المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

يدفع التصعيد الأخير في المواجهة العسكرية في قطاع غزة، في اتجاه البحث عن إستراتيجيات بديلة تجاه التحدي الغزي، واختيار إستراتيجية تتيح إيجاد فرصة أفضل لإنجاز الأهداف المنشودة.

في ما يتعلق بقطاع غزة، فإن هدف إسرائيل المحدد، هو إيقاف إطلاق الصواريخ على المناطق المأهولة داخل الأراضي الإسرائيلية، علماً بأن إنجاز هذا الهدف في المدى القريب، لا يعني إمكان الإبقاء عليه بالضرورة، على المدى البعيد. لذا، يتمثل تعريف الهدف الإسرائيلي على نحو أفضل، في الوصول إلى حالة من الاستقرار بعيدة المدى، لا تشهد إطلاقاً للصواريخ، ومن دون تهديدات من نوع آخر، انطلاقاً من قطاع غزة.

يجب أن يلحظ تحليل إمكان إنجاز هذا الهدف، أنه بعد سيطرة "حماس" (على القطاع)، وضعت الحكومة الإسرائيلية لنفسها قراراً إستراتيجياً بالعمل على إضعاف حكومة هذه الحركة في غزة، وإيجاد الظروف لبدائل، مع الأمل بأن يعزز ذلك من وضع الشريك الفلسطيني الموجود في الضفة الغربية، برئاسة محمود عباس ورئيس حكومته (سلام) فياض، وهما هدفان متعارضان.

الإستراتيجية الحالية

تحاول إسرائيل في المرحلة الحالية، العمل على تجريد "حماس" من قدرتها على إطلاق الصواريخ، بمعنى جعل "حماس" تدفع كلفة كبيرة، وهو ميراث عمل إسرائيلي يرتكز على إقدام إسرائيل على التصعيد في حال أقدمت "حماس" عليه، والهدف هو إفهام المنظمة الفلسطينية أن تكلفة التصعيد أكبر بكثير من الفائدة منه. وفرضية العمل الإسرائيلية، من خلال ذلك، هي الوصول إلى ميزان ردع إيجابي، يكفل إيقاف الهجمات.

إنّ الفرصة في أن تنجز هذه الإستراتيجية هدفها المنشود، هي فرصة محدودة. إذ إن الردع كمانع للخصم من الفعل، هو في قدرته على دفعه لاختيار بديل أقل كلفة أو أكثر منفعة، لكن المشكلة هي أن "حماس"، من وجهة نظرها، ترى خيار عدم الفعل ضد إسرائيل، كما تتيحه لها إسرائيل، أكثر سوءاً من خيار الامتناع عن المواجهة معها، على الرغم من الكلفة المدفوعة من قبلها. ذلك أن السياسة الإسرائيلية تهدف إلى إضعاف "حماس" بمساعدة من حلفائها الغربيين، وتعزيز معارضيها ضمن الساحة السياسية الفلسطينية- أي محمود عباس وحركة "فتح"- على أمل أن يتيح ذلك سيطرة للشريك الفلسطيني على الأراضي الفلسطينية. لقد عرضت إسرائيل على "حماس" خيار الاستسلام بشكل هادئ، من خلال إيقافها العنف وفرض ذلك على المنظمات الأخرى العاملة في القطاع، والتسليم بالإبقاء على الحصار إلى أن تتحطم قوتها في الساحة الفلسطينية. لكنها بدائل، بالنسبة لـ"حماس"، أسوأ من استمرار المواجهة العسكرية الحالية وتلقّي الضربات والخسائر والحصار، علماً بأن نموذج حزب الله يشير إلى أنه بالإمكان البقاء والثبات والاستمرار في مهاجمة المراكز السكانية بالصواريخ، وبذلك يضمن بقاءه.

إن عدم قدرة إسرائيل على إنجاز أهدافها من خلال أسلوبها المستخدم حالياً، يرغمها على الاختيار بين بديلين إستراتيجيين وحيدين، في ما خص موضوع غزة. البديل الأول يتعلق بمنع "حماس" مادياً من إطلاق الصواريخ، عن طريق السيطرة على المناطق التي تنطلق منها، وتفكيك البنية التحتية الحمساوية وتلك التابعة للمنظمات الأخرى، على أن يكون احتلال هذه المناطق لفترة زمنية طويلة. البديل الثاني هو في محاولة الوصول إلى تفاهم مع "حماس" على وقف لإطلاق النار، وخلق حالة من الاستقرار مقبولة من كلا الجانبين.

البديل الأول- احتلال مواقع إطلاق الصواريخ

إن المشكلة الرئيسة في هذا البديل هي في وجوب إعادة احتلال قطاع غزة والبقاء فيه لوقت طويل. وبما أن القطاع منطقة جغرافية ذات مساحة صغيرة، فإن الحيلولة دون إطلاق كامل للصواريخ باتجاه الأهداف الإسرائيلية، توجب احتلال معظم مناطق القطاع. على سبيل المثال، تلزم عملية إيقاف صواريخ "غراد" التي تصل إلى عسقلان باحتلال ما يقرب من كامل الثلث الشمالي للقطاع، علماً بأنه حل مؤقت بانتظار وصول صواريخ أبعد مدى يمكن أن تهرّب إلى غزة، ما يعني وجوب السيطرة أيضاً على جنوب القطاع، وإيجاد طريقة لمنع تهريب الأسلحة عبر الأنفاق. وإذا أرادت إسرائيل أن تمنع إطلاق الصواريخ المصنعة محلياً، على المناطق الإسرائيلية الأقرب إلى غزة، فعليها أن تحتل كامل مساحة القطاع.

أحد الاقتراحات الموجودة لإستراتيجية الخروج من قطاع غزة، بعد احتلاله بالكامل أو احتلال أجزاء منه، هو تسليم السيطرة إلى جهة دولية أو عربية، على أن تضمن هذه السيطرة الإبقاء على الاستقرار والهدوء داخل القطاع، وإقامة مؤسسات فلسطينية حقيقية تمهيداً لقيام دولة مستقلة. لكن يعاب على هذا الاقتراح إهماله لحقيقة أن الساحة الغزية ستكون مشبعة بالسلاح وبالمنظمات المختلفة، مع حافز للكفاح ضد الجيش المحتل، وهو واقع شبيه بواقع العراق بعد الاحتلال الأميركي. بكلمات أخرى، يتوجب العمل في غزة بشكل مضاد ومركز ضد هذه المنظمات، وصولاً إلى وضع مشابهة للضفة الغربية. ومن الصعب الاعتقاد بوجود رغبة لدى أي جهة دولية لدخول غزة والعمل بدلاً من إسرائيل. بل في السيناريو المتفائل الذي تنجز فيه إسرائيل هدوءاً نسبياً بعد سنوات، من المشكوك فيه أن توافق أي جهة دولية أو عربية على تسلّم المسؤولية في قطاع غزة.

البديل الثاني- وقف إطلاق النار

ينطلق البديل الثاني من فرضية قائمة تشير إلى أن الجانبين معنيان بالاستقرار، وكل منهما لأسباب مختلفة. فإسرائيل ترى أن ليس هناك حل عسكري جذاب يضمن نهاية لإطلاق الصواريخ، علماً بأن الوضع الحالي يمنع الحياة الطبيعية عن مواطنيها، ويمنع أيضاً إمكان تنفيذ سياستها المفضلة تجاه السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. أما "حماس" فمعنية بالاستقرار أيضاً، لأن الوضع الحالي يمنعها من السيطرة على غزة، ويسبب الحصار ضرراً بالغاً لها.

في الوقت نفسه، لدى الجانبين مخاوف من وقف إطلاق النار؛ فإسرائيل قلقة من أن الهدوء سيسمح لـ"حماس" بالتعافي من الضربات التي وجهت إليها، ويعزز من قدرتها العسكرية، ويزيد ويحسن من قدرة صواريخها، كما أنه يتيح لها استئناف المواجهة متى رأت أنها مناسبة لها.

إضافة إلى ذلك، لدى إسرائيل قلق من أن وقفاً لإطلاق النار سينتهك سياستها الأساسية تجاه "حماس"، ويمنحها شرعية، ويضعف مكانة محمود عباس وحركة "فتح"، كما يسمح لـ"حماس" أيضاً بتعزيز موقعها السياسي ويمكنها من السيطرة على الضفة الغربية مع مرور الوقت.

من جهتها، هناك قلق أيضاً لدى "حماس" من وقف لإطلاق النار، على الرغم من الهدوء الذي سيجلبه. فهي تخشى من إبقاء الحصار عليها وعلى قطاع غزة وتخشى تداعياته، كما أن الهدوء يسمح لمحمود عباس بإجراء مفاوضات مع إسرائيل وتعزيز منزلته السياسية، في الوقت الذي تكون فيه ضعيفة وعاجزة. إضافة إلى ذلك، يبدو أن "حماس" تفهم بشكل واضح أن وضعاً تظهر فيه كمن نبذ سلاح المقاومة، سيؤذي صورتها كمنظمة تتبنى الكفاح ضد إسرائيل لمصلحة القضية الفلسطينية، ومثل هذا الواقع قد يُفهم كبداية لعملية اعتراف بإسرائيل

لكن رغم ذلك، يمكن الوصول إلى وقف لإطلاق النار، وأن يكون مستقراً نسبياً، إذا عالج بعضاً من المخاوف الأساسية لكل جانب. من وجهة نظر إسرائيل، يجب على وقف إطلاق النار أن يلبي عدداً من المطالب الرئيسة: أولاً، أن يسري على كل الفصائل الناشطة في قطاع غزة، وعدم الاكتفاء بسريانه على فصيل واحد، وعلى "حماس" أن تلزم نفسها بوقف إطلاق النار كحكومة مسيطرة على الأرض ولديها السيطرة المطلقة، وعليها أن تفرضه أيضاً على المجموعات المسلحة الأخرى، حتى وإن استلزم ذلك استخدام القوة. المطلب الإسرائيلي الثاني هو الفصل بين قطاع غزة والضفة الغربية، إذ يجب أن يسري وقف إطلاق النار في غزة فقط، بينما تستمر القوات الأمنية الإسرائيلية، بين الحين والآخر، بإجراءاتها الوقائية في الضفة، وتستطيع إسرائيل أن تخفف من إجراءاتها هذه، في حال وجود جهة قادرة على منع إعادة بناء البنية التحتية للإرهاب في الضفة. أما المطلب الثالث فهو ترتيب يمنع استغلال الهدوء بهدف تهريب السلاح إلى قطاع غزة، إذ يصعب الاعتقاد أن حماس ستوافق بشكل طوعي على منع التهريب، وهو يناقض مصلحتها الأساسية بأن تكون جاهزة في حال تجدد القتال. والجواب على هذا المطلب هو في ترتيبات تشترك فيها مصر وأطراف دولية، والمحادثات حول وقف إطلاق النار تمثّل فرصة لدراسة الترتيبات على طول الحدود بين قطاع غزة ومصر، والوصول إلى ترتيبات موثوق بها وأكثر فعالية، من ضمن ذلك نشر قوة دولية على طول هذا الخط، وتعزيز القوات المصرية المنتشرة هناك. وأخيراً، لإسرائيل مصلحة أيضاً في ألا يوصل وقف إطلاق النار إلى تطبيع كامل مع "حماس" وقطاع غزة، ما دامت إسرائيل على قرارها بإضعاف "حماس" وتعزيز منافسيها.
لدى "حماس" اهتمام رئيس في إيجاد واقع يمكّنها من دعم قاعدتها في غزة والمحافظة على النظام فيه، وأن تظهر للفلسطينيين أنها تمارس الحكم أفضل من حكومات "فتح" التي سبقتها.

وعليه، لا يمكن لـ"حماس" أن توافق على وقف لإطلاق النار بشكل كامل من دون ترتيبات تسمح لها باستئناف الحياة الطبيعية في غزة، بما يشمل النشاط الاقتصادي المنتظم، الأمر الذي يتطلب ترتيبات فعالة تتعلق بنقاط العبور إلى مصر وإسرائيل. وهذا لا يعني أن على إسرائيل والرباعية الدولية رفع العقوبات المفروضة على "حماس" فقط، بل يعني تحقيق الحد الأدنى المطلوب، أي حد أدنى إلى حدود المطلق، للوصول إلى ظروف حياة طبيعية ونشاط اقتصادي منتظم، على ألا يتحقق أكثر من ذلك إلا وفقاً لتغييرات محتملة في موقف "حماس"، كي يؤدي ذلك إلى تشكيل حافز لتغيير مواقفها، وألا يؤدي إلى تعزيز مكانتها. ومن المفيد إجراء فحص للفوائد التي تدفع "حماس" إلى وقف لإطلاق النار يمكن لإسرائيل أن تقبل به، على أن تسمح لـ"حماس"، من وجهة نظرها هي، بالشعور بأنها قادرة على تحقيق طموحاتها. في الوقت نفسه، يجب وضع الخطوات الكفيلة بتحسين الوضع الحياتي في الضفة الغربية، وتعزيز مكانة عباس وحكومة فياض، كي لا يؤدي ذلك إلى ترجيح كفة الميزان لصالح "حماس"، على حساب حركة "فتح".

وكإجابة على تحفظات البعض في عدم وجوب التفاوض مع "حماس"، أشير إلى أن هذه القضية ليست قضية مركزية في الوضع الراهن، حيث إن كلا الجانبين، وللديناميكية السياسية الداخلية الخاصة بهما، لا يعترف أحدهما بالآخر. لكن التجربة أظهرت إمكان الوصول إلى تفاهمات من النوع موضوع السؤال، من خلال وسطاء، ومن دون اتصال مباشر، الأمر الذي يعني تجاوزاً للاعتراف المتبادل.

أثيرت في الفترة الأخيرة طروحات تتعلق بوقف إطلاق النار من قبل إسرائيل، الأمر الذي يدفع "حماس" إلى إيقاف عملياتها، والفرضية الأساسية هي أن "حماس" معنية بوقف لإطلاق النار، إنما يبرز في هذه الطروحات عدد من العيوب.

أولاً، في مثل هذه الحالة، قد تقدم "حماس" على إيقاف هجماتها، لكن من المشكوك فيه أن تقدم على إجبار المنظمات الأخرى، وبالتالي، سيستمر إطلاق النار وإن بشكل محدود، وهو واقع مريح لـ"حماس"، لكنه موضع شك بالنسبة لإسرائيل.

ثانياً، إن وقفاً لإطلاق النار، بناءً على هذا الطرح، سيكون هشاً كقواعد لعبة غير واضحة، ناهيك عن أنه لا يمكن أن يستخدم لتعزيز الرقابة على الحدود المصرية مع القطاع. إلا أن الفائدة الوحيدة هي، على ما يبدو، هدوء نسبي من دون حوار مع "حماس"، بل من دون حوار غير مباشر، ولا يمكن أن يفسر كاعتراف بها.

إجمال

يمكن لإسرائيل و"حماس" أن تتوصلا إلى تفاهم على وقف لإطلاق النار بجهود وساطة أطراف ثالثة، إذا ما لُبيت الشروط التي ترضي الحاجات الأساسية للجانبين، بل من الأجدى دراسة ذلك.

لكن يجب العمل على عدم الوصول إلى أي اتفاق لوقف إطلاق النار من شأنه أن يؤدي إلى واقع يتضمن حقائق سياسية غير محتملة، بل يجب العمل على إقرار وقف لإطلاق النار في إطار فحص شامل للإستراتيجية السياسية الإسرائيلية. وهذا يعني دراسة الإستراتيجية الحالية وإمكان تطبيقها، ودراسة وقف إطلاق النار كفرصة لبدء عملية حوار مع "حماس" في إطار خطة لإجراء تغيير في مواقفها، بحيث تقترب أكثر من الإجماع الفلسطيني في ما يتعلق بحل الدولتين.

يتوجب أيضاً في إطار التطبيق فحص مطالب أخرى. هل من الممكن تنفيذ ذلك من دون حوار وطني فلسطيني بين "فتح" و"حماس"، إذ لا تستطيع إسرائيل أن تحاور "حماس" من دون شراكة حركة "فتح"؟ إضافة إلى ذلك، يجب النظر أيضاً إلى كيفية توظيف العقوبات على "حماس" باتجاه إيجاد تغيير جذري، وإن تدريجياً وجزئياً، في مواقفها، بل كيف يمكن توظيف الهدنة في إطار هذه العملية؟.

_____________________

* الكاتب عميد في الاحتياط، وباحث كبير في "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات