تحفل الهستوريوغرافية الصهيونية بالإدعاء القائل أن الصهيونية سبقت الحركة الوطنية الفلسطينية وأن الأولى هي التي أيقظت الثانية وجلبت التقدم إلى "أرض إسرائيل"/ فلسطين.
مؤخراً وفي أعقاب أبحاثٍ كثيرة ومعطياتٍ من الميدان اتضح أن "أرض إسرائيل" كانت على وشك عهد الحداثة قبل عدة عقود من ظهور الصهيونيين الأوائل في البلاد، طلائع "الهجرة الأولى" (1882).
كان الثلث الأول من القرن التاسع عشر حقبةً عاصفة في تاريخ الإمبراطورية العثمانية، حيث احتلت البلاد في عهد إبراهيم باشا في العام 1831. وقد استغل غياب السلطة المركزية لرفع شأن حكام محليين ما أدى لوقوع صدامات عنيفة بينهم وبين سائر رعاياهم. وانخرطت في الصراعات المسلحة عائلاتٌ درزية ومارونية (مسيحية) وبدوية وفلاحيه عربية.
باستطاعتنا من خلال ما رواه إبراهيم العورة- سكرتير سليمان باشا (1804-1818)- أن نطل على وضع القرويين في "أرض إسرائيل" في عهده:
"اعتاد القرويون على التمرد منذ فترات سابقة ... على سبيل المثال: عائلة جرار المرتبطة بعائلة برقاوي، هبّت لمساعدتهم. وكان هؤلاء يمتشقون السلاح ويهبّون للقتال بسرورٍ وحماس ...".
تبرز على أرضية صراعات القوى التي اجتاحت البلاد ثورات الفلاحين في سنوات 1824-1826 و 1834-1839. يرى كثرةٌ من الباحثين في هذه الهبّات بداية الحركة الوطنية الفلسطينية في "أرض إسرائيل". الهبّة الأولى اندلعت في أعقاب الضرائب التي فُرِضَتْ على يد سلطان دمشق مصطفى باشا فيما اندلعت الهبة الثانية في أعقاب الضرائب الباهظة التي فرضتها السلطة المصرية ومحاولتها تجنيد الفلاحين في صفوف الجيش المصري.
بقايا هذه الهبّات التي انتهت إلى الفشل، لا تزال ماثلة في القلاع القروية وأشهرها: قلعة جدين (يحيعام)، قلعة تسيبوري، مجدل يابا ("مغدال تسيدق")، راس سمحان (راس كركر)، وقلعة البراخ (الدهيشة).
معظم هذه القلاع لم تُشيّد على يد الفلاحين، وإنما جرى ترميمها فقط من قبلهم. فالموارد الاقتصادية المتوفرة للفلاحين كانت محدودة للغاية ومكرسة أساساً للحياة اليومية ولشراء السلاح. وقد استخدمت هذه القلاع كقيادات محلية وكمخازن للسلاح والذخيرة وأماكن للاختباء.
قادة الهبّات أنفسهم الذين كانوا جميعاً من المشايخ أو المخاتير تحصنوا في قصورهم أو شيدوا لأنفسهم في بعض الأحيان قلاعًا جديدة، هذه القلاع التي أتاحت عقد اجتماعات سريعة لأهالي القرية، كانت تُشيد عادةً وسط ساحة واسعة محاطة بأسوار وأبراج وبوابات محصنّة.
جزء من هذه القلاع شكل نواة لقرى عربية كثيرة ولا يزال بعضها يستخدم حتى الآن كمكان سكن للمخاتير فيما تحول جزء آخر إلى منشآت عامة من قبيل معاصر الزيتون، طواحين القمح، أماكن للصلاة والعبادة.
إحدى القلاع موجودة في تلال جفنة (غرب مستوطنة شيلو) وهي قلعة عائلة سحويل في قرية "عبوين". هذه القرية (عبوين) تقطنها منذ القرن السادس عشر (أو السابع عشر) عائلات تنتسب إلى مجموعة قبائل بني زيد التي استقرت في المنطقة. وتشكل القلعة قاعدةً شيد عليها جزء من القرية القديمة. المدخل المؤدي للقلعة يمر عبر بوابة مقنطرة (مقببة) تفضي إلى بوابة داخلية أخرى، وقد أقفل هذان المدخلان بواسطة أبواب من الخشب السميك. وتستخدم زوايا وردهات القلعة كمخزن للغلال، ومعصرة تقليدية ومخازن للحطب وغير ذلك ....
عائلة سحويل تفرعت عن عائلة أبو غوش، وفي فترة الانتداب البريطاني وتبلور الأحزاب في الحركة الوطنية الفلسطينية أصبح أبناء عائلة سحويل من المحسوبين على الموالين لعائلة النشاشيبي.
بعد الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية التي انتهجها إبراهيم باشا، أخذ الأخير يعامل بحذر شديد السكان المحليين تفادياً لإثارة المخاتير ضده. وعندما أخفق في مسعاه راح يعاملهم بقبضة حديدية بزجهم في السجون وإقصاء المشايخ وإعلاء شأن وجهاء عائلات أخرى، كما حدث في "استبدال" وجهاء عائلة أبو غوش بوجهاء عائلة سمحان من "راس كركر".
نلاحظ إذن أنه ومنذ النصف الأول من القرن التاسع عشر تشكلت حركات التحرر الوطني ضد الإمبراطورية العثمانية والتي يمكن أن تندرج في إطارها أيضاً هبّات الفلاحين وزعماؤهم في "أرض إسرائيل". في بداية عهد حكم سليمان (1805-1819) ساد نوع من الانفراج في البلاد. حاييم فرحي الذي عمل "أمين خزنة" لدى الحكام الأتراك، بايع عبد الله نجل نائب سليمان الذي وقعت في عهده هبّاتٌ كثيرة في البلاد. في العام 1832 احتل محمد علي البلاد وقد كان نظامه منظماً ومتقدماً، حيث انتهجت إدارة سليمة وألغيت الضرائب الخاصة. كذلك فقد عمّ الأمن على طرق البلاد ونفذت أعمال تطوير مختلفة. ولكن حتى في عهد عبد الله وقع عبء ثقيل على كاهل السكان نتيجة لحملات التجنيد المستمرة للجيش التركي، وهي ظاهرة أدت فيما أدت إلى هرب ونزوح الشبان من القرى وإلى ثورة الفلاحين.
في العام 1839 افتتحت قنصلية بريطانية في القدس، وذلك بعدما كانت قد عملت قبل ذلك وكالات قنصلية في المدن الساحلية. في العام 1846 تجددت البطريركية اللاتينية في القدس، وأقيمت إرساليات (فروع تبشيرية) للكنيسة البروتستانتية التي أُعيد تنظيمها. نهاية "حرب القرم" في العام 1856 حملت بشرى عصرنة بطيئة للنظام وإعادة تنظيم للحياة بروح الأفكار الأوروبية. وأعلن في هذا الإطار عن مساواة في الحقوق لجميع الأديان وألغيت كل القيود التي فرضت في ذلك الوقت على غير المسلمين، وانتهجت تجديدات ملائمة لروح العصر في أنظمة الضريبة والأمن والاتصالات وما إلى ذلك...
وساهم تدشين قناة السويس في العام 1869 ووصول بواخر الشحن إلى موانىء البلاد في تقريب "أرض إسرائيل" إلى أوروبا وإلى الأسواق العالمية.
كذلك فقد ساهم المستوطنون الألمان (مستعمرات "الفرسان الهيكليون" التي أقيمت في الستينيات والسبعينيات من القرن التاسع عشر) في إدخال العصرنة إلى سائر مجالات وميادين الحياة.
كل ذلك حدث قبل قدوم "الطلائعيين اليهود" [الذين قدموا إلى البلاد في نطاق ما يسمى بالهجرة (اليهودية) الأولى عام 1882] وهجرة يهود اليمن في العام ذاته.
يمكن وصف البلاد بـ"التخلف"، كما فعل مارك توين في كتابه التاريخي "رحلة الملذات إلى الديار المقدسة"، بيد أن علماء الجغرافيا والمؤرخين اكتشفوا وثائق وشهادات كثيرة تبرهن على أن "أرض إسرائيل" كانت "عصرية" (بالمقارنة مع تلك الفترة) قبل عقود عديدة من بدء الكولونيالية الصهيونية الجديدة.
(*) الكاتب أستاذ جامعي (المقال خاص)