تروي أغنية ألمانية مشهورة قصة ابنة المارد، التي وجدت فلاحا يحرث حقله وأحضرته إلى بيتها بمنديلها لتريه لأبيها. إلا أن علامات الجدية ارتسمت على وجه والدها. "الفلاح ليس دمية!"- قال لها، وأمرها بوضعه برفق في نفس المكان الذي وجدته فيه.
تذكرني الولايات المتحدة بابنة المارد هذه. ولكن، لمزيد الأسف، ليس لديها أب أو جدّ ليقول لها إن الشعوب والدول ليسوا دمى.
تدور الآن معركة أميركية حول العالم بهدف كسر النظام السوري بوسائل غير عسكرية. يقوم سكرتير الأمم المتحدة، الذي تحوّل منذ زمن بعيد إلى عميل أميركي، بوظيفته في هذه المعركة، وكذلك الأمر أيضا بالنسبة لمعظم دول العالم، المتعلقة بكرم الولايات المتحدة. لذلك يتم استغلال اغتيال رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني السابق. لا يحضرني أن واشنطن قد تأثرت ذات مرة من اغتيال سياسي، حين كانت الضحية أسقفا رفيع المستوى في أميركا أو شيخا مسلما في غزة. الاهتمام المفاجئ بمعاقبة قتلة الملياردير اللبناني، تثير المشاعر حقا.
إحدى الشريكات الأكثر نشاطا في الحملة لكسر سوريا هي حكومة إسرائيل. إنها تقدم يد العون بمئات الأساليب المختلفة. سوريا متهمة بأفعال حزب الله في لبنان، باحتضان "الإرهابيين" الفلسطينيين، وغيرها وغيرها. لقد اخترع رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، الذي يطرح تقديرات في وسائل الإعلام تكاد تكون صبيانية، عدة مؤامرات سورية.
يبدو للوهلة الأولى أن هناك منطقًا في ذلك، فقد شطبت الولايات المتحدة من جدول أعمالها أمر احتلال الجولان. كوندوليسا رايس تعظ حول غزة والضفة الغربية ولكنها لا تنبس ببنت شفة فيما يتعلق بالجولان، الذي كان منطقة تقع تحت السيادة السورية. ضم المنطقة في الحرب يعتبر خرقا سافرا لوثيقة هيئة الأمم المتحدة. هذا الأمر لا يقض مضجع جورج وكوندي.
على الرغم من ذلك، أقترح على حكومة إسرائيل أن تعيد التفكير فيما إذا كنا معنيين بكسر الدولة السورية. إذا حدث ذلك فكيف سيكون الوضع على حدودنا الشمالية؟
أتذكر حديثا دار بيني وبين إسحاق رابين عام 1976، عند اجتياح السوريين للبنان. بدأ اليوم النسيان يطوي حقيقة كون المسيحيين بالذات هم الذين استدعوا سوريا، ليحاربوا قوات منظمة التحرير الفلسطينية والمسلمين.
عندما اقترب السوريون إلى الحدود الإسرائيلية، دب الرعب فينا. طالب وزير الدفاع آنذاك، شمعون بيريس ومساعدوه، رسم "خط أحمر" ومنع السوريين من الوصول إلى الحدود. كان رأي رئيس الحكومة إسحاق رابين مخالفا لرأيهم. وقال لي إنها حماقة تامة. لا توجد أية مشاكل في حدودنا مع سوريا، في هضبة الجولان. إذا استولى السوريون على حدود الجليل فسيسود الهدوء هناك.
لقد صدق رابين، بالطبع، وخسارة أنه قد انصاع لبيريس وللتاريخ الجماهيري. توقف الجيش السوري، وفي الفراغ الذي نشأ بينهم وبين إسرائيل، تواجدت أولا "فتح-لاند" ومن ثم مملكة حزب الله.
يمكن للأمر ذاته أن يحدث الآن على الحدود السورية، إذا انهار النظام هناك ونشأت فوضى عارمة.
سوريا هي دولة هشّة. صحيح أنه لا يوجد فيها ثلاثة شعوب مختلفة، كما هي الحال في العراق، ولكن تسود فيها منافسة قديمة العهد بين دمشق وحلب، العرب والأكراد، والكثير من الطوائف الدينية. لقد رضي السوريون بدكتاتورية عائلة الأسد، لأنهم متخوّفون من انتشار الفوضى.
(الأسد هو ابن إحدى الطوائف الأصغر، وهي طائفة العلويين، أنصار علي بن أبي طالب، صهر النبي صلعم. هذا يذكرنا بالقصة التوراتية حول اختيار أول ملك لإسرائيل. تم اختيار شاؤول الملك لأنه "أَنَا بَنْيَامِينِيٌّ مِنْ أَصْغَرِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ، وَعَشِيرَتِي أَصْغَرُ كُلِّ عَشَائِرِ أَسْبَاطِ بَنْيَامِينَ" (صموئيل، 21:1). حين لا تستطيع الأسباط الكبيرة والقوية أن تتوصل إلى اتفاق بينها حول مرشح ما، فإنها تفضل ابن سبط صغير وضعيف لا يشكل خطرا عليها).
منذ 33 سنة لا نواجه أية مشاكل على الحدود السورية. من يمكنه أن يعرف ماذا سيحدث إذا سادت الفوضى في سوريا؟ صحيح أن هذه ليست مشكلة أميركا، ولكنها مشكلتنا.
المشكلة الإيرانية مختلفة تماما.
الأمة الإيرانية متكتلة وقوية. من شأنها أن تنتج قنبلة نووية. يبدو ذلك كابوسا في أعين الكثيرين: دولة مسلمة متشددة، تكره إسرائيل، وبحوزتها سلاح دمار شامل.
أنا لا أتأثر بذلك كثيرا. الشعارات الإيرانية المعادية لإسرائيل متطرفة حقا، ولكن إيران تنجز صفقات تجارية مع إسرائيل بهدوء، وليس في فضيحة "إيران غيت" فقط. يتصرف آيات الله الطغاة عادة بذكاء حاد.
إذا أردنا منع وجود ميزان الرعب النووي، فهناك طريقة واحدة فقط: الاستفادة من الوقت الذي نتمتع فيه باحتكار هذا المجال وصنع السلام - بداية مع الشعب الفلسطيني، ومن ثم مع كافة دول المنطقة. في مثل هذا الإطار من السلام يمكننا إقامة نظام لنزع السلاح النووي يكون مصحوبًا برقابة متبادلة.
المشكلة هي أنه من غير الممكن النقاش حول هذا الموضوع الحيوي، طالما تكتنفه السرية لدينا. أقترح فتح الباب على مصراعيه ومواجهة هذه المشكلة بشكل علني. لقد حان الوقت لذلك.
أما بالنسبة لابنة المارد، فقد حان الوقت بأن يقول لها أحد ما: اتركي هذه المنطقة. إنهم ليسوا دمى!