تعريف: حفلت أعداد رأس السنة العبرية الجديدة من الصحف الإسرائيلية، يوم 3 تشرين الأول 2005، بالمقالات والتقارير والتحليلات التي تلخص السنة المنتهية. وقد اخترنا منها المقال التالي للمعلق في صحيفة "هآرتس" آري شفيط، الذي يدأب مؤخرًا على الترويج لخطة فك الارتباط باعتبارها "مشروعًا لتقسيم البلاد" من وجهة نظره الشديدة الخصوصية.
وبقدر ما يعكس هذا المقال أفكارًا سابقة عبّر عنها شفيط، فهو يعكس حالة أو اتجاهًا عامًا لدى الرأي العام الإسرائيلي يرى في تلك الخطة "البديل الوحيد" أمام إسرائيل لتجاوز وضعية المواجهة المستمرة.
ومن نافل القول إن معظم أوساط المركز واليسار الصهيوني في إسرائيل تنساق وراء هذه الحالة، التي ستكون لها مفاعيل على الساحة الإسرائيلية في السنة العبرية الجديدة أيضًا.
"المشهد الإسرائيلي"
منذ "زيارة" أريئيل شارون إلى "جبل الهيكل" (الحرم القدسي الشريف) عشية رأس السنة العبرية في أيلول 2000، باتت السنوات العبرية بمثابة وحدات زمنية ملائمة لنقوّم ونتحرى من خلالها الحقبة الراهنة في الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. فالسنة العبرية المذكورة (2000-2001) كانت عام الصدمة. السنة التالية (2001-2002) كانت عام الاستقرار، والسنة قبل الأخيرة (2003-2004) كانت عام الحسم العسكري الإسرائيلي، فيما كانت السنة العبرية المنتهية الآن، على ما يبدو، عام الانفصال.
وكانت خطة الانفصال قد أعلنت في منتصف السنة السابقة، ثم تحولت إلى قرار حكومي في حزيران 2004. ولكن الانفصال تحول خلال السنة العبرية الفائتة فقط من فكرة ضبابية غامضة إلى خطة عملية، ومن خطة عملية إلى خطة ذات نفاذ سياسي، ومن خطة ذات نفاذ سياسي إلى خطة ذات نفاذ قانوني ومن ثم إلى حقيقة على الأرض، إلى واقع تاريخي جديد.
خلال السنوات العبرية الأربع المنصرمة أخذت تتضح أكثر فأكثر معاني وأبعاد "حرب الإرهاب الكبرى" [انتفاضة الأقصى والقدس] التي اندلعت بحلول رأس السنة العبرية في نهاية أيلول 2000. وقد كانت هذه الحرب هجوماً و"عدواناً" على إسرائيل كدولة يهودية وكمجتمع حُر. على المستوى الأيديولوجي نبعت هذه الحرب من عدم قدرة الزعامة الفلسطينية على إنهاء الصراع والاعتراف بحق الوجود لدولة يهودية في حدود عام 1967 معدلة. أما على المستوى العملي فقد كانت محاولة لتقويض إسرائيل كمجتمع ديمقراطي، عن طريق زعزعة أسس وتشويش نمط الحياة الغربي للدولة اليهودية، وعدم تمكين هذه الديمقراطية (الإسرائيلية) المنتجة والمستهلكة من تجسيد حلمها "الكاليفورني" [بمعنى الأميركي] بمنأى عن الاحتلال والصراع.
خلال تلك السنوات الأربع ذاتها فَهِمَ الإسرائيليون الرسالة الفلسطينية جيداً، وأدركوا أن الصراع لا يدور على قطاع غزة والضفة الغربية وإنما على حق وجود الدولة اليهودية ذاته في محيط عربي إسلامي... أدركوا أن الصراع لا يدور على القدس وإنما على وجود مجتمع حر غير عربي في الشرق الأوسط. لقد فهموا وأدركوا أن الصراع يدور على حق وجود إسرائيل كدولة يهودية- ديمقراطية.
حول هذه الرؤية الأساسية المتبصرة أخذت تتبلور منذ رأس السنة العبرية في العام 2000 أغلبية إسرائيلية جديدة وصامتة. هذه الأغلبية تدرك أن الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني لن ينتهي في المستقبل المنظور، بيد أن هذه الأغلبية تعي أيضاً أن الاحتلال يشكل خطراً أخلاقياً وديمغرافياً وسياسياً على إسرائيل. وتعلم الأغلبية الإسرائيلية أنه لا بدّ، في جهة، من إنهاء الاحتلال بغية ضمان وجود إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية، لكنها تعلم أيضاً، في جهة أخرى، أن إنهاء الاحتلال بشروط تعني استمرار الصراع، ينطوي على إشكالية. فاستمرار الصراع يمكن أن يفجر موجات عاتية من العنف والتي من شأنها أن تزعزع إسرائيل فضلاً عما يمكن أن تشكله من خطورة عليها. لذلك تتوقع الأغلبية الإسرائيلية من زعامتها القومية العمل من أجل إنهاء الاحتلال تدريجياً، بحذر ودون تحميل إسرائيل مخاطر وجودية.
لقد كانت السنة العبرية المنصرمة سنة الأغلبية الإسرائيلية الجديدة، وهذه الأغلبية لا يوجد لها حتى الآن حزب كما أنها غير ممثلة بعد في الكنيست، غير أنها أغلبية حازمة ومصممة جداً. فهي تدرك أن إسرائيل تحتاج، بالذات في غياب السلام، إلى حدود، وتدرك أن إسرائيل، بالذات لأن الصراع قد يستمر لوقت طويل، تحتاج إلى تقسيم؛ وأن مد خط فاصل بين المجال (الحيِّز) الإسرائيلي وبين المجال الفلسطيني هو الكفيل فقط بتحرير إسرائيل من عقدة الكولونيالية وتحرير الفلسطينيين من عقدة الضحية. إنها تدرك أن إقامة فصل بين الشعبين هو الكفيل فقط بإنهاء شبكة العلاقات التكافلية المشوهة بينهما ودفعهما نحو اعتراف متبادل حقيقي.
في السنة العبرية السابقة كان الضغط الهادىء الذي مارسته الأغلبية الإسرائيلية الجديدة هو الذي دفع رئيس الوزراء أريئيل شارون إلى إقامة جدار الفصل وتبني خطة فك الارتباط. ولكن خلال السنة العبرية المنتهية للتو تحولت هذه الأغلبية الجديدة إلى حقيقة سياسية راسخة. فهي التي مكنت شارون من البقاء وتحويل خطة الفصل إلى حقيقة سياسية وإلى عمل فعلي على أرض الواقع، وهي التي أتاحت لشارون اجتياز امتحان مركز حزب الليكود. وهكذا فإن الأغلبية الإسرائيلية الجديدة ورئيس الوزراء شارون أصبحا خلال تلك السنة حليفين.
فالشخصية المميزة لشارون من جهة والتصميم الهادىء لدى الأغلبية الإسرائيلية من جهة أخرى هما اللذان صاغا ملامح السنة العبرية المنصرمة... هما اللذان نجحا في البقاء والانتصار، وهما اللذان تحولا إلى أكثر عوامل التغيير أهمية في الحلبة الشرق أوسطية.
بيد أن ثمة عامل تغيير آخر كان له أيضاً بصماته على تشكيل وصوغ ملامح السنة العبرية المنصرمة وهو ياسر عرفات، إذ يمكن بالتأكيد رؤية يوم مواراة جثمان الرئيس (عرفات) في 12 تشرين الثاني 2004 كيوم خاتمة حرب استمرت أربع سنوات، ويمكن رؤية يوم مواراته التراب أيضاً باعتباره اليوم الذي أتاح لإسرائيل تنفيذ خطة فك الارتباط بنجاح. فقد استطاع عرفات طوال ثلاثين عاماً قيادة الثورة الفلسطينية بنجاح مدهش، لكنه فشل تماماً خلال عشر سنوات كمؤسس للدولة الفلسطينية.
وهكذا أسس يوم دفنه في رام الله لبداية سيرورة فلسطينية جديدة تضع الأغلبية الفلسطينية البرغماتية أمام امتحان صعب. فهل هي قادرة أيضاً، مثل الأغلبية الإسرائيلية الجديدة، على فرض إرادتها على الأقلية المتعصبة؟! هل هي قادرة أيضاً، كالأغلبية الإسرائيلية الجديدة، على إيجاد زعيم يعبّر سياسياً عن إرادتها ورغبتها في التقسيم والاستقرار وإحلال واقع يرتكز إلى دولتين؟.
ما زالت النتائج البعيدة المدى للعملية أو السيرورة الفلسطينية الجديدة غير واضحة. فتعاظم حركة "حماس" يبعث على القلق، فيما تبدو الروح العملية التي يتمتع بها "أبو مازن" مشجعة. التحريض في ذروته لكن السلوك في مواجهة الإرهاب يشكل كابحاً. في أية لحظة يمكن أن تنهار البنية البرغماتية الهشة. لكنها لغاية الآن تضمن وتؤمِّن الهدوء. هدوء سطحي، هدوء مؤقت، لكنه مع ذلك هدوء لم تكن خطة الانفصال لتتحقق بدونه.
هكذا وبنظرة إلى الوراء فإن من الواضح الآن أن يوماً سياسياً واحداً هو الذي صاغ السنة العبرية المنصرمة بأكملها. ففي 26 تشرين الأول 2004، وبعد الساعة الثامنة مساء بقليل، صادق الكنيست في القدس بأغلبية 67 صوتاً ضد 45 صوتاً على خطة الانفصال. وبعد مرور 24 ساعة، انهارت في رام الله أجهزة جسد ياسر عرفات. فلو كان عرفات قد انهار قبل يومين من تصويت الكنيست لكانت نتائج التصويت قد جاءت مغايرة. ولولا أنه انهار كلياً، لكانت نتائج عملية فك الارتباط برمتها مختلفة تماماً. إن اجتماع صدف قد يبدو أنه من إخراج يد خفية، هو الذي تسبب في آن واحد في جعل الإسرائيليين يتحلون بالشجاعة اللازمة من أجل محاولة إزالة لعنة المستوطنات، وفي جعل الفلسطينيين يتحررون من سحر مؤسس أمة مُدمِّر.
لقد قرر الإسرائيليون أخيراً معالجة مرضهم القومي وذلك قبل يوم واحد فقط من وقوف الفلسطينيين أمام إمكانية مواجهة مرضهم القومي كأمة راشدة.
لقد جسدت الأشهر العشرة التالية من السنة العبرية الماضية نافذة الفرص المدهشة التي فتحت في أواخر تشرين الأول 2004، وهو ما أدى في نهاية عملية نضوجٍ طويلة إلى اختفاء "غوش قطيف" في غضون يومين من شهر آب الماضي، وذلك دون أي عنف حقيقي ودون حرب أهلية ودون سفك دماء، وقد برهن ذلك إلى أي حد كان التحالف بين الأغلبية الإسرائيلية الجديدة وبين الزعيم الذي يعبر عنها تحالفاً عميقاً وواعداً. لكن ذلك برهن أيضاً أن هناك شريكاً فلسطينياً خفياً لإسرائيل حتى عندما قامت بفرض أجندةٍ تقوم على التقسيم بشكل أحادي الجانب. شريكٌ فلسطينيٌ ناضجٌ ومدهشٌ يُساعد في تجسيد التقسيم ليس بقوة اتفاق موقّع وإنما من خلال فهم أو تفهم ضمني.
هذا الدرس يُعتبر درساً مدوياً، فهو يغير جذرياً صورة العالم التي عشنا في إطارها طوال أكثر من 30 عاماً، فهو يستبدل نماذج التفكير المتناقضة والغوغائية لليمين الإسرائيلي بنموذج جديد ثالث. كما أن هذا الدرس يرسم خطة طريق إستراتيجية جديدة سواء بالنسبة للإسرائيليين أو بالنسبة للفلسطينيين. وهو مسارٌ من شأنه أن يضمن حركةً تدريجية ولكن شبه مؤكدة نحو تقسيم البلاد.
لقد كانت السنة العبرية المنصرمة سنة تقسيم البلاد ولا تزال العملية في معظمها أمامنا، فهي ستكون طويلة ومضنية يتخللها صعود وهبوط، عنف وهجمات. لكن تلك السنة كانت أيضاً سنة حاسمة تقررت فيها السابقة وحدِّد المبدأ ووضع الهدف. وبهذا المعنى فقد كانت حقاً سنة تاريخية. فهي لم تكن فقط السنة التي انتهت فيها حرب السنوات الأربع وإنما السنة التي بدأ فيها احتلال عمره أربعون عاماً يلج طريق النهاية. ليست فقط السنة التي برهنت فيها إسرائيل على عقلانيتها وقوتها وإنما أيضاً السنة التي بدأت فيها إسرائيل تعود إلى رشدها. وهكذا يتضح بنظرة إلى الوراء أن تلك السنة كانت بالذات سنة الالتحام بالواقع، فانفصال إسرائيل عن الهوَّس المسيحاني وانفصال الفلسطينيين عن الوهم العرفاتي أديا بالجانبين إلى استئناف حوارهما مع العالم كما هو، مع ذلك فإنه لا توجد حتى الآن أية إمكانية للوصول إلى حوارٍ ذي شأن بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولكن حقيقة كون الطرفين يخوضان حواراً منقطع النظير مع الواقع إنما تولد نوعاً متزناً من الأمل بحلول السنة العبرية الجديدة.
لقد كانت السنة العبرية المنصرمة سنةً مهمة ليس فقط لأنها أدت إلى إخلاء 25 مستوطنة وإنما لأنها جسدت دروس الإسرائيليين المستخلصة سواء من فشل الاحتلال أو من فشل أوسلو. لقد جسدت صحوة الإسرائيليين سواءً من وعد أرض إسرائيل الكاملة أو من الوعد بالسلام الكامل.
هل كان للسنة العبرية الماضية أبطال؟
لقد توّج قادة الجيش والشرطة بالنياشين ولكنه جدير أن يُضاف إليهم أيضاً اللابطل "أبو مازن". كما من الجدير أن يُضاف إليهم الضباط والجنود والمستوطنون الذين اجتازوا اختبار الانفصال والإخلاء بصورةٍ مدهشة.
لكن الذي يقف فوق جميع هؤلاء هو أريئيل شارون، هذا الرجل الذي ترك بصماته على ملامح كل سنة من سنوات الألفين بما في ذلك السنة العبرية الأخيرة وملأ الفراغ السياسي الإسرائيلي بمركز ثقل سلطوي، وهو الذي أعاد سياسة إسرائيل إلى مبدأ السياسة الواقعية، فبعد خروج ياسر عرفات من لعبة الصراع بقي أريئيل شارون الآن على المسرح كلاعب إقليمي شبه وحيد، وهو الرجل الذي تدور حوله السياسة الإسرائيلية، وهو الذي يرسم الآن ويصوغ بدرجة كبيرة مصير المشروع الصهيوني، وهو الذي يحدد ويقرر أجندة الشرق الأوسط.
(عن "هآرتس"، عدد رأس السنة العبرية الجديدة، 3 تشرين الأول 2005، ترجمة "مدار")