المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

هذه المعطيات تأتي لتؤكد مضمون الرسالة التي كان وجهها عشرات الجنود النظاميين إلى رئيس الحكومة ووزير الدفاع وقائد الجيش في أعقاب عدوان "الجرف الصامد": أصبحنا نعيش في حالة من الفقر، نتسوّل الصدقات... ونشعر بالفجوات"! مراقبون ومعلقون مطلعون: ما ترويه هذه الرسالة وما "تكشف عنه" هو واقع حقيقي معاش في الجيش، ليس سببه قلة الموارد والإمكانيات المالية والاقتصادية المتوفرة بين يدي الجيش وتحت تصرفه، إذ أن القادة الكبار وجنود الخدمة الدائمة يحصلون على امتيازات كبيرة ولا نهائية، بينما تشكل هذه الرسالة، وكذا المعطيات "الجديدة" التي ينشرها الجيش الآن، ورقة يستعملها لممارسة الضغط على السياسيين، من وزراء وأعضاء كنيست، ليس فقط للامتناع عن تأييد أي تقليص في ميزانياته بل للعمل أيضا على زيادة هذه الميزانيات، بذريعة أن "حل مشاكل هؤلاء الجنود الفقراء والجياع المتسولين يحتم حصول الجيش على زيادات في الميزانية"!!

واحد من كل خمسة جنود من الجنود النظاميين في الجيش الإسرائيلي يتلقى معونات مالية من الجيش، على خلفية وضعه الاقتصادي السيئ وحاجته إلى الدعم المالي ـ هذا ما تكشف عنه معطيات رسمية خاصة حول الموضوع نشرها الجيش الإسرائيلي في نهاية آذار الأخير.

ويستدل من هذه المعطيات أن ثمة 4200 جندي نظامي يستوفون معايير وشروط استحقاق ما يسمى، في قاموس الجيش الإسرائيلي، "مدفوعات عائلية"، وهي عبارة عن مخصصات "ضمان دخل" لعائلات الجنود التي تعيش في وضع اقتصادي ـ اجتماعي قاس، طبقا لمعايير وضعتها وحددتها مسبقا لجنة العمل والرفاه التابعة للكنيست.

كما يستدل، أيضا، أن بضع عشرات آلاف أخرى من الجنود النظاميين يحصلون على معونات إضافية من قادتهم العسكريين تتمثل في قسائم خاصة لشراء المواد الغذائية من المراكز التجارية المختلفة أو لشراء منتجات مختلفة للبيوت. ويتم تقديم بعض هذه المعونات بواسطة سلطات الجيش مباشرة (أي، من ميزانيته هو!) بينما يأتي بعضها الآخر من تبرعات تقدمها منظمات مختلفة، محلية ودولية (أبرز وأسخى هذه الأخيرة: منظمة أصدقاء الجيش الإسرائيلي في الولايات المتحدة – FIDF).

ونقلت صحيفة "هآرتس" عن ضابط في قسم القوى البشرية في الجيش الإسرائيلي قوله إن الحديث يدور عن جنود يعانون من مشاكل ومصاعب مختلفة ليست كلها معروفة تماما ورسميا، من ضمنها: التورط في قروض من "السوق السوداء"، عائلات عاجزة عن سدّ احتياجاتها بالرغم من حصولها على دخل يزيد عن معدل الحد الأدنى للأجور في إسرائيل (4650 شيكل غير صافٍ، لقاء العمل بوظيفة كاملة، ابتداء من مطلع نيسان الحالي).

الجنود يبحثون عن عمل خلال فترة الخدمة العسكرية

توضح معطيات الجيش الرسمية أن غالبية هؤلاء الجنود الذي يتلقون المعونات المالية يخدمون في الوحدات الميدانية بالذات، بينما يعرض الجيش على النظاميين الذين يخدمون في "الوحدات الخلفية" حلاً آخر لمشكلاتهم المالية والاقتصادية يتمثل، أساسا، في العمل في مرافق اقتصادية ـ صناعية ـ تجارية مختلفة في الساعات التي لا يشاركون خلالها في الأنشطة العسكرية المختلفة. وتفيد معطيات الجيش الرسمية بأن نحو 20 ألف جندي نظامي يعملون في مرافق مختلفة بعد إنهاء يوم الخدمة العسكرية. وقد ارتفع عدد هؤلاء كثيرا ـ كما يستفاد من المعطيات الرسمية طبعا ـ بعدما أصبح الجيش يتيح لأي واحد من الجنود العمل في وقت فراغه الخاص، وذلك بعد إدخال تسهيلات كبيرة وجدية على إجراءات إصدار ومنح التراخيص اللازمة للعمل، خارج الجيش خلال فترة الخدمة العسكرية.

ويضيف الضابط نفسه من قسم القوى البشرية في الجيش، في حديثه للصحيفة، فيقول إن "الأمر ليس سرّاً وكلنا نعرف حقيقة حالة الفقر في إسرائيل، والجنود هم جزء من هذا الواقع إذ يأتي لنا قانون التجنيد الإلزامي بشبان من خلفيات اقتصادية ـ اجتماعية متدنية وقاسية جدا... نحن نوظف أموالا كثيرة لكي نحافظ على مبدأ أن هذا "جيش الشعب" ولكي يستطيع هؤلاء الذين ترعرعوا في حضن عائلات سيئة الحظ تأدية خدمتهم العسكرية بصورة مجدية".

من جهة أخرى، تشير سلطات الجيش إلى ارتفاع في عدد الجنود المعرّفين بأنهم "جنود وحيدون" في الجيش، وهو ارتفاع متواصل باستمرار خلال السنوات الأخيرة بشكل خاص، إذ بلغ عدد "الجنود الوحيدين" في الجيش الإسرائيلي في العام 2014 نحو 6200 جندي، الثلثان منهم هم من المهاجرين الجدد بينما الثلث الآخر هم جنود انقطعت العلاقات بينهم وبين عائلاتهم، قطعا تاما ونهائيا. ويشكل هذا العدد زيادة بنسبة 10% عما كان عليه في العام الماضي- 2013.

ويوضح الضابط المذكور مؤكدا أن الحديث هنا لا يدور حول "رواتب الجنود"، التي تتعامل معها سلطات الجيش الرسمية بأنها ليست سوى "مصروف جيب" يمكن له أن يوفر حلاً لجندي "عادي" ينتمي إلى "عائلة معيارية"، بينما لا يمكن بواسطته توفير أي حل لجندي يعاني من مشاكل حادة وأزمات عميقة ... "نحن نتحدث هنا عن جنود في حاجة إلى مساعدة كبيرة وواسعة لأنهم يحتاجون إلى توفير الغذاء في البيت"!! ـ

وفيما يتعلق بـ"رواتب الجنود" النظاميين، يقول الضابط إن تحسنا كبيرا طرأ على هذا الموضوع في أعقاب التوصية التي كانت أصدرتها المحكمة العليا الإسرائيلية بشأن ضرورة اعتماد "معايير واضحة" في تحديد هذه الرواتب وتوزيعها.

المحكمة العليا تتدخل!

مسألة الأوضاع المالية ـ الاقتصادية القاسية التي يعاني منها عدد كبير من الجنود النظاميين في الجيش الإسرائيلي ليست مسألة جديدة وكثيرا ما يتم التستر عليها، إلا في الحالات التي يبتغي الجيش من ورائها استدرار عطف الجمهور والسياسيين و"إقناعهم" بـ"ضرورة زيادة ميزانيته و/ أو عدم تقليصها وحاجته الماسة إلى ذلك"!

وهؤلاء الجنود هم، في المجمل، من الشبان في مقتبل العمر الذين يتم تجنيدهم لتأدية الخدمة العسكرية بموجب قانون التجنيد العسكري الإلزامي الذي يسري على كل من بلغ الـ 18 من العمر (ما عدا الاستثناءات والإعفاءات بالطبع)، رغم أن القانون يجيز أيضا، وبصورة نظرية، تجنيد من بلغ الـ 17 من العمر إذا كان هو يطلب ذلك بنفسه وبموافقة الأوصياء الشرعيين والقانونيين عليه (والداه أو سواهما).

وكانت هذه المسألة قد احتلت بعض العناوين الصحافية وبعض الاهتمام السياسي (العابر، ينبغي القول!) على خلفية القرار الذي أصدرته "محكمة العدل العليا" الإسرائيلية في نهاية تشرين الثاني من العام الأخير، 2014، وضمّنته "توصية" إلى الحكومة، وزارة الدفاع والجهات المختصة في داخل الجيش، بأن "تضع معايير واضحة ومحددة بشأن تحديد رواتب الجنود النظاميين وتوزيعها".

وكانت المحكمة أصدرت "توصيتها" تلك في ختام النظر في التماس قُدم إليها للمطالبة بزيادة مبلغ "مصروف الجيب" ("هو مرتّب الجندي) الذي يدفعه الجيش لهؤلاء الجنود. وكانت الوثائق التي قدمتها سلطات الجيش إلى المحكمة، في معرض النظر في الالتماس، قد كشفت عن أن وزير الدفاع قرر زيادة هذا المبلغ ابتداء من مطلع كانون الثاني من العام 2015، بحيث يصبح: 1075 شيكل للمقاتل (الجندي في وحدة القتالية)، 782 شيكل للجندي في وحدة "داعمة للقتال" و 539 شيكل للجندي في وحدة "خلفية" (في "الجبهة الداخلية").

وأوضحت هذه الوثائق أن مبلغ مصروف الجيب هذا تحدد استنادا إلى "سلة الاستهلاك" المفترضة للجندي، طبقا لتحليل معطيات أنماط الاستهلاك وسحب النقود بواسطة البطاقات التي يمنحها للجنود "نادي امتيازات الجنود في الخدمة النظامية". وزادت أن الفحص الاستقصائي الذي أجراه هذا "النادي" ـ ونشر في مجلة "بمحانيه" التابعة للجيش الإسرائيلي ـ بيّن أن قيمة "سلة الاستهلاك" للجندي الواحد تبلغ 1100 شيكل. ومعنى هذا ـ طبقا للوثائق نفسها ـ أن تكلفة "مصروف الجيب" للجنود ستبلغ، منذ الآن، نحو 2ر1 مليار شيكل سنويا، أي بزيادة قيمتها 215 مليون شيكل عما كانت عليه في السنة الأخيرة!

جنود في رسالة مفتوحة: نعيش في فقر!

وبالتزامن مع النظر في هذا الالتماس في هيئة المحكمة العليا، وقبيل إصدار هذه الأخيرة قرارها / توصيتها المذكورة، كانت بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية قد أثارت، في أواسط أيلول الأخير 2014، ضجة واسعة حينما نشرت نص "رسالة مفتوحة" وجهها عشرات الجنود النظاميين في الجيش الإسرائيلي إلى كل من رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، وزير الدفاع، موشيه يعلون، ورئيس هيئة أركان الجيش السابق، بيني غانتس، يشكون فيها إليهم أوضاعهم الاقتصادية الخانقة الناجمة عن تكريس وقتهم لتأدية الخدمة العسكرية ويحذرون: "نحن نعيش في حالة من الفقر بسبب الخدمة النظامية في الجيش... المرتب لا يكفي لسدّ احتياجاتنا الأساسية، حتى أصبحنا أشبه بالمتسولين"!

وكتب الجنود في رسالتهم تلك، التي نقلتها جمعية تدعى "جمعية البيت الدافئ لكل جندي" وتنشط منذ سنوات من أجل زيادة مرتبات الجنود في الخدمة النظامية: "أصبحنا متسولين نطلب الصدقات، لا نملك في بيوتنا ما نأكله ليلة العيد... لم نكن نحلم بأن نضطر إلى طلب الصدقات والمعونات المالية"، وكل ذلك لأنهم لم يخرجوا إلى أية عطلة (من الخدمة العسكرية) ولم يعودوا إلى بيوتهم طوال فترة طويلة جدا، جراء المشاركة في العدوان وفي "حملة عودة الأخوة" التي سبقته بحثا عن الشبان المستوطنين الثلاثة الذين تم اختطافهم في "غوش عتصيون"، مما حرمهم (الجنود) من فرصة العمل وكسب بعض النقود.

وكتب الجنود: "تجندنا للخدمة العسكري في الجيش واخترنا أن نكون مقاتلين، انطلاقا من شعورنا بتأدية رسالة وبالتزامنا الاجتماعي... منذ الأيام الأولى على تجندنا صُعقنا بحقيقة أننا كنا مجبرين على شراء معدات كثيرة وهامة لتأدية مهمتنا العسكرية من مالنا الخاص، من مال لا نمتلك منك شيئا... وسرعان ما تكشفت أمامنا الفجوات العميقة ما بين الجنود الذين تتوفر لدى عائلاتهم إمكانية دعمهم ومساعدتهم، وبين الجنود الذين لا تستطيع عائلاتهم فعل ذلك... منذ تجندنا للجيش، ونظرا لأن الراتب العسكري لا يكفي حتى لتوفير الاحتياجات الأكثر أساسية وإلحاحاً، أصبحنا جميعاً متسولين نطلب الصدقات وغرقنا في ديون كبيرة لدى البنوك"!

وكان رد قيادة الجيش الرسمي الفوري على نشر هذه الرسالة، التي اشتهرت على الفور باسم "رسالة الجنود الفقراء"، قد اقتصر آنذاك على القول إن "هذه الظاهرة غير معروفة للجيش وقياداته"!! علماً بأن النشر عن هذه الرسالة ومضمونها جاء عشية الأعياد العبرية وبعد ثلاثة أسابيع من انتهاء عدوان "الجرف الصامد" الإسرائيلي على قطاع غزة.

ولكن، في وقت لاحق، صدر عن "قائد رفيع في قسم القوى البشرية" تعقيب أكثر تفصيلا جاء فيه أن "الجيش لا يعلم بوجود مشكلة جنود فقراء وجائعين. لقد رصدنا مئات ملايين الشواكل لاستثمارها في جنود الخدمة النظامية... وفي حال توجه الجنود المعنيين، الموقعين على هذه الرسالة، إلى قادتهم العسكريين المباشرين فسيتم فحص كل حالة على حدة ومعالجتها طبقا للحاجة والاحتياجات"!

وأضاف القائد العسكري إياه قوله إن "الجيش يعمل لرفع وزيادة مصروف الجيب (الراتب) التي يدفعها لجنود الخدمة النظامية، وذلك ابتداء من العام 2015، وهو ما يستوجب ميزانيات إضافية وتشريعات قانونية مناسبة"!

وهذا هو، بالضبط، "مربط الفرس" كما يرى بعض المراقبين والمعلقين: ما ترويه هذه الرسالة وما "تكشف عنه" هو واقع حقيقي معاش في الجيش، وليس سببه قلة الموارد والإمكانيات المالية والاقتصادية المتوفرة بين يدي الجيش وتحت تصرفه، إذ أن القادة الكبار وجنود الخدمة الدائمة يحصلون على امتيازات كبيرة ولا نهائية، بينما تشكل هذه الرسالة، وكذا المعطيات "الجديدة" التي ينشرها الجيش الآن، ورقة يستعملها لممارسة الضغط على السياسيين، من وزراء وأعضاء كنيست، ليس فقط للامتناع عن تأييد أي تقليص في ميزانيات الجيش، بل للعمل أيضا على إقرار زيادة هذه الميزانيات، بذريعة أن "حل مشاكل هؤلاء الجنود الفقراء والجياع المتسولين يحتم حصول الجيش على زيادات في الميزانية"!!

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات