يظهر الجيش الإسرائيلي في صورة المنتصر الحقيقي في عملية الانفصال، لكننا ورغم استعراض القوة اللافت الذي قام به الجيش، وربما بسبب ذلك، نقف اليوم أمام نقطة تحول مهمة في سيرورة تفكك "جيش الشعب".
الفكرة المؤسسة أو المركزية في "جيش الشعب"، ليست التجنيد الإلزامي أو الوظائف الاجتماعية للجيش، وإنما هي أولاً وقبل كل شيء المكانة العالمية للجيش، بمعنى كونه منظمة أو هيئة تتمتع بصورة هيئة تقف فوق التقسيمات السياسية والطبقية والطائفية والجنوسية للمجتمع الإسرائيلي-اليهودي. ثبات وتماسك هذه الصورة أكسب الجيش الإسرائيلي على مر السنوات سمعة وموارد وتأثيراً سياسياً، حتى ولو كان (الجيش) قد خدم، من ناحية عملية، مصالح سياسية ولعب دوراً في الإبقاء على اللامساواة الاجتماعية.
وتوسع تظاهرة القوة، التي واكبت تنفيذ خطة الانفصال، بصورة تنطوي على تناقض أو مفارقة، أرضية دعوة التحدي لنموذج "جيش الشعب"، هذه الدعوة التي تتردد بأشكال مختلفة منذ التسعينيات. بداية فقد استخدم المستوى السياسي (الحكومة) للمرة الأولى وبشكل صريح الجيش لغرض القيام بمهام شرطية داخلية، وذلك من منطلق الافتراض أن الشرطة لا تستطيع النهوض لوحدها بمهمة إخلاء المستوطنات. ويعتبر إبعاد الجيش عن مزاولة مهام شرطية داخلية من المبادىء الرئيسية الناظمة للجيوش الغربية الحديثة منذ ما يزيد عن مائتي سنة وأساساً راسخاً ومتيناً في عالميتها. هذا الوضع ينطبق أيضاً على إسرائيل، إلاّ أن ما جرى هنا هو استخدام للقوة الرمزية لـ"جيش الشعب" وذلك بما يفوق استخدام التنظيم العسكري والقوة البشرية للجيش لأغراض شرطية. زعماء المستوطنين وغالبية المستوطنين وضعوا لأنفسهم قيوداً في النضال ضد من يمثل هذا الرمز("جيش الشعب")، سواء من منطلق تذويت قوة هذا الرمز أو بسبب التخوف من فقدان الشرعية جراء المس به، أو من منطلق دافع منفعي يتعلق بالرغبة في الحفاظ على مسارات تقدم وارتقاء داخل الجيش، وهي أمور تكتسب أهميتها بفضل الرمز ذاته.
وبشكل عجيب للغاية فإن زعماء المستوطنين الذين دعوا الجنود إلى عدم عصيان الأوامر أو امتنعوا عن الدعوة لرفض الأوامر، قاموا بذلك من منطلق تذويت (استيعاب) مفهوم "جيش الشعب"، لكنهم بذلك ساعدوا الجيش بأنفسهم في إخلائهم دون مقاومة حقيقية. هذا الأمر حال أيضاً دون بروز أية مظاهر أو حالات رفض تذكر للأوامر والتي كان يمكن أن تظهر فيما لو كان الإخلاء عنيفاً وطويلاً بشكل خاص. يمكن الافتراض بأن استخداماً سياسياً لمثل هذا الرمز يمكن أن يصمد في حدث مركزي (مؤسس) واحد فقط.
إن التطاول على "جيش الشعب" والامتناع عن التُجنُّد فيه يمكن أن يشكلا إحدى ردات فعل فئات وأقسام من الصهيونية الدينية. لكن الإستراتيجية الأكثر إشكالية ستكون بالذات طرح أجندة واضحة من جانب مجموعات دينية أخرى تدعو إلى تغيير تركيبة الجيش حتى ينأى في المستقبل عن القيام بمهمة مثل فك الارتباط والإخلاء.
إن من شان أجندة كهذه، والتي ستولد تلقائياً ردة فعل مضادة من جانب مجموعات اجتماعية أخرى، أن تحول الجيش إلى ساحة صراع سياسي بشكل يناقض مبدأ "جيش الشعب".
غير أن "جيش الشعب" واجه تحدياً في المضمار العملي أيضاً. وقد دفع الجيش إلى جبهة الصراع بالذات تلك العناصر التي لا تمثل "جيش الشعب". فقد ألقي جزء كبير من مهمة الإخلاء المباشرة على عاتق قوات حرس الحدود، والتي هي قوات شرطية مدنية، يمدها الجيش بالقوى البشرية وتنبع نجاعتها من الدمج بين قوى بشرية مهنية وبين جنودٍ في الخدمة الإلزامية يتطلع قسم منهم للاندماج في "حرس الحدود" بدافع اقتصادي. وقد استخدم الجيش الإسرائيلي إلى جانبهم للمرة الأولى وحدات شُكلِّت خصيصاً من أفراد القوات النظامية. بعبارة أخرى فقد أعطي تمثيل لأطر جيش مهني بسبب التخوف من إمكانية عدم صمود "جيش الشعب"، أي جنود الخدمة الإلزامية، ناهيكم عن الاحتياط، تحت ضغط معارضة الإخلاء.
لم تكن هذه الوسيلة الالتفافية الوحيدة التي استخدمت تحسباً من إشكالية "جيش الشعب". فقد استخدمت إلى جانبها وسائل وآليات أخرى تتناقض والانضباط شبه المطلق الذي يميز "جيش الشعب"، وهو انضباط أعمى تجاه الفوارق بين الثقافات وبين المجندين أنفسهم. ومن بين الوسائل التي استخدمت الحوار والمساومة مع الحاخامات، تعيين مثير للجدل لضباط كبار من معتمري القلنسوات (قبعات المتدينين) وذلك على افتراض أن هؤلاء سيشكلون وسطاء بين الجيش ومجموعات دينية، إضافةً إلى إبعاد وحدات أغلب عناصرها من المتدينين عن دائرة الإخلاء وبلورة تسويات خاصة مع بعض الجنود، واستخدام الحاخام العسكري الرئيسي كمرجعية قيادية وليس كمرجعية دينية فقط وغير ذلك من الوسائل.
لذا لن نجافي الحقيقة إذا ما افترضنا أن نجاح الانفصال والإخلاء من شأنه فقط أن يعجل الإصلاحات المخطط لها في أجهزة (قوات) الخدمة الإلزامية والاحتياط. هذه الإصلاحات تكرس بالتدريج نموذج التجنيد على أسس مهنية، انتقائية بل وتطوعية في جانب منها. وسيحاول الجيش بذلك حفز وتيرة وإعلاء شأن عملية التحول نحو المهنية وذلك من أجل الحد من كشفه وتعرضه للضغوط السياسية التي راحت تتغلغل في صفوفه. لكن من الأرجح أن يزداد بذلك حضور مجموعات الضواحي (الهوامش)، والتي سترى في الجيش مكاناً لتلبية احتياجات اقتصادية أو دوافع عسكرتارية، ولو بثمن المس بمبدأ التمثيل الاجتماعي، الذي يعتبر واحداً من المبادىء التي يقوم عليها "جيش الشعب".
والحال فإن الجيش الإسرائيلي سيواجه صعوبة في المستقبل في إدارة شؤونه بصورةٍ معتدلةٍ، الأمر الذي سيثقل على المستوى السياسي إذا ما سعى الأخير لاستنفاد مسارات المصالحة مع العالم العربي.
(ترجمة: مدار، عن "هآرتس" 31/8/2005)
(*) د. يغيل ليفي ، يدرس العلوم السياسية في الجامعة الإسرائيلية المفتوحة، وهو مؤلف كتاب "جيش آخر لإسرائيل".