبل"، وبيني غانتس، الذي أقام حزب "مناعة لإسرائيل"، وموشيه كحلون الذي أقام حزب "كلنا"، وأورلي ليفي- أبكسيس، التي أقامت حزب "جيشر (جسر)"، وتسيبي ليفني، التي أقامت حزب "الحركة".

وتتابع طالشير قائلة إن مؤيد حزب العمل لن ينتقل مباشرة ليصوت لحزب الليكود، لكنه قد يفعل هذا ويصوّت لحزب غانتس أو لحزب أبكسيس، ومثل هذه الأحزاب باتت هي الإطار الذي يحدد من هو رئيس الحكومة، ورغم ذلك، فإن هذا ليس وسطا، ولا يوجد وسط في إسرائيل، لأن كل الأحزاب هي إما يمين أو يسار. وهذا يمكن رؤيته في ثلاثة مواقف للأحزاب: مسألة الهوية، والمسألة الاقتصادية الاجتماعية، والمسألة السياسية الأمنية. وتقريبا لا يوجد في كل الأحزاب مواقف وسط في هذه الملفات الثلاثة.

فمثلا حزب "كلنا"، بزعامة وزير المالية موشيه كحلون، هو حزب يميني واضح، تقول طالشير، ويتمسك بمقولة "لا يوجد شريك" في الطرف الفلسطيني، وهذا الحزب يتمسك بنظرة اقتصادية نيوليبرالية، تؤيد سياسة دعم الشرائح الفقيرة جدا. ومن حيث الهوية، فهو يؤيد قانون القومية، على حساب المساواة العامة وعلى حساب حقوق الأقليات.

في المقابل، فإن حزب "يوجد مستقبل"، وعلى الرغم من تصريحات رئيسه يائير لبيد، قاد خلال مشاركته في حكومة نتنياهو، في الفترة 2013- 2015، سياسة اقتصادية يسارية، أيدت تدخل الدولة لصالح المستشفيات الحكومية، وجهاز التعليم العام، والرفاه الاجتماعي، إلى جانب دعم موقف العودة الفورية إلى طاولة المفاوضات مع الفلسطينيين والدول العربية المعتدلة. أما من ناحية الهوية، فقد اعترض على هذا الحزب على قانون القومية، وقاد وجهة نظر إسرائيلية، وليست إثنية دينية ضيقة.

إن أحزاب الوسط تعبر عن عملية أخرى، مرّت بها الحلبة الحزبية الإسرائيلية والعالمية، وهي الشخصنة. وتقول طالشير إن أحزابا كانت أيديولوجية تبنت نمطا مشابها، مثل حزبي شاس ويهدوت هتوراة، وأحزاب المهاجرين الجدد باتت أحزاب الشخص الأول، كما هو حال كحلون ولبيد وغانتس وأبكسيس وليفني. ولا تجد في هذه الأحزاب من يتكلم قط عن الأيديولوجيا، فكل شيء فيها شخصي. وهؤلاء أشخاص تحركهم شهوة الوصول إلى السلطة.

ووجدت طالشير في بحثها أن عملية الشخصنة مرّت بها أحزاب أيديولوجية من اليمين واليسار في السنوات العشرين الأخيرة، وهذا يبرز بشكل خاص في الليكود، إذ إن نتنياهو جعل حزب الليكود في قبضته. وهو نقل الليكود من كونه حزبا ليبراليا قوميا، إلى حزب لـ"المحافظين الجدد"، وشعبوي.

تحولات نتنياهو وسيطرة المستوطنين

تقول طالشير إنه في سنوات التسعين كان نتنياهو و"أمراء الليكود" (تقصد شخصيات هم أبناء لقادة سابقين في الحزب)، أبطال الديمقراطية والليبرالية. فأين هم الأمراء اليوم؟، أين إيهود أولمرت، دان مريدور، بنيامين بيغن، تسيبي ليفني؟ كلهم تم رفشهم إلى خارج الليكود، بمن فيهم بيغن، الذي قوته السياسية ضعُفت كثيرا في السنوات الأخيرة، لأنه ظهر كديمقراطي ليبرالي. وفقط نتنياهو هو الذي بقي من هذه المجموعة، لكنه منذ ذلك الحين مرّ بتحولات كثيرة، من وجهة النظر الديمقراطية الليبرالية، إلى مقولة أن السلطة تعني أن على الوزراء أن يعبّروا عن رغبة الشعب، ولذا فإن من يعترض على وجهة نظر الوزراء، يعترض على الديمقراطية.

وعلى أساس وجهة النظر التي يتبناها نتنياهو، بات أمثال أييليت شاكيد وياريف ليفين قادة، وهؤلاء يطالبون بفسح المجال أمام الحكم ليحكم. وتقصد الباحثة في هذا أن هذين الإثنين قادا سلسلة قرارات حكومية ومشاريع قوانين، تنقل الكثير من القرارات وصياغة العمل الجاري من أيدي الطواقم المهنية إلى أيدي السياسيين، مثل أن يكون بقدرة الوزراء تعيين نواب مديرين عامين للوزارات، إذ إنه معروف أن منصب المدير العام هو بقرار من الوزير، بينما نواب المدير العام هم الطاقم المهني المسؤول الثابت في الوزارات، ويتم تعيينهم بناء على عطاءات وحسب مواصفات مهنية دقيقة.

كما بادر شاكيد وليفين إلى مشروع قانون يجعل من صلاحيات الوزير تعيين المستشار القانوني للوزارة، برغم أن تعيينه يتم من خلال لجنة مهنية. كما سعى نتنياهو وحكومته إلى إلغاء لجنة التعيينات الكبرى، التي توصي الحكومة بشأن أهلية التعيينات الكبيرة في جهاز الدولة. ومن أجل أن تضمن شاكيد جهازا قضائيا مناسبا لسياسة حكومات اليمين الاستيطاني، فقد عملت كثيرا لفرض تعيينات قضاة في المحاكم الإسرائيلية، لكن بشكل خاص في المحكمة العليا، ممن هم محسوبون على اليمين الاستيطاني. وهكذا بات 3 قضاة من بين 15 قاضيا في المحكمة العليا مستوطنين.

وشاكيد وليفين لم يكونا وحدهما، بل هناك أيضا وزيرة الثقافة ميري ريغف، التي بادرت إلى مشروع قانون لم ينه الكنيست إقراره عُرف باسم "قانون الولاء"، ويشترط دفع الميزانيات للفرق والمؤسسات الفنية الثقافية بقدر ما أن أداءها يتماشى مع السياسات الإسرائيلية. في حين أن وزير التربية والتعليم نفتالي بينيت طالب الجامعات بأن تضع أسساً لما أسماه "أخلاقيات عمل"، تحد من حرية التعبير في الأكاديميا الإسرائيلية، على ضوء تعالي أصوات منتقدة في جهاز التعليم الإسرائيلي للسياسات الإسرائيلية، على مختلف الصعد.

وترى طالشير في بحثها أن التحول الأيديولوجي لدى نتنياهو بدأ في العام 1999، حينما خسر الحكم لصالح حزب العمل، إذ سعى نتنياهو في ذلك العام إلى نقل إسرائيل كليا من سياسة اشتراكية ديمقراطية، إلى دولة رأسمالية نيوليبرالية. ويشار هنا، خلافا لما تقوله الباحثة طالشير، إلى أن أول من بدأ بالتخلي عن دولة الرفاه كان حزب العمل، إبان حكومة إسحاق رابين، خلال الفترة 1992- 1996، إذ هناك بدأت سياسة التخفيف الضريبي الضخم عن أرباب العمل والشركات الكبيرة، وبدأت تتراجع سياسة التسهيلات الضريبية لجمهور العاملين، بموازاة بدء عملية تخفيض المُخصصات الاجتماعية، على مختلف أشكالها.

إلا أن نتنياهو، وحينما تولى وزارة المالية في حكومة أريئيل شارون، التي شكلها في مطلع العام 2003، فرض سياسة اقتصادية وُصفت يومها بأنها "سياسة خنازيرية"، وشملت هذه السياسة إجراءات اقتصادية ضربت بشكل قاس الشرائح الفقيرة، وبشكل خاص الجمهور الفلسطيني في إسرائيل، مثل ضرب المخصصات الاجتماعية وخاصة مخصصات الأولاد، بأكثر من 60%. وعمل على تغيير نمط صناديق التقاعد، التي كان حسابها على أساس سنوات العمل، وباتت بحسب ما يتم توفيره في الصناديق؛ والأهم أنه دفع بصناديق التقاعد إلى البورصة، وباتت أموالا بمئات المليارات يستخدمها حيتان المال، ما يعني المقامرة بأموال التقاعد.

وقبل كل هذا، عمّق نتنياهو سياسة الخصخصة، التي باتت تتوغل في كل مناحي الخدمات الحكومية الأساسية، بما فيها الخدمات الاجتماعية من رفاه وبطالة، وأيضا في جهازي الصحة والتعليم.

لكن نتنياهو اضطر على التراجع ولو بقليل عن هذه السياسة، خاصة في ما يتعلق بالمخصصات، حينما شكّل حكومته الثانية في العام 2009، وشاركت فيها كتلتا المتدينين المتزمتين، شاس ويهدوت هتوراة، ثم عاد إليها في حكومته قصيرة المدى، في الفترة 2013- 2015، التي كانت من دون الحريديم، وفي حكومته الحالية أعاد قسطا من هذه المخصصات نظرا لوجود الحريديم فيها.

وتختم طالشير مقابلتها قائلة: إنهم يقولون عن نتنياهو بأنه انتهازي، وهذا صحيح، لأنه يفعل كل شيء من أجل أن يضمن بقاءه على رأس السلطة الحاكمة.

وتتابع طالشير أن المواقف التوافقية في المجتمع الإسرائيلي هي في مكان آخر من ناحية أيديولوجية، فغالبية الجمهور تؤيد حل الدولتين لشعبين، مع الحفاظ على الكتل الاستيطانية، وتؤيد سياسة اقتصادية اشتراكية ديمقراطية. إلا أن المشكلة هي أن الأحزاب أكثر تطرفا من ناخبيها، وأن مقاولي الأصوات ومبلوري صناعة الرأي داخل الأحزاب هم الذين يملون الخط الأيديولوجي، وهم من يحددون قائمة أعضاء الكنيست في حزب الليكود، وتحالف "البيت اليهودي".

وتقول طالشير إن من يسيطر على السياسة الإسرائيلية هم من يقررون كيف تبدو القوائم الانتخابية في الأحزاب الحاكمة، وهم جمهور المستوطنين، والجمهور الديني القومي، ومن ينظر إلى محيط نتنياهو يرى أكثر فأكثر عناصر من اليمين المتدين، مقابل تراجع الأشخاص من ذوي التوجهات الليبرالية العلمانية الديمقراطية.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات