اتسعت في إسرائيل، خلال السنوات الأخيرة، ظاهرة "جرائم الفقر"، وهي مخالفات نابعة من الفقر الآخذ بالتفاقم في هذه الدولة. وكان المفتش العام للشرطة، يوحنان دانينو، قد حذر في أعقاب نشر تقرير الفقر، في نهاية العام 2012، من "أننا نستعد لمواجهة سنة اقتصادية صعبة، وهناك ارتفاع في جرائم صراع البقاء. أناس يسرقون من أجل أن يأكلوا ويعيشوا".
ولا توجد في إسرائيل حتى اليوم معطيات حول حجم الجرائم المرتكبة على خلفية الفقر أو صراع البقاء الاقتصادي. ووفقا لتقرير نشرته صحيفة "هآرتس"، يوم الجمعة الماضي، فإن ضبابا كثيفا يلف هذا الموضوع، إذ ليس بالإمكان الحصول على معطيات حول ذلك من الشرطة أو الدفاع العام، وهي دائرة في وزارة العدل توفر محامي دفاع لمشتبهين ومتهمين لا يتمكنون من توكيل محامين، كما لا تتوفر معطيات كهذه لدى خدمة مراقبة السلوك، التابعة لوزارة الرفاه والخدمات الاجتماعية، وتتابع المتهمين والمدانين الذين يقرر هذا الجهاز أنهم بحاجة إلى عناية وإصلاح اجتماعي.
رغم ذلك، فإن دائرة الدفاع العام بدأت تلاحظ تراكم ملفات جنائية يصفونها بأنها "جرائم فقر". وقالت نائبة مدير دائرة الدفاع العام، الدكتورة حاغيت لرناو، إنه "نرى أيضا داخل القانون الجنائي، الموجه بمعظمه إلى الشرائح السكانية الضعيفة، أنه توجد مخالفات أكثر نابعة من وضع اقتصادي ومعيشي، مثل سرقة طعام، كهرباء، ماء، منتجات حياتية أساسية، أو أفراد يهددون بالانتحار بسبب ضائقة اقتصادية. والحديث يدور عن شرائح ضعيفة جدا، وعدا الفقر هم يعانون من أوضاع حياتية متوترة جدا، وكل اهتماماتهم تتجه نحو البقاء على قيد الحياة".
وشددت لرناو على أن "هؤلاء أفراد لا يعرفون حقوقهم، ولا يعرفون المطالبة بها ولا يعرفون قول لا. ومن السهل الدوس عليهم داخل هذه الأجهزة. والسؤال هو ما إذا كان صائبا استخدام القانون الجنائي في حالات كهذه. فالإنسان يسرق الكهرباء وإلا فإنه سيضطر إلى السكن في مكان من دون كهرباء، على ماذا نحاكمه؟ الأفضل أن نساعده كي يكون لديه كهرباء في بيته".
وتضمن تقرير "هآرتس" شهادات كثيرة لفقراء اعترفوا بالسرقة من شبكات التسويق (السوبرماركيتات) على مدار سنوات، لكنهم شددوا على أنهم لا يسرقون مساحيق أو مواد تجميل "ولا حتى صابون غسيل"، وإنما مواد غذائية فقط، مثل أجبان أو لحوم لا يمكنهم شراءها. إلا أن القانون الجنائي لا يفرق بين من يسرق جهاز تلفزيون أو كيس حليب. والمعطيات، لدى الشرطة، لا تصنف الجرائم الجنائية وفقا لنوع السرقات أو الدخل أو المستوى الاجتماعي – الاقتصادي "للمجرمين". رغم ذلك، فإن "جرائم الفقر" ليس فقط أنها تحدث دائما، وإنما هي تنتقل من جيل إلى جيل داخل العائلة، كما أن الفقراء يواجهون صعوبة بالغة في مواجهة "غول" البيروقراطية التي تترجم غالبا إلى لوائح اتهام.
7ر1 مليون فقير 40% منهم عرب!
ليس كل إنسان فقير يخالف القانون، لكن معظم القابعين في السجون في العالم من الفقراء. وأكد إحصاء أجري بين السجناء في الولايات المتحدة، أجري في العام 1991، أن 65% منهم لم ينهوا المدرسة الثانوية، ونصفهم فقط عمل بوظيفة كاملة قبل سجنهم. كما أن ثلثي السجناء هم من الأميركيين الأفارقة.
ورغم عدم وجود تصنيف اجتماعي – اقتصادي للسجناء الجنائيين في إسرائيل، لكن يوجد تلاؤم بين الفقر ونسبة السجناء. إذ أن 42% من السجناء الجنائيين في إسرائيل هم عرب، الذين نسبة الفقر والبطالة بينهم أعلى بكثير منها لدى اليهود. وتشير معطيات إلى أن 30% من السجناء في سجن القاصرين "أوفيك" هم من أبناء المهاجرين الأثيوبيين، الذين يشكلون إحدى الشرائح الأكثر ضعفا وفقرا في المجتمع الإسرائيلي.
وتشير معطيات تقرير الفقر في إسرائيل للعام 2013، الذي نشرته مؤسسة التأمين الوطني، إلى أنه يوجد في إسرائيل قرابة 7ر1 مليون فقير. وتبلغ نسبة الفقراء 8ر21% ونسبة العائلات الفقيرة 6ر18%، وتصل إلى 4ر47% لدى العرب. والنسبة العامة للأولاد الفقراء هي 8ر30%، بينما لدى الأولاد العرب ترتفع إلى أكثر من 60%. وعموما فإن الفقراء العرب يشكلون نسبة 9ر38% من مجمل الفقراء في إسرائيل. و66% من العائلات الفقيرة تعيش في فقر متواصل، علما أن 60% من العائلات الفقيرة يعمل فيها أحد الأبوين، وأحيانا كلاهما، لكن الأجر متدن لدرجة كبيرة. كذلك فإن معدل الدخل لدى المستخدمين العرب أدنى بنسبة 32% من المستخدمين اليهود.
وقالت رئيسة دائرة الدراسات والتطوير في سلطة إصلاح السجين، الدكتورة روتيم أفودي، إن "العلاقة بين الأقليات والمهاجرين الجدد وبين الفقر ليست مباشرة بالضرورة، لكن بالإمكان القول إنه يوجد في السجون تمثيل متزايد للفقر. ويقال إنه يوجد للفقر لون ولهجة، وهذا صحيح بالنسبة لإسرائيل بكل تأكيد".
وشددت مديرة خدمة الفرد والعائلة في وزارة الرفاه الإسرائيلية، أيالا مئيري، على أنه "بالإمكان القول إن الفقر، خاصة إذا كان متواصلا ومتعدد الأحجام، هو عامل خطر، بسبب الضائقات التي تنتقل من جيل إلى جيل، والمشاكل في أداء الأهل، وعدم القدرة على الاندماج بعمل مناسب، والأداء في المستوى الشخصي والاجتماعي. وهذه شريحة سكانية يتم إقصاؤها أكثر من غيرها، وتعي الفرص الماثلة أمامها بشكل أقل من غيرها".
مخالفات الفقراء
وفقا لمدير دائرة الدفاع العام، الدكتور يوءاف سابير، فإنه "إذا دخلت إلى قاعة المعتقلين في محكمة الصلح في تل أبيب، سترى بالأساس مهاجرين، أقليات (أي عرب)، مشردين، مرضى جسديا أو عقليا ومدمنين أي أشخاصا مستضعفين اجتماعيا، وليس مجرمي الياقات البيضاء الذين يصلون إلى عناوين الصحف".
وأضاف سابير أن "هناك مخالفات، بمجرد تعريفها، تلتصق بالطبقات الضعيفة، مثل إهمال الوالدين. فإذا كنت تملك المال فإنك ستسمح لنفسك بإحضار حاضنة، والبيت سيبدو كما ينبغي وسيكون هناك طعام في الثلاجة. ويعتقل المشردون لأنه يفعلون أمورا يحظر فعلها في الحيز العام، لكن هذا بسبب عدم وجود مكان آخر بإمكانهم التواجد فيه. وهذه تكاد تكون مخالفات مكانة اجتماعية، أي أن مكانتك الاجتماعية كفقير تصنع المخالفة. عدا ذلك، واضح أن تطبيق القانون في مناطق معينة وعلى مجموعة سكانية معينة هو أمر ذو دلالة أكبر. فإذا اشتبهوا بك أن بحوزتك ممتلكات مسروقة، ستضطر إلى توفير إثبات على أنها ملكك، لكن إذا تجولت وبيدي ساعة ثمينة، فلا أحد سيطلب مني فاتورة شرائها".
وأكد أن "هناك أشخاصا، الاعتقال أو التوقيف هو جزء من حياتهم اليومية". وأردف أن "هناك مسألة الوعي لحقوقهم والقدرة على التمسك بها. فالأفراد من الشرائح الاجتماعية القوية يعرفون أنه إذا أجروا (أفراد الشرطة) تفتيشا جسديا عليهم، لديهم حقوق، وأنه إذا أرادوا التحقيق معهم، لديهم الحق باستشارة محامي. (لكن) الأشخاص من الشرائح الضعيفة يعون حقوقهم أقل، ويخشون أحيانا من مواجهة أفراد الشرطة. وعندما يعتقلون، فإن احتمال أن يكون لديهم المال لاستئجار محام أو أن تكون لديهم عائلة داعمة، هو احتمال ضئيل لكي يوفر لهم بدائل اعتقال ويسمح بإطلاق سراحهم. وانعدام المساواة موجود طوال عملية الاعتقال والمحاكمة".
من جهة أخرى، أشارت مديرة دائرة خدمة مراقبة سلوك البالغين في وزارة الرفاه، راحيل فاينشتاين، إلى أنه "توجد مجتمعات تعيش بفاقة وزهد، ورغم ذلك فإن نسبة الجريمة فيها منخفضة جدا". إلا أنها لفتت إلى أن "المشكلة تبدأ كلما تتسع الفجوات بين ما أريد وما أطمح إليه وبين ما هو متوفر لدى الآخرين. والفجوات الاجتماعية والاغتراب يفسران الجريمة بشكل دقيق أكثر من مجرد الفقر. فالأفراد يشعرون بأنهم مهزومون، وأنهم لن يحققوا إنجازات أبدا".
وأظهرت أبحاث وجود علاقة مباشرة بين انعدام المساواة الاقتصادية ومستوى الجريمة، وأنه في المجتمعات التي لا توجد فيها فجوات اقتصادية كبيرة، كانت جرائم القتل والإدمان أقل وتزايد الشعور بالثقة في المجتمع. لكن في حالة إسرائيل، فإنها واحدة من الدول الخمس الأقل مساواة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) وهي الأولى في نسبة الفقر بين الأنظمة الاقتصادية المتطورة. وتبين معطيات وزارة الأمن الداخلي الإسرائيلية أنه في العام 2013 طرأ ارتفاع بنسبة 1ر2% في الأضرار النابعة عن الجريمة في إسرائيل مقارنة مع العام 2012، وأنه تزايدت خطورة الجرائم في إسرائيل.
وأشارت المحاضرة في كلية القانون في جامعة تل أبيب، البروفسور نيطع زيف، إلى أن "الدولة تصنف الإنسان الفقير كـ’عدو’ المجتمع بواسطة استخدام القانون الجنائي". إلا أنها شددت على أنه "كلما تزايد حجم الفقر، ازداد الاحتمال أن يتجه الأفراد إلى أعمال خارقة للقانون أو عدم الانصياع له، من أجل تحقيق احتياجات معيشية، مثل السكن بصورة غير قانونية في شقق، وارتباط غير قانوني بشبكات الماء أو الكهرباء، الاحتيال على التأمين الوطني من خلال عدم الإفصاح عن دخل، وسرقة طعام خصوصا".
استضعاف الفقراء
اعتبرت لرناو، من الدفاع العام، أن "الذين يسرقون الطعام إنما يفعلون ذلك لأنهم يعانون من ضائقة، أو لأنهم مصابون بداء السرقة. وادعاؤنا هو أن النيابة العامة يجب أن تتبع سياسة واضحة، متى تكون هذه قضايا ينبغي توجيهها إلى دوائر الرفاه من دون تقديم لوائح اتهام، ومتى يجدر استخدام أدوات القانون الجنائي". والجدير بالإشارة أنه في معظم القضايا الصغيرة، التي يرتكبها الفقراء، تكون الشرطة هي المدعية.
والأمر الأكثر وضوحا في هذا السياق، هو تزايد عدد السجناء في إسرائيل. ووفقا لتقرير الدفاع العام، من العام 2013، فإن نسبة المعتقلين في السجون تضع إسرائيل في المكان الثامن على مستوى العالم. إذ ارتفع عدد السجناء في إسرائيل من 7300 في العام 1996 إلى 14800 في العام 2013. وتفاخرت الشرطة الإسرائيلية في تقرير نشرته في آذار الفائت، بأنه ارتفعت نسبة الاعتقالات حتى الانتهاء من الإجراءات القضائية بـ12% هذا العام قياسا بالعام الماضي. وقال تقرير للدفاع العام، قبل عامين، إنه يلاحظ خفض السقف لتقديم طلبات السجن، وأنها تشمل التساهل في تقديم طلبات كهذه وسجن أشخاص من دون ماضٍ جنائي.
وعقبت الرئيسة السابقة للمحكمة العليا الإسرائيلية، دوريت بينيش، على ذلك بالقول إنها "ذُهلت من ارتفاع عدد المعتقلين حتى الانتهاء من الإجراءات القضائية، الذي أشارت إليه الشرطة باعتزاز. فالاعتقال هو أكثر الأمور انتهاكا لحقوق الفرد". ويبرز في تقرير الدفاع العام أن غالبية المعتقلين لا يتمكنون من تطبيق حقوقهم، وبينها استشارة محام قبل خضوعهم للتحقيق في الشرطة.
ووفقا لأفودي من سلطة إصلاح السجناء، فإنه فقط ثلث السجناء الذين يستحقون الإفراج عنهم مبكرا وخدمة الإصلاح يحظون بالحصول على هذا الحق، وذلك بسبب نقص في الميزانيات. وأوضحت أن السجن، ليس فقط أنه في غالب الأحيان لا يحل المشكلة التي أدت إلى تنفيذ المخالفة، وإنما هو أحيانا يزيد المشكلة. فعندما يدخل شخص ما من هؤلاء الفقراء إلى السجن، تستمر ديونه في التراكم، وفي غالب الأحيان يتم فرض غرامة عليه كجزء من العقاب ويتعين عليه تسديدها.
من جانبه، قال المحامي رعنان غلعادي، من الدفاع العام، إنه في السنوات الأخيرة يحاولون في هذه الدائرة تركيز النقاش حول جذور المخالفة وليس نتائجها فقط. وأضاف أنه "في أحيان كثيرة، يتم خرق الحكم على زبائننا، الذين تقدم ضدهم لائحة اتهام، والسلطات هي التي تبادر إلى ذلك أولا. وعلى سبيل المثال، شكل اعتناء سلطات الرفاه بهم، الذي يؤدي لارتكاب المخالفة".
وأوضح غلعادي أن "الدفاع عن الحق في العيش بالحد الأدنى من الكرامة هو واجب دستوري على الدولة، واعترفت به المحكمة العليا. وعندما يتم خرق هذا الواجب، عندما لا يكون مكان لدى إنسان ما للسكن فيه، أو كيف يضع طعاما لأولاده على الطاولة، فهذا خرق من جانب الدولة. والنزاهة تلزم الدولة بتصحيح انتهاكاتها قبل أن تحاكم أولئك الذين حاولوا مواصلة العيش في أعقاب هذا الانتهاك. كذلك ينص قانون الأساس على أن أي مس بحقوق دستورية يجب أن يكون تناسبيا، ولذلك فإن القانون الجنائي، الذي يمس بالحقوق الدستورية، يجب أن يكون الوسيلة الأخيرة وليس الأولى لمعالجة مشكلة اجتماعية".
وفيما يتعلق بالعرب، فإن أفودي، من سلطة إصلاح السجين، أجرت دراسة على قرارات لجنة تسريح السجناء، بين الأعوام 2000 إلى 2011، ووجدت أن احتمال رفض اللجنة لإطلاق سراح سجين عربي هو ضعف احتمال رفض إطلاق سراح سجين يهودي في أول فترة سجن، وترتفع هذه النسبة إلى 57ر2 ضعف في حال كان السجين يقضي فترة عقوبة ثانية، وذلك فقط لأنه عربي. كذلك يتبين من المعطيات أن 42% من السجناء هم عرب.
صعوبات في تحصيل الحقوق
ويواجه الفقراء، بشكل عام، بعد ارتكابهم مخالفة، مشكلة في التعامل مع البيروقراطية، التي بإمكانها أن تربك أي إنسان عادي. وقالت غيلي تامير، وهي مستشارة خارجية للدفاع العام وتساعد على استنفاد الحقوق، إنه "في أحيان كثيرة يكون من الصعب الوصول إلى المعلومات حول حقوق المتهم. ولدى الشرائح المستضعفة، لا يعرف المتوجه في معظم الأحيان ما الذي يستحقه من الدولة، ولا يدرك أن عليه إحضار وثائق، أو أنه لا يكون مستعدا للحصول على مساعدة من أجل الحصول على حقوقه".
وأكدت مديرة خدمة مراقبة سلوك البالغين، راحيل فاينشتاين، أنه "في حالات كثيرة لا يعرف هؤلاء الأفراد تحصيل حقوقهم. وواضح أنك لن تعرف ما هي حقوقك إذا لم تعمل. والوضع أسوأ لدى أفراد ضعفاء ولا يعرفون كيف يحاربون من أجل حقوقهم ولمن يتعين عليهم أن يتوجهوا. فهناك مراكز تشغيل، ويوجد فيها مليون مشروع بهدف المساعدة، لكن الأفراد في ضائقة لا يعرفون بوجود أمر كهذا".
ووفقا لأيالا مئير من وزارة الرفاه الاجتماعي، فإن "هناك أفرادا لن ننجح في إخراجهم من دائرة الفقر. والمسألة لا تتعلق فقط بأن نوفر لهم عملا، إذ أن 60% من الفقراء يعملون. ولذلك فإن محاربة الفقر يجب أن تشارك فيها أجهزة عديدة وتكون منطلقة من سياسة واضحة".