تهتزّ إسرائيل، كلّ بضع سنين، بالكشف عن قضية جديدة يعترف فيها مَن حُقّق معهم بأعمال لم تنفّذ. ولا تزال طرية في الذاكرة، من الأشهر الأخيرة، محاكمة ثلاثة فلسطينيين مواطني إسرائيل من كفركنا، طارق نجيدات، شريف عيد ويوسف صبيح، بتهمة اختطاف وقتل الجندي أولِج شايحط. إعترف نجيدات، في أثناء التحقيق معه في جهاز الأمن العام (الشاباك)، بأنه قتل شايحط سويّة مع عيد وصبيح، ليعدلَ بعدها عن اعترافه في أثناء التحقيق. وتمّ إطلاق سراح المتهمين الثلاثة وقد بُرّئوا من التهمة إثر تكشّف دلائل جديدة وعدول النيابة العامة عن الاتهام الموجّه ضدَّهم، وفي الأيام الأخيرة قُدّمت لائحة اتهام بتهمة القتل نفسه ضدَّ محمد عنبتاوي من كفر كنا، الذي اعترف هو الآخر بتنفيذ القتل في أثناء التحقيق معه في جهاز الأمن العام.
وهناك قضايا من الماضي تشمل إدانة عاموس برانس بقتل الجندية راحيل هيلر، التي ألغيت بعد قبول الطلب الثالث لبرانس لإعادة محاكمته؛ قضية "عصابة "ماعتص"، التي بُرّئ متّهموها في محاكمة معادة مُنحت لهم بعد أن اعترف أحد أفراد الشرطة، الذي شارك في التحقيق معهم بسنوات بعدها، بتعذيب مورس في التحقيق؛ بالاضافة إلى القضية المعروفة، قضية قتل داني كاتس، المتّهم فيها أحمد قزلي، سمير غنامة، فتحي غنامة، علي غنايم وعاطف صبيحي، الذين استأنفوا تجريمهم بمحاكمة معادة أجريت لهم وهي ما زالت عالقة في المحكمة العليا؛ قتل دافنا كرمون الذي جُرّم فيه أحمد قزلي، عاطف صبيحي، محمد صبيحي وكمال صبيحي، حيث رُفض طلبهم لمحاكمة معادة؛ سليمان العُبيد، الذي جُرّم بقتل حانيت كيكوس؛ وموشيه عزاريا المعاق عقليًّا، الذي رُفض طلبه لمحاكمة معادة لكنه حظي بعفو.
ليست هذه القضايا هي القضايا الوحيدة. إن تقرير لجنة الإدانة على أساس الاعتراف، فقط، ودواعي المحاكمة المعادة ("لجنة غولدبرج") يعُدّد حالات أخرى، كانت أقلّ رسوخًا في وعي الجماهير.
المشترك لجميع هذه القضايا هو أن المتهمين اعترفوا بالأعمال التي لم ينفّذوها على ما يبدو، وأدينوا على أساس اعترافهم، فقط، بضمّ "شيء ما آخر"، وهو الشيء الذي يُعتبر إضافة دلائلية خالية من أية قيمة حقيقية.
إن تقديم الاعترافات الباطلة هو موضوع قيد البحث والفحص في أجهزة قضائية مختلفة، لسبب اكتشاف حالات كهذه. حتى في إسرائيل عُيّنت قبل نحو عقد "لجنة غولدبرج"، التي أقامها وزير القضاء آنذاك، دافيد ليبائي، لفحص قضية الإدانة على أساس الاعتراف فقط، ودواعي المحاكمة المعادة. قامت اللجنة بتبني هذا التوجه الواقعي والشجاع إلى الموضوع، باستنادها – ضمن أشياء أخرى– إلى العِبَر البريطانية المستخلصة من قضايا جُرِّم فيها أفراد على أساس اعترافهم بعد تعذيبهم بيد الشرطة. كانت توصيات اللجنة بعيدة المدى بما فيه الكفاية. وأوصت اللجنة - من ضمن ما أوصت به- بإصلاحات تشريعية تلزم وجود محامٍ عند التحقيق فيما إذا طلب المشتبه فيه ذلك، كوسيلة لمنع ممارسة الضغط على المشتبه فيهم، وبتسجيل التحقيقات بالصوت والصورة. وطُبّق جزء صغير من توصيات اللجنة عمليًّا، وقد نادى إليعيزر غولدبرج، رئيس اللجنة حينها ومراقب الدولة اليوم، في جلسة لجنة مراقبة الدولة في هذا الموضوع التي أجريت مؤخرًا إثر قضية شايحط، بالعودة إلى توصيات التقرير وتطبيقها.
في قسم من الحالات، ينبع الاعتراف في التحقيق إثر إستعمال وسائل عنيفة ضدَّ من يجري التحقيق معه- الضرب والتعذيب بشكل فعلي. ويتم انتزاع الاعتراف، في حالات أخرى، بغياب وسائل العنف. وفي الوقت الذي يلقى فيه الاعتراف الباطل، تحت ضغط جسدي، التفهم للظروف التي أدّت إليه، فإنّ الاعتراف الباطل الذي لم يتم تحت ضغوطات جسدية يُلاقى باستغراب أكبر. ويستصعب الكثيرون فهْمَ أن يعترف إنسان بفعل لم يرتكبه من دون أن يكون مجبرًا، بكل معنى الكلمة، على القيام بذلك، عن طريق مسدس مصوّب إلى الصُّدغ أو بضربة قبضة يد.
في قسم من الحالات، كحالة طارق نجيدات أو المتهمين الخمسة بقتل داني كاتس، وبعد الاعترافات بالتهمة أو بينها، توجد عدولات للمحقَّق معهم عن اعترافاتهم. فقد عدل طارق نجيدات عن اعترافه، وقتًا قصيرًا جدًّا بعد أن أدلى به، أمام شرطيّ سرّيّ زُرع في زنزانته شجعه على الكلام، وعدل عن اعترافه بصورة واضحة بعد أسبوعين من اعترافه، في المحكمة وأمام محقِّقي الشرطة، وكل هذا حتى قبل السماح له بمقابلة محامٍ. وقد عاد غالبية المتَّهمين بقتل داني كاتس، وادَّعَوْا في أثناء التحقيق معهم أنهم أبرياء وأنهم اعترفوا اعترافًا كاذبًا، حتى إن سمير نجيدات قال ذلك أمام عدسات الكاميرا عندما أخذوه لإجراء إعادة تمثيل. لكن العدول عن الاعتراف، حتى لو تم في نطاق التحقيق أيضًا، فهو لا يساعد. فبعد الإدلاء بالاعتراف لا يولون العدول عن الاعتراف أية قيمة. وعلى الرغم من العدول عن الاعترافات فقد قدمت لوائح إتهام ضد نجيدات وغنامة وباقي شركائه في الملف. فما الذي يجعل الاعترافات ذات قوة كبيرة جدًّا، ويجعل العدول عن الاعتراف، في المقابل، غير ذي وزن وقيمة إلى هذا الحد؟.
إن الوزن الكبير الذي يميلون إلى عزوه إلى الاعتراف بالجريمة متعلق بحقيقة أنّ الاعتراف يتعارض مع مصلحة المعترف. نحن نميل إلى قبول أن يكذب الناس عندما يكون الأمر متوافقًا مع مصلحتهم الذاتية، ولذلك فإننا لا نولي وزنًا خاصًّا من الحقيقة إلى الأقوال التي تتوافق مع المصلحة الذاتية لقائلها. نقبل، في هذه الحالة، أن للمتَّهم دافعًا إلى الكذب، لذلك فإن الكذب معقول أكثر. أينكر المشتبه فيه؟ بالتأكيد سينكر في محاولته الهروب من العقاب؛ فهكذا يفعل الجميع. لكن، فيما لو اعترف المشتبه فيه، فإن الاعتقاد المقبول يرى في ذلك عملاً مناقضًا لمصلحته الذاتية، ولذا يغيب الدافع للكذب. لماذا على المشتبه فيه أن يعترف بالمخالفة في حين أن معنى الاعتراف هو قبول اتهام باطل وسنوات سجن طويلة ووصمة عار صعبة؟ لهذا السبب، فإنّ الميل في حالة الاعتراف هو رؤية المشتبه فيه معدوم الدافع للكذب، لذا فهو يقول الحقيقة. ويُنظر إلى الدافع من وراء الاعتراف على أنه شعور داخلي بالذنب عند المشتبه فيه، الأمر الذي يزيد حتى من الاقتناع بتذنيبه.
لكن هذا الفهم خاطئ من أساسه. في أثناء التحقيق، الذي يُجرى بانفصال تام للمشتبه فيه عن محيطه وعن مصادر دعم ممكنة، يخلق المحققون نقيضًا للمصلحة الذاتية للمحقَّق معه، ويتحوّل الاعتراف في نظره إلى عمل يعزز مصلحته الذاتية، وليس إلى عمل مناقض لها. وتكون المصلحة الأولية في نظر المحقَّق معه، الموجود في هذه الحالة، هي وقف التحقيق وإرضاء محقّقيه وجعلهم يصدقون أقواله عندما يعترف. ولكونهم مقتنعين بأنه القاتل، فإنّ الاعتراف يحقق هذه الأهداف كلها.
قبل اعترافه، يعود المحققون ويدّعون أمام المشتبه فيه - هكذا كان في حالة نجيدات وفي حالات أخرى- أنهم لا يصدقون أنه ليس القاتل، وأنهم يعرفون، بشكل مؤكد، أنه القاتل فعلاً، وأنّ تكرار ادعاء براءته سيطيل من أمد التحقيق أكثر فأكثر، ليس إلا، ومن دون نهاية؛ فهم لن يقتنعوا ببراءته أبدًا. وأكثر من ذلك، لأنّ المحققين يعرضون أمام المشتبه فيه صورًا واقعية يعرفون حسبها أنه مذنب وأن هناك دلائل بين أيديهم تبرهن ذلك، وهذا يؤدي إلى أن يصدِّق المحقق معه أنه سيدان بالقتل فيما لو اعترف أو لم يعترف. بهذا يُبطل المحققون، في نظر المحقق معه، النتائج السلبية للاعتراف، أي إدانته. ويعرضون أمامه صورة عكسية للواقع، يكون لاعترافه بحسبها نتيجة إيجابية. أي: نحن على علم، ومقتنعون بتهمتك وستُدان فيما لو اعترفت أو لم تعترف، لكن فيما لو اعترفت فإنّ وضعك سيتحسن؛ فالمحكمة ستراعي أنك اعترفت وسنشهد لصالحك وسنطلب أن يراعوك. وفي المدى الفوري، سيؤدي الاعتراف إلى إنهاء التحقيق المنهك والمنكّل بحدّ ذاته. في الحالات التي يوجد فيها عدد من المشتبه فيهم، الذين يجري التحقيق معهم، والمتهمين بأنهم قاموا بتنفيذ المخالفة معًا، يستعين المحققون أيضًا بالتهديد بأنّ المشتبه الثاني سيقوم بتجريم المحقَّق معه. ويخلقون نوعًا من سباق الاعترافات الزائف، يقومون فيه بإقناع المشتبه فيه بأنه من الأفضل له أن يعترف قبل أن يعترف المشتبه الثاني، لأنه حينها سيستطيع إقناعهم بأن حصته في المخالفة أصغر من حصة الشريك الثاني، في حين أنه لو اعترف رفيقه قَبْله فمن الممكن أن يقتنعوا بأنه المنفّذ الأساسي. ويُعرض الاعتراف ثانية كخادم لمصلحة المحقَّق معه.
الحقيقة هي، إذًا، أنّ تحصيل الاعتراف الباطل أسهل كثيرًا مما يُظنّ. وقلب المصلحة الذاتية للمحقَّق معه ممكن في الأساس في حالات وجود مشتبه فيه ساذج ومن دون تجربة، في أول تحقيق جنائي أو أمني معه. كما أنّ التحقيق يخلق عزلة تامة للمشتبه فيه عن العالم الخارجي وعن مصادر دعم ممكنة. طارق نجيدات لم يُضرَب. لقد اعترف بعد يومين فقط من اعتقاله، ووافق بعد اعترافه على الخروج لإعادة تمثيل مصوَّر عرض فيه على ما يبدو وأمام عدسات الكاميرا، طريقة القتل. كانت هذه هي المرة الأولى التي يُعتقل فيها؛ لم يعرف شيئًا عن المواجهة في التحقيق أو في الإجراءات القضائية، ومُنع من ملاقاة محامٍ طيلة 21 يومًا، وكان منقطعًا عن أي اتصال مع العالم الخارجي. وسُمح له في الأيام الأولى من التحقيق بالنوم قليلاً جدًّا. تمّ التحقيق معه في غرف بلا نوافذ، مضاءة بضوء مصطنع، لئلاّ يتمكّن من التمييز بين الليل والنهار. وتم نقله بين الغرف والزنازين وهو مغطّى العينين بغطاء خاص. الطعام الذي قدّم له، أيضًا، كان نوعًا واحدًا في جميع الوجبات، ففقد نهائيًّا التمييز بين الليل والنهار. نتيجة ذلك كله، كان في حالة تضليل تام للوقت والمدى، ومعزولاً تمامًا عن أي دعم خارجي أو أي شيء يعرفه. كانت سيطرة المحققين على حياته مطلقة، ونجحوا في فصله حتى عن التمييز الأساسي بين الليل والنهار وبين الواحد والآخر.
في مثل هذه الحالة، لا عجب من أنّ نجيدات صدَّق محققيه بادعائهم أن اعترافه سيحسّن فقط من وضعه في التحقيق، وبذل أقصى جهد ليقدِّم لهم اعترافًا كاملاً قدر المستطاع، بتفاصيل حقيقية التقطها وسمعها سواءً أفي أثناء الاعتقال أم قبله.
لكن الاعتراف الذي قُدِّم في مثل هذه الحالة يفقد الوزن الخاص الذي يميلون إلى عزوه إليه، لسبب كونه مناقضًا لمصلحة المشتبه فيه. في مثل هذه الحالة، يكون الاعتراف كذبًا كأيّ كذب، مدفوعًا بمصلحة ذاتية مصطنعة يخلقها المحققون بتحسين وضع المشتبه فيه في التحقيق وإنهاء التحقيق والمساءَلة غير المنتهييْن.
ومن عِظَم المفارقة أنّ القاضية في محكمة الصلح التي ناقشت طلب اعتقال طارق نجيدات حتى انتهاء الإجراءات [د. نافا آبل- دانون] قرَّرت توقيفه، بناءً على التعليل العجيب بأنّ "لا أرجلَ للكذب". بمعنى: لو كان اعتراف نجيدات كذبًا فإنه لا بدّ أن ينكشف الأمر. ومن حسن حظّ نجيدات أن الأمر انكشف، فعلاً، ولكن نتيجة اقتران حالات فقط، وليس لأنّ كذبه كان "من دون أرجل". لقد كانت للكذب أرجل بحقّ، وكان بوسع هذه الأرجل أيضًا أن تسوق نجيدات وعيد وصبيح إلى السّجن المؤبّد.
(*) محامية إسرائيلية ناشطة في مجال حقوق الإنسان، وهذا المقال ظهر في العدد الأخير من مجلة "عدالة" الألكترونية