شكلّت الهبّة الفلسطينية في شهر أيار الفائت، من بين أمور أخرى، بمثابة محكٍ لإخضاع العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة إلى الفحص والتحليل على صعيد التحوّلات التي طاولت موقف الإدارة الجديدة في البيت الأبيض من جهة، وموقف الجالية اليهودية الأميركية من جهة أخرى. وفي الوقت عينه فإن هذه التحوّلات بدورها كانت بمنزلة إيذان ببدء حملة هجوم يمينية سرعان ما استعرت ضد تلك الجالية، كما سبق أن نوهنا في أكثر من مناسبة في الماضي القريب.
ويمكن القول إن الدور التدريجي الذي تقوم به جهات راديكالية أو ليبرالية في صفوف اليهود في الولايات المتحدة، إلى ناحية تغيير مواقف الحزب الديمقراطي الحاكم حيال إسرائيل، ويبدو أنه دور مُرشّح للاتساع، هو ما يُؤجّج زيادة وتيرة الهجوم اليمينيّ على هذه الجهات، التي تشمل في ما تشمل تصعيداً في حدّة اللهجة، وفي كيل الاتهامات.
تقف في رأس حملة الهجوم هذه صحيفة "يسرائيل هيوم"، التي لا تنفك تركّز هجومها على ما ترى أنه مُستجدّ ومثير للقلق على مستوى الخطاب العام، أو على صعيد السردية، وبشكل خاص في محور ما يوصف بأنه "تبدّل المصطلحات"، الذي يؤول إلى طرح فحوى جديد لا سابق له، على غرار عدم الاكتفاء مثلاً بالحديث عن احتلال إسرائيلي بدأ في العام 1967، إنما أيضاً عن تكوّن نظام أبارتهايد، وكيف أن بعض من
يشكّل حجم التشغيل المتساوي لمختلف شرائح المواطنين في المجتمع امتحاناً آخر لمدى تطبيق مبدأ المساواة. ويستدلّ من تقرير جديد نشره مكتب مراقب الدولة الإسرائيلية، مطلع هذا الشهر، أن العلامة في هذا الامتحان ما زالت بعيدة عن جعل نظام الحكم الإسرائيلي يعبر المعايير الدولية، وحتى المحلية التي حددتها حكومات ومؤسسات في السابق، نحو التصريح بثقة بأن المساواة مبدأ محترم في هذه الدولة فعلاً وليس قولاً فحسب.
أقرت الحكومة الإسرائيلية واحدة من أكبر ميزانيات الدولة، للعامين الجاري والمقبل 2022، بعد أن انتهى العام 2020، ولأول مرّة منذ 73 عاما، بدون أن تقرر له ميزانية خاصة، بفعل الأزمة الحزبية التي امتدت لأكثر من عامين. وتمشيا مع توصيات بنك إسرائيل المركزي، لم تقر الحكومة تقليصا كبيرا في الميزانية لسد العجز، بهدف تجاوز أزمة كورونا وما تخلفه من أزمات اقتصادية. ورغم ذلك فإن جمود ميزانيات بعض الوزارات هو بحد ذاته تقليص، في حين أن ميزانية الجيش وحدها ارتفعت بنسبة 14%. وخلافا للتقارير الإسرائيلية، فإن هذه الحكومة وائتلافها الضيق في الكنيست، قادران على تمرير الميزانية كليا، حتى الرابع من تشرين الثاني المقبل.
استخدمت منظومة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلية أدوات القمع، المادية والمعنوية المختلفة، كوسيلة للسيطرة على، والتحكّم في، حياة الفلسطينيين بشكل مادي فجّ، وبشكل آخر ناعم، منذ احتلال فلسطين عام 1948، كما استدمجت على مدار عقود طويلة من الاحتلال الوسائل الحديثة، لا سيّما التكنولوجية منها، لإدامة احتلالها وسيطرتها واستباحة حياة الفلسطينيين، كجزء من محاولة إخضاعهم والسيطرة عليهم. ولجأت خلال السنوات الماضية إلى الاعتماد أكثر على الوسائل التكنولوجية في عمل أجهزتها المخابراتية لمراقبة الفلسطينيين بشكل مرئي وعبر الإنترنت لأهداف عدّة تتراوح ما بين استعراض "القوة الإسرائيلية الخارقة" وإسقاطات ذلك على الوعي الفلسطيني؛ وتسويق هذه الوسائل والتقنيات عالمياً بعد أن حولت الأراضي المحتلّة إلى حقول تجارب لتقنياتها العسكرية والأمنية التي تبيعها للأنظمة القمعية حول العالم؛ لكنها وبكل تأكيد تعبير عن حالة الخوف والقلق الدائمة التي تعيشها المنظومة الاستعمارية في إطار مساعيها لإدامة مشروعها الاستعماري.
الصفحة 190 من 859