"هكذا قال الرب: من أجل ذنوب حزب العمل الثلاثة والأربعة لا أرجع عنه..."- لو كان النبي عمواس حيا اليوم لكان سيبدأ أحد إصحاحاته بهذه الكلمات.
إلا أن ذنوب حزب العمل، منذ حرب الأيام الستة (حرب حزيران 1967)، هي أكثر من ثلاثة. يمكنها لوحدها أن تملأ إصحاحات النبي عمواس.
فيما يلي قائمة جزئية بها:
- غداة تلك الحرب، عام 1967، أهدر ليفي إشكول فرصة تاريخية كان يمكنه فيها أن يقترح على الفلسطينيين إمكانية إقامة دولتهم وإحلال السلام معهم إلى أجيال (كما اقترحت عليه في حديث شخصي بيننا وفي رسالة علنية). لقد فضّل الأرض على السلام.
- في عام 1974، أقام شمعون بيريس أول مستوطنة في قلب السامرة- مستوطنة كدوميم التي تدب الرعب اليوم أيضا في محيطها كله.
- تجاهلت غولدا مئير، في بداية السبعينيات، إشارات السلام التي أبداها أنور السادات، وقد دفع ألفا شاب إسرائيلي حياتهم لقاء ذلك، إضافة إلى آلاف المصريين. وهي التي قالت مقولتها: "شعب فلسطيني، لا يوجد شيء كهذا".
- في عام 1982، أيّد كل من بيريس وإسحاق رابين اجتياح مناحيم بيغن وأريئيل شارون للبنان، وبعد سنة واحدة أيدا القرار الأحمق بإقامة "الحزام الأمني" الذي أطال الحرب غير المجدية إلى 28 سنة. في تلك الفترة، تزايدت قوة الاحتلال وزاد عدد المستوطنات، الأمر الذي كان السبب في نشوب الانتفاضة الأولى.
- بعد أن استخلص رابين وبيريس، في نهاية الأمر، العبر من الانتفاضة، اعترفا بمنظمة التحرير الفلسطينية ووافقا عام 1993 على اتفاقيات أوسلو، ثم لم يلبثا أن خرقاها، لم يفتحا المعابر الآمنة بين الضفة والقطاع ولم ينجزا الانسحاب الثالث والرئيسي. في نفس الوقت استمرا في إقامة المستوطنات.
- بهدف انتخابه، بعد اغتيال رابين، خرج بيريس عام 1996 في حرب صغيرة في لبنان انتهت بذبح عشرات اللاجئين في قرية قانا. وقد صادق أيضا على اغتيال "المهندس" يحيى عياش. كانت النتيجة المتوقعة مسبقا هي سلسلة من العمليات الانتحارية وهزيمته في الانتخابات.
- بعد رفض ياسر عرفات قبول الاقتراحات البديلة التي عرضها إيهود باراك في كامب ديفيد عام 2000، أعلن باراك أن الفلسطينيين يريدون إبادة إسرائيل وأنه "لا يوجد من نتحدث معه". كانت النتيجة انهيار معسكر السلام، هزيمة حزب العمل وتسلّم شارون زمام السلطة.
- انتهج الحزب طيلة ذلك الوقت سياسة اقتصادية وسّعت الهوة بين الأغنياء والفقراء، قضت على نقابة العمال وخلقت قنبلة اجتماعية موقوتة، كان من شأنها أن تنفجر في أي وقت.
الممثل الرئيسي لهذا الخط كان شمعون بيريس، الذي ترفرف روحه الشريرة فوق حزب "العمل" منذ عشرات السنين. مؤخرًا رغب في أن يُنتخب مرة أخرى كرئيس للحزب. المرشح الحقيقي الوحيد الذي يتصدى له هو زعيم نقابة العمال العامة (الهستدروت) عمير بيرتس.
إحدى مزايا بيرتس تكمن في الحرف الأخير من اسمه (يُلفظ هذا الحرف بالعربية بالحرفين "ت" و"س" معا): بيرتس ليس بيريس.
يقولون إن حزب العمل يواجه حالة من الجمود. ليت ذلك كان صحيحا. من الناحية العملية يتواجد الحزب في إطار عملية متقدمة من التعفن.
يمكننا أن نطرح السؤال: ما علاقة هذا الأمر بشخص مثلي، لم يكن ولن يكون ذات مرة عضوا في هذا الحزب؟ هناك علاقة وطيدة، لأن الحزبين الكبيرين، الليكود والعمل، هما العمود الفقري للنظام البرلماني- الحزبي وركيزة الديمقراطية الإسرائيلية. انهيار أحدهما، فكم بالحري كليهما، في وقت لا يوجد فيه بديل معقول لهما، سيقوّض ركائز وجودنا الرسمي. هذا يعيد ذكريات مفزعة من أيام جمهورية فايمار الأخيرة في ألمانيا.
منذ حوالي خمس سنوات، يشكل الحزب رهينة بين أيدي شمعون بيريس. لقد فقد، تحت زعامته، أي نوع من الرأي الذاتي، الوطني والاجتماعي. مع اعتلاء شارون السلطة، أصبح يشكل له ناصحا دوليا. لقد جعل الحزب تحت إمرته. حتى ذلك الحين كان العالم يسند اسم شارون بمجزرة قبية، اجتياح لبنان وفظائع صبرا وشاتيلا. شمعون بيريس، وهو الحائز على جائزة نوبل للسلام، حوّله إلى سياسي مقبول في العالم.
بعد الفاصل الهزلي بعض الشيء لترك الحكومة بسبب الانتخابات، أعاد بيريس الحزب إلى حكومة شارون الثانية ليشكل الداعم الأساسي لخطة "الانفصال". لم يفرض أي شرط: لا أن يتم الانسحاب في إطار اتفاقية مع الفلسطينيين، لا أن تحرر الأراضي بالفعل ولا أن يؤدي الانسحاب إلى محادثات فورية حول الانسحاب من الضفة الغربية.
نحن نرى النتيجة الآن أمام أعيننا: لقد تحوّل قطاع غزة إلى سجن كبير، الاحتلال هناك مستمر بوسائل أخرى (عزل القطاع عن الضفة وعن العالم بأسره)، تدهورت الظروف المعيشية في القطاع أكثر فأكثر. والنتيجة هي: استمرار سفك الدماء، ومن المرجّح أن يتزايد.
نحن نقرأ ونشاهد كل يوم كيف يسمح حزب العمل لشارون بأن ينفذ مآربه- ضم 58 % من الضفة الغربية إلى إسرائيل، من خلال تحويل ما تبقى منها إلى قطاعات ("كنتونات") معزولة أحدها عن الآخر: الجدار الفاصل الذي أوجده حزب العمل، ويضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية إلى إسرائيل، الحواجز، المستوطنات الموسعة بوتيرة سريعة. لا حديث عن تفكيك "البؤر الاستيطانية". تتواصل التصفيات والاعتقالات حتى بعد أن أعلن الفلسطينيون عن وقف إطلاق النار، وحتى بعد أن أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي أن على السلام أن ينتظر "إلى الجيل القادم". بانعدام وجود أي إنجازات سياسية، تتضعضع مكانة أبي مازن، وبهذا ينشأ الوضع المرجو "لا يوجد من نتحدث معه".
على الصعيد الاجتماعي تواصل الحكومة، بدعم من وزراء حزب العمل، توسيع الهوة وتعميق الفقر. لا يوجد فرق حقيقي بين سياسة شارون "التاتشرية"، وسياسة نتنياهو وبيريس رغم كل الشعارات.
لا عجب في أن حزب العمل في هذا الوضع آخذ في الشلل. لم يمل الجمهور بيريس وحده بل ملّ أيضا كافة السياسيين الذين يتراقصون من حوله. الحزب يفتقر إلى الحياة، لا نقاش فيه ولا أي تقدم.
أكثر ما تحتاج إليه الديمقراطية الإسرائيلية هو حزب معارض، له رأي وسياسة بديلين. لن يكون حزب العمل كذلك، طالما يخنقه بيريس وشركاه. لهذا السبب، فإن إبعاد بيريس عن زعامة حزب العمل هو شرط أولي لأي تجديد. يبدو في هذه الظروف أن عمير بيرتس هو البديل الوحيد القادر على ذلك.
لا أعرف بيرتس عن قرب، ولا يمكنني أن أحكم فيما إذا كان قادرا على قيادة الحزب والدولة. لكنه ذو بعض المزايا السياسية الواضحة، التي لا يتمتع بها أي زعيم من كبار زعماء الحزب: لديه جدول أعمال اجتماعي واضح، إنه ملتزم في دعمه للسلام مع الفلسطينيين، إنه ممثل ملائم للجمهور الشرقي، دون أن يكون وصوليا طائفيا. إنه مليء بالحيوية، له تواصل مباشر مع الجمهور، وقد أثبت قدرته عندما ترأس "الهستدروت". يجب الآن منحه الفرصة لفحص قدرته كزعيم حزبي ووطني. أرجو له النجاح.
حتى وإن خيّب الآمال كزعيم لحزب العمل، فإن فوزه في الانتخابات التمهيدية سيعود بفائدة كبيرة. فترة مرحلية برئاسة بيرتس ستنقي الحلبة من السياسيين الذين لم ينفذوا مهامهم، ستفتح بوابة واسعة أمام قوى جديدة وشابة وستعيد للحزب قدرته على أن يكون معارضة مقاتلة.
باختصار: هناك حاجة إلى روح بيرتس.