رغم مرور قرابة عشرين يوما منذ الإعلان عن وقف إطلاق النار بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، وفي مقدمتها حركة حماس، إلا أن الأجواء في جنوب إسرائيل، خاصة في البلدات القريبة من الشريط الحدودي مع القطاع المسماة "غلاف غزة"، وكذلك في بلدة سديروت ومدينة أشكلون (عسقلان)، تسودها تخوفات من تجدد الحرب وانعدام الثقة بالحكومة الإسرائيلية.
ووفقا لتقارير صحافية ومحللين إسرائيليين، فإن أجواء القلق والتوتر في "غلاف غزة" خصوصا، بين السكان وقوات الجيش الإسرائيلي، نابعة من انعدام اليقين حيال الفترة المقبلة. فقد تم التوصل إلى وقف إطلاق نار من دون اتفاق بين الجانبين يوضح المكاسب التي حققها كل طرف، إلى جانب أن القوات الإسرائيلية ما زالت منتشرة في تلك المنطقة، كما أن السلطات الإسرائيلية لم تبدأ في ترميم ما دمرته الحرب، والحال نفسه حاصلة في قطاع غزة الذي يعاني من دمار هائل ألحقه العدوان الإسرائيلي.
ويبدو أن سكان جنوب إسرائيل لا ينسون ولا يغفرون لرئيس هيئة أركان الجيش، بيني غانتس، الذي أعلن بعد وقف إطلاق نار مؤقت خلال الحرب، في 6 آب الماضي، أن بإمكان سكان الجنوب العودة إلى الحياة الطبيعية، بينما استؤنف القتال بعد يومين. ويزيد من توجس سكان "غلاف غزة" أنه قبل ساعات معدودة من الإعلان عن وقف إطلاق النار الأخير، في 27 آب، قُتل اثنان من سكان كيبوتس "نيريم".
وجاء مقتل هذين الإسرائيليين فيما كانت الغارات الإسرائيلية مستمرة وقصف مدفعيتها متواصل ويسقط عشرات الشهداء في القطاع. لكن بحسب الصحافة الإسرائيلية، فإن الانطباع لدى سكان "نيريم" والكثيرين في "غلاف غزة" هو أن الجيش لم يتعامل "بسرعة وبنجاعة" مع منصات إطلاق الصواريخ في القطاع. وانتقاد آخر يوجهه السكان للجيش هو أن الأخير لم يبلغهم بوجوب عدم مغادرة بيوتهم وعدم إصلاح أضرار لحقت بشبكة الكهرباء إلى حين دخول وقف إطلاق النار الأخير حيز التنفيذ، وهو ما أدى إلى سقوط القتيلين الأخيرين.
"تجدد القتال قريبا"
على هذه الخلفية، كتب المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس"، عاموس هرئيل، أول من أمس الجمعة، أن سكان "غلاف غزة" تعلموا الدروس من جولات القتال السابقة، منذ عدوان "أيام التوبة" في العام 2004 مرورا بعدوان "الرصاص المصبوب" في نهاية العام 2008، وحتى عدوان "عمود السحاب" في تشرين الثاني العام 2012.
وأضاف أنه "في جميع المرات السابقة تم الإعلان بسرعة عن العودة إلى الحياة الطبيعية، وتم إقصاء جزء من المخاوف (لدى السكان) وتجندت الدولة من أجل المساعدة في ترميم الأضرار، ومنح الامتيازات الاقتصادية وإطلاق وعود كبيرة. (لكن) هذا ليس كافيا هذه المرة" في أعقاب عدوان "الجرف الصامد".
ووفقا لهرئيل، فإن "الشكوك السائدة لدى سكان النقب الغربي والشمالي هي أنه حتى الأعياد (اليهودية في نهاية الشهر الحالي وبداية الشهر المقبل)، أو بعدها بقليل، سيتجدد إطلاق النار. ولأن القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل أوضحت لحماس أنها ليست معنية بشن عملية عسكرية هجومية واسعة لقمع نيران القذائف الصاروخية من القطاع، فإنه حُكم عليهم باستئناف الوضع السابق، وهو تقطير الصواريخ (الفلسطينية) وغارات سلاح الجو (الإسرائيلي)، حتى تتآكل إمكانية وجود حياة شبه طبيعية عند حدود القطاع".
ولفت هرئيل إلى أنه في الجانب الفلسطيني، ووفقا لتصريحات وفود أجنبية زارت القطاع مؤخرا، فإن "الفلسطينيين في القطاع يشككون في نوايا الوسطاء الدوليين، ولا يثقون بوعود السلطة في رام الله بالمساعدة ويتحسبون من أن المعارك ستتجدد قريبا عندما لا يتم التوصل إلى تسوية طويلة الأمد لوقف إطلاق النار وتخفيف الحصار".
"إستراتيجية حماس بعيدة المدى"
وأوضح هرئيل أن شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية ("أمان") تمسكت طول الحرب الأخيرة على غزة بتقييم مفاده أن الحرب اندلعت نتيجة لـ"حراك تصعيدي". ووفقا لهذا التقييم فإن "حماس سئمت من الوضع الموجود في غزة لكنها لم تخطط لحرب وإنما انجرت إلى داخلها، خطوة تلو الأخرى".
ورأى هرئيل أن هذا التقييم "ليس مقنعا". واعتبر أنه "لا شك في أن حماس تأثرت من ضائقة عينية، وهي نتيجة الحصار الذي تشدد على القطاع منذ صعود الجنرالات إلى الحكم في مصر في تموز العام الماضي، لكن تصريحات قيادة حماس طوال المواجهة دلّت على وجود إستراتيجية بعيدة المدى وتقف خلفها أهداف تم رسمها مسبقا".
يضاف إلى ذلك، وفقا لهرئيل، عملية اختطاف المستوطنين الثلاثة وقتلهم، والتقارير الإسرائيلية التي تتحدث عن وجود "علاقة عميقة" بين منفذي العملية وكتائب القسام، الجناح العسكري لحماس. واعتبر أنه "حتى لو لم يتم إصدار أمر فوري لتنفيذ العملية بالمفهوم المقبول للهرمية العسكرية، إلا أنه كانت هناك توجيهات عامة من غزة لتنفيذ عمليات اختطاف وتم تحويل أموال كثيرة" من القطاع إلى الضفة.
وفي سياق إستراتيجية حماس، تابع المحلل الإسرائيلي أن "نشطاء حماس يذكرون في كتاباتهم أحيانا النضال من أجل الاستقلال في فيتنام والجزائر على أنه نموذج للاحتذاء به. وهذه صيغة فلسطينية لأفكار حول المقاومة العنيفة وروح قتالية وصبر طويل الأمد حتى تحقيق الغاية".
وأضاف أن الخطابات التي ألقاها رئيس المكتب السياسي لحماس، خالد مشعل، أثناء الحرب تضمنت "منظومة متطورة من التسويغات، التي نزلت طبعا على آذان صاغية في الغرب. وطالبت حماس في خلاصتها بحياة أفضل لسكان غزة، أي وقف الحصار وضمان حرية الحركة وكسب الرزق. لكن كانت هناك غاية أخرى لهذه المطالب، هي فتح المعابر، إقامة ميناء وإعطاء ضمانات أجنبية لإنشاء مطار، وكلها تندمج في الهدف الأسمى، وهو إقامة دولة حماس مستقلة وذات سيادة كاملة في القطاع، واعتراف دولي".
ومضى المحلل قائلاً إن "قادة حماس يُظهرون خطا متصالحا نسبيا في المقابلات مع وسائل الإعلام الغربية: أن تنسحب إسرائيل بالكامل إلى حدود العام 1967، الإعلان عن هدنة لسنوات طويلة وبعد ذلك سنرى ماذا سيحدث. لكن تقف خلف هذه الأمور قيادة عقائدية صارمة، حازمة وتجري حسابات، ولا تتورع عن استخدام العنف الشديد تجاه الداخل والخارج، من أجل تحقيق غاياتها في المدى البعيد".
ورأى هرئيل أنه كان بإمكان إسرائيل توجيه ضربات جدية إلى القيادة السياسية والعسكرية لحماس أثناء عدوان "الرصاص المصبوب"، لكن بعد عدوان "الجرف الصامد" يبدو أن قادة حماس باتوا مقتنعين أن "الحركة نجحت في وضع ثمن عال أمام إسرائيل في حال شن عملية عسكرية برية... وبدا جليا أن تصريحات قادة حماس (بعد وقف إطلاق النار الأخير) تعكس شعورا بتحقيق إنجاز. ويقولون لأنفسهم إنهم صمدوا أمام القوة العظيمة للجيش الإسرائيلي خمسين يوما. وإسرائيل، مثلما حدث مقابل حزب الله في لبنان في العام 2006، ليست قادرة على الصمود في نسبة الخسائر العسكرية المطلوبة منها من أجل الانتصار علينا".
احتمال انهيار مفاوضات القاهرة
استنتج هرئيل مما تقدم أن مخاوف سكان جنوب إسرائيل "ليست وهمية"، خاصة وأن شيئا لم يتحرك في قطاع غزة منذ انتهاء العدوان وأن "حماس لا يمكنها أن تستعرض أمام السكان تحقيق أي إنجاز حقيقي لتحسين ظروف حياتهم".
ويتوقع أن تدعو مصر الأطراف إلى العودة إلى المفاوضات غير المباشرة في محاولة للتوصل إلى اتفاق مفصل وملزم حول وقف إطلاق نار دائم والتباحث في مطالب حماس وإسرائيل.
واعتبر هرئيل أن "مفتاح التوصل إلى اتفاق موجود بيدي السلطة الفلسطينية" لأن مصر تشترط فتح معبر رفح بعودة قوات الحرس الرئاسي الفلسطيني إلى المعبر ومناطق أخرى عند الحدود بين القطاع ومصر. وإسرائيل تؤيد ذلك، وحماس أيضا. لكن على ضوء تجارب الماضي فإن "السلطة، كما تبدو الأمور في الأيام الأخيرة، ليست مستعدة للاستمرار في لعب هذه اللعبة".
وأضاف أن ثمة احتمالا لانهيار المفاوضات في القاهرة، وكتب أنه "عندما تكون جهات كثيرة تسحب الأمور باتجاهات متعددة والوضع الأساس ليس مستقرا، فإنه على الأرجح أن يكون هناك تأثير لمن يحملون السلاح. ومن هنا بالإمكان الاستنتاج أن الجناح العسكري لحماس، أو مجموعات مسلحة صغيرة أكثر، قد تحاول استئناف إطلاق الصواريخ على إسرائيل بحلول نهاية أيلول".
ورأى هرئيل أن "هذه الظروف تعزز التقدير أن الحرب في غزة لم تكن قصة النجاح التي حاولت القيادة الإسرائيلية تسويقها للجمهور لدى الإعلان عن وقف إطلاق النار. وعمليا، هذه الحرب الرابعة في السنوات الثماني الأخيرة (حرب لبنان وثلاثة حروب ضد غزة) التي لم تنهها إسرائيل بانتصار واضح. وحتى الحرب الأخيرة على الأقل، فإن قوة حماس ازدادت من جولة قتال إلى أخرى".
ويبدو أن الآراء داخل الجيش الإسرائيلي متباينة حيال احتمالات استئناف القتال، بين ضباط يعتبرون أن قيادة حماس مرتدعة وآخرين يقولون إنه توجد انتقادات في الشارع الفلسطيني ضد حماس بسبب عدم تحقيق إنجازات وأن من شأن ذلك دفع حماس إلى استئناف إطلاق الصواريخ.
رغم ذلك، نقل موقع "واللا" الالكتروني، أول من أمس، عن ضباط في فرقة غزة العسكرية في الجيش الإسرائيلي قولهم إن الجيش الإسرائيلي يستعد لاحتمالين: استمرار الهدوء أو استئناف القتال. لكن هؤلاء الضباط شددوا على أنه "في ضوء الوضع الحالي في غزة، فإن الخيار الثاني معقول وحماس قد تسمح بإطلاق صواريخ باتجاه الجبهة الداخلية الإسرائيلية".
وقال أحد الضباط "لقد أنهينا العملية العسكرية من دون اتفاق وكلا الجانبين يختبران حدودهما. نحن نشغل آليات هندسية لاقتلاع العشب الذي يمكن زرع عبوات ناسفة بينه، والفلسطينيون يختبرون يقظتنا بواسطة التسلل من البر والجبهة البحرية من أجل وضع تحديات أمام قواتنا".
حرس الحدود في "غلاف غزة"
في سياق المخاوف السائدة لدى سكان جنوب إسرائيل، أفادت القناة العاشرة للتلفزيون الإسرائيلي، يوم الخميس الماضي، بأن وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، إسحاق أهرونوفيتش، يعمل على خطة تقضي بإقامة سريتين جديدتين في وحدة حرس الحدود لنشرها في بلدات "غلاف غزة".
وعقد قائد وحدة حرس الحدود اجتماعا مع رؤساء السلطات المحلية في هذه البلدات، في إطار بلورة الخطة لإقامة السريتين، اللتين ستعملان على غرار عمل قوات حرس الحدود في الضفة الغربية وستكون متواجدة في البلدات المحيطة بالقطاع بصورة دائمة.
وبحسب أهرونوفيتش فإن إقامة سريتي حرس الحدود هدفها محاولة الاستجابة لمخاوف سكان البلدات من الأنفاق التي قال إنه يتم حفرها في قطاع غزة واحتمال امتدادها إلى ما وراء الشريط الحدودي.
وتقرر بقاء قوات من الجيش الإسرائيلي في هذه الأثناء في هذه البلدات إلى حين إقامة السريتين. ورغم ادعاء إسرائيل بأنها قضت على ما تصفه بـ "تهديد الأنفاق الهجومية" خلال الحرب العدوانية على القطاع، إلا أن سكان البلدات ما زالوا يعبرون عن مخاوف من شن هجمات بواسطة أنفاق كهذه تمتد من داخل القطاع إلى بلداتهم.
هذا التقرير ممول من قبل الاتحاد الأوروبي.
مضمون هذا التقرير هو مسؤولية مركز "مدار" و لا يعبر بالضرورة عن آراء الاتحاد الاوروبي