المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات مترجمة
  • 1013

الهزة الأرضية السياسية نادرة الحدوث. عند حدوث هزتين أرضيتين في الحلبة السياسية، فإن الأمر يكون نادرا بشكل خاص.

هكذا كان انتخاب عمير بيرتس زعيما لحزب العمل، وهكذا كان ترك أريئيل شارون لليكود وإقامة حزبه الجديد.

فجأة، تغير المشهد السياسي إلى حد أصبح من غير الممكن التعرف عليه. حتى الآن كان هناك جبلان، أما الآن فقد أصبحوا ثلاثة جبال، وكل منها يقف في المكان الذي وقف فيه الجبلان السابقان.

 

لقد تحوّل الليكود في السنوات الثماني والعشرين الأخيرة إلى حزب مركز- يمين. لقد اختلطت آراؤه الوطنية بالانتهازية والفساد الآخذ بالتزايد. توسعت زعامته لتشمل أصحاب الأموال، الذين حددوا سياسته الاقتصادية، في وقت تنتمي فيه أغلبية ناخبيه الساحقة إلى الطبقات المستضعفة.

تحوّل حزب العمل إلى شاهدة قبر ذاتية. تحوّل إلى نسخة باهتة عن حزب الليكود، نوع من الليكود ب. حفّار القبور الرئيسي فيه كان شمعون بيريس، في وقت أصبح فيه أهم ممثلي الترويج لشارون في العالم.

هذا المشهد لم يعد قائما.

 

في المشهد الجديد هناك ثلاثة جبال، تتجه إلى ثلاثة اتجاهات مختلفة.

 

- الليكود يعود إلى ما كان عليه قبل توليه السلطة: حزب يميني متطرف. هذه هي حركة "حيروت" الكلاسيكية، التي تدعو إلى أرض إسرائيل الكبرى، من البحر وحتى النهر (على الأقل). إنها تعارض الحلّ السلمي مع الشعب الفلسطيني وتريد أن تواصل الاحتلال حتى تتاح لها الفرصة لضم كافة المناطق المحتلة إلى إسرائيل. ولكونها تدعو إلى دولة يهودية أحادية الجنس، فإن في ذلك رسالة "خفية": يجب دفع العرب إلى مغادرة البلاد، وهو ما يدعى "ترانسفير بمحض الإرادة". ولكن هذه الحركة تتوخى الحذر حتى الآن بعدم إعلان ذلك على الملأ.

يمكن لليكود الآن أن يثرثر حول الشؤون "الاجتماعية"، لينافس عمير بيرتس على ألباب مصوتيه الشرقيين. إلا أن هذه الأمور لم تكن تهمه في أي وقت من الأوقات. منذ اتحاد حركة حيروت في الستينيات مع الحزب اللبرالي، رحمه الله، أصبحت تخدم مصالح أصحاب الأموال.

 

- حزب شارون يرتكز على الكذب. لقد أعلن شارون أن "خريطة الطريق" هي ذاتها برنامجه السياسي. إلا أن خريطة الطريق قد ماتت قبل أن تولد. شارون لا يحلم، وهو لم ينو ذات مرة، بتنفيذ نصيبه من المرحلة الأولى لتحقيقها- إزالة مئات المستوطنات ("النقاط الاستيطانية") التي أقيمت بعد عام 2000، وتجميد كافة المستوطنات الأخرى.

إنه لا يخفي برنامجه الحقيقي: ضم 58% من الضفة الغربية، ومن بينها "الكتل الاستيطانية" الآخذة بالتوسّع، "مناطق أمنية" (في غور الأردن الموسّع والطرقات بين المستوطنات) والقدس الكبرى- الكبرى، حتى معاليه أدوميم وحتى إلى ما لا نهاية. ولأنه من غير الممكن أن يكون هناك شريك فلسطيني لـ "حل" كهذا، فإنه ينوي إملاءه بالقوة دون التحدث مع الفلسطينيين.

من وجهة نظر شارون، لا تشكل المسائل الاجتماعية إلا عائقا. سوف يطرح برنامجا ما، لينافس بيرتس والليكود، إلا أن هذا الأمر لا يعنيه لا من قريب ولا من بعيد.

 

- حزب العمل وعمير بيرتس سيركزان على المشاكل الاجتماعية- الاقتصادية، أملا في جرف الجمهور الشرقي، الذي صوّت حتى الآن لصالح الليكود وشاس. هنا يكمن احتمال النصر. عمير بيرتس يؤيد خطة سلام جدية: محادثات مع الفلسطينيين وإقامة دولة فلسطينية في إطار حدود عام 1967، أو ما يعادلها. سوف يطرح هذا البرنامج في إطار اجتماعي: المال الذي يتم تبذيره على الحرب، الاحتلال والمستوطنات قد استلب من الطبقات الفقيرة وهو يزيد الفجوة بين الفقراء والأغنياء.

يحاول مستشارو بيرتس إقناعه بأن عليه أن "يتمركز" وأن يموّه مبادئ برنامجه السلمي، وذلك ليكسب ناخبين "من الوسط". إذا فعل ذلك، فإن هذا سيطرح نوعا من عدم الثقة، عدم الأمانة وانعدام الطريق. إلا أنه في أي حال من الأحوال، سيحاول بيرتس التشديد في الحملة الانتخابية على المسائل الاجتماعية وخفض مستوى مسألة السلام والأمن إلى الدرجة الثانية.

 

أحد مبادئ علوم الحرب هو أن من يحدد موقع الميدان هو الذي سيحظى باحتمال النصر فيها. فسيتلاءم اختياره، بطبيعة الحل، مع أهدافه. هذا صحيح أيضا بالنسبة لميدان المعركة الانتخابية.

 

شارون هو جنرال متوّج بالمعارك، ولذلك فهو معنيّ بوضع موضوع "الأمن" في مركز المعركة الانتخابية. إن له هناك أفضلية هائلة على بيرتس، الذي ما كان إلا نقيبًا في سلاح الذخيرة. عند نشوء خطر أمني، سيثق الجمهور بشارون، ابن البلاد من قرية ملال، الذي تشعّ منه القيادة العسكرية.

بيرتس هو زعيم عمالي حقيقي، وُلد في المغرب وترعرع في بلدة تطوير فقيرة، ولذلك فهو معني بالتركيز في المعركة الانتخابية على المسائل الاجتماعية. في وقت يعيش فيه الآلاف تحت خط الفقر ويعتبرون الفجوة الاجتماعية مشكلتهم الرئيسية، فإن من شأنهم دفع الشؤون الأمنية جانبا إلى درجة أفضلية منخفضة.

على بيرتس أن يحثّ الجماهير على تذويت المعادلة "سلام = تقليل الفجوة". هذا الأمر غاية في الصعوبة. في السنوات العشر التي كنت فيها عضو كنيست ألقيت عشرات الخطابات حول هذا الموضوع، ولم أنجح. يوجد في الوعي الجماهيري نوع من الانفصال في الإدراك: حين يتحدثون عن الاقتصاد، يتجاهلون النزاع القومي. حين يتحدثون عن النزاع القومي، فهم لا يريدون الإصغاء إلى المشاكل الاقتصادية. على بيرتس كسر هذا الحاجز وخلق هذا الالتحام. من الممكن أنه بعد كل هذه المعارك الدامية، قد أينعت الظروف لذلك.

المعركة الرئيسية ستكون إذن حول تحديد موقع المعركة ذاتها: هل سيكون الموضوع الأمني في مركزها أم الفجوة الاجتماعية. هذا يلزم بيرتس بالالتزام بجدول أعماله، حتى وإن حاول المستشارون والإعلاميون على أنواعهم دفعه للانحياز عنه للرد على هجمات خصومه. أي عملية انتحارية ستكون عاملا مساعدا لشارون ولليكود بطبيعة الحال. (من يكره شارون يدعي بأنه قادر على إحداث ذلك بنفسه، عن طريق المبادرة إلى حملات تكون نتيجتها أعمال انتقامية).

 

بماذا يختلف المشهد الجديد عن المشهد السابق؟ من الغريب أن يتجاهل خبراء كثيرون جدا الحقيقة الأكثر وضوحا والأكثر تأثيرا:

كل الحلبة تتزحزح إلى اليسار.

صحيح أن نواة الليكود ما زالت عالقة في اليمين، في المكان الذي كانت فيه دائما، إلا أن كل البقية قد تزحزحت.

حزب شارون الذي انفصل عن الليكود تخلى عن أهم مبادئه: أرض إسرائيل الكبرى. إنه يؤيد تقسيم البلاد. لقد خلق شارون ذاته سابقة في إخلاء المستوطنات، وليس مهما ماذا كانت نواياه النهائية. وليكن برنامجه السياسي سيئا قدر ما يكون، ولكنه مقارنة بمواقفه السابقة وبمواقف الليكود السابقة، فإنها أقل يمينية بكثير. إنه لم يتحوّل إلى "العمل ب"، كما يدعي خصومه في الليكود، ولكن التزحزح كان في اتجاه اليسار.

 

انتخاب عمير بيرتس يشكل زحفا قويا لحزب العمل في اتجاه اليسار الحقيقي.

 

كل ما جاء هنا صحيح بالنسبة لحل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني. إنه صحيح أيضا على الصعيد الاجتماعي. لا يحمل بيرتس في جعبته جدول أعمال اجتماعي- ديمقراطي فقط، بل يجبر أيضا سائر الأحزاب على التوجه إلى هذا الاتجاه، أو التظاهر على الأقل وكأنها تتوجه إلى هذا الاتجاه.

حتى شاس تذكرت فجأة أنها حزب الفقراء الشرقيين. بعد سنوات من تواجدها على الطرف اليميني- القومي تذكرت الآن أن الحاخام عوفاديا يوسيف يؤيد هو أيضا، عمليا، إعادة الأراضي من أجل السلام.

لقد شهدنا في السنوات الأخيرة ظاهرة غير طبيعية أربكت الباحثين في مجال العلوم السياسية: تفيد كل استطلاعات الرأي أن أغلبية الجمهور تريد السلام، وهي مستعدة لتقديم معظم التنازلات المطلوبة من أجله، وأما في الكنيست فهناك تمثيل قليل جدا لهذا الموقف.

لقد أثار تفاؤلي، في تلك السنوات، حفيظة الكثير من اليائسين. لقد شرحت للجميع: هذا لن يستمر طويلا. في يوم من الأيام، وبأسلوب لن نتوقعه مسبقا، سيتم تصحيح هذا الوضع غير الطبيعي. بشكل أو بآخر ستلائم الحلبة السياسية نفسها مع الرأي العام.

الهزة الأرضية العنيفة تترك نتائجها على وجه الكرة الأرضية، ولكنها تحدث بسبب قوى فاعلة أعمق بكثير في باطن الأرض. هكذا هو الأمر بالنسبة للحياة السياسية: التغيرات الدفينة في أعماق الوعي الجماهيري ستؤدي في نهاية الأمر إلى نتيجة تظهر للعيان. ستظهر هذه النتيجة بشكل سريع وفجائي، إلا أنه سبقتها عملية طويلة وبطيئة. وأنا فخور بنصيبي ونصيب زملائي في هذه العملية.

ماذا سيحدث الآن؟ هذا يتعلق بأمور كثيرة، وبنا أيضا.

 

المصطلحات المستخدمة:

الليكود, الكنيست, عمير بيرتس

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات