يصعب التحرّر من انطباع عام مؤداه أن التطورات السريعة، التي تشهدها التحقيقات بشأن شبهات الفساد الحائمة حول رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، والتي أفردنا لها جلّ مساحة هذا العدد من "المشهد الإسرائيلي"، بدأت تشي بتضييق الخناق أكثر فأكثر حول عنقه، وتلوّح في الوقت عينه بإشارات قوية إلى بداية نهاية عهده السياسي. ولعلّ أبرزها الإشارة
القويّة الناجمة عن تحوّل مقرّب ثالث من نتنياهو إلى "شاهد ملك" ضدّه. ويمكن القول إن هذا الثالث، المستشار الإعلامي السابق لعائلة رئيس الحكومة، نير حيفتس، هو المقرّب (بأل التعريف). وهي تنضاف إلى إشارة قوية أخرى ينطوي عليها تسريب مصادر مطلعة على مجريات التحقيق في القضية المعروفة إعلامياً باسم "الملف 4000"، أن الشبهات ضد نتنياهو في هذا الملف أكثر خطورة من تلك المنسوبة له في ملفي 1000 و2000، واللذين أوصت الشرطة في كل منهما بتوجيه تهم الاحتيال وخيانة الأمانة وتلقي الرشوة إليه.
وإلى أن تنجلي مزيد من الحقائق بهذا الشأن لا بُدّ من التنويه بما يلي:
أولاً، على مدار أكثر من عام، منذ بدء التحقيقات مع نتنياهو، كان الاهتمام مُتركزاً أكثر من أي شيء آخر على تلقيه عطايا من رجال أعمال بخلاف القانون، في مقابل منحهم امتيازات تخدم مصالحهم. لكن في الفترة الأخيرة أمسى التركيز منصبّاً على محاولاته الدؤوبة الرامية إلى السيطرة شبه المُطلقة على وسائل الإعلام الإسرائيلية، المكتوبة والإلكترونية والمرئية، والتي يرمي من ورائها إلى التحكّم بخطابها حيال أدائـه الخاص، بحيث لا يتعدّى هذا الخطاب غاية "التغطية الإيجابية" له ولأفراد عائلته. وهذا هو ما بات واقفاً في صلب ثلاثة ملفات من مجموع أربعة ملفات رئيسية تتمحور حولها تلك التحقيقات، وأضيف إليها مؤخراً ملف خامس ينطوي على شبهة بمحاولة التدخل في مجرى محاكمة منعقدة ضد زوجته حول مصاريف زائدة لا لزوم لها أنفقتها على منازلهما الخاصة على حساب المال العام.
ثانياً، يؤكد كثيرون من المحللين المتنورين أن هذه المسألة المرتبطة بهوس التغطية الإعلامية المستحوذة على نتنياهو وعائلته، ليست عابرة بتاتاً. ويلفت هؤلاء إلى أنه في حال نجاح رئيس الحكومة، الذي يقترب حكمه من استكمال عقد متواصل من الأعوام، في جعل معظم المنابر الإعلامية المتنافسة التي تغطي الأحداث السياسية وغيرها مصطفة إلى جانبه، يصبح بمقدوره تحقيق غايات كثيرة بينها: مصادرة دور هذه المنابر كـ"رقابة مستقلة"؛ توجيه مواقف القراء والمستمعين والمشاهدين؛ المُضي خطوات بعيدة إلى الأمام نحو تعزيز مكانته كرئيس للحكومة، وهو منصب غير محدود المدة من حيث عدد الولايات في إسرائيل.
ثالثاً، من شأن ما تكشّف ومن المتوقع أن يتكشّف لاحقاً في هذا الصدد، أن يوسع دائرة الضوء على ما يعرف بـ"مسيرة خصي المؤسسة الإعلامية في إسرائيل"، كما يشير إلى ذلك أحد المُحررين في سياق المقال الذي نشرنا ترجمته على الصفحة الرابعة من هذا العدد. وفيه يؤكد أيضاً أن مثل هذه المسيرة ما كان من الممكن أن يكتب لها النجاح، من دون توفر مديرين عامين، وموظفين كبار، وصحافيين، للدفع بها قدماً. وفي السياق ذاته يجدر التحفّظ من اعتبار معظم المنابر الإعلامية في إسرائيل مستقلة تماماً، ولا سيما حين يكون الحديث دائراً عن السياسة الإسرائيلية العامة والموقف حيال الإنسان الفلسطيني والعربي. وقد دأبنا حتى الآن على نشر جبل من التقارير التي تفنّد هذه الاستقلالية وتفضح زيفها، بما لانحتاج معه إلى عناء البرهان مجدّداً.
أما ما يمكن أن تعنيه بداية نهاية عهد نتنياهو السياسي على المستوى الإسرائيلي، فتلك مسألة أخرى تحتاج إلى عودة لاحقة.