نسلّط الكثير من الضوء في هذا العدد من "المشهد الإسرائيلي" على الطريق الذي تغذّ حكومة بنيامين نتنياهو الحالية السير فيه، في كل ما هو مرتبط بتكريس سلطة اليمين الإسرائيلي من طريق تعزيز مواقعه، بوصف ذلك استمرارا وتصعيدا لما سبق أن قام به هذا اليمين على نحو تدريجيّ منذ العام 2009.
وفضلاً عن التغطية الخاصة للأبعاد المرهونة بهذه المسألة، والمترتبة على سنّ مشروع القانون الذي يحظر بموجبه على الشرطة الإسرائيلية تقديم توصيات إلى النيابة العامة في ختام أي إجراءات تحقيق، والمعروف باسم "مشروع قانون التوصيات"، وجدنا من المناسب أيضاً أن نترجم مقاطع واسعة من التقرير التلخيصي الذي أصدرته "جمعية حقوق المواطن" الإسرائيلية، في أواخر تشرين الثاني الفائت، وتوثّق فيه سلسلة التشريعات والمبادرات التشريعية التي شهدها الكنيست الحالي (الكنيست الـ20) وتعبر عن الجهد المحموم والمنهجي الذي يبذله اليمين الحاكم لتكريس وتعزيز مواقعه وسلطته، في شتى المرافق والمجالات، من خلال تضييق الحيز الديمقراطي في إسرائيل.
ويمكنكم مطالعة مواد أخرى تندرج في إطار المحور ذاته في الصفحة الثالثة (مقاطع من خطاب جديد ألقته الرئيسة السابقة للمحكمة الإسرائيلية العليا وتطرقت فيه إلى عدة مسائل ذات صلة).
ويؤكد تقرير "جمعية حقوق المواطن" أن إسرائيل "تشهد خلال الأعوام الأخيرة توجها مثيرا للقلق الشديد نحو ضرب القيم الديمقراطية وطرح مبادرات عديدة معادية للديمقراطية" وأن "أكثر ما يثير القلق، بشكل خاص، هو حقيقة أن إحدى الساحات المركزية التي تشكل منطلقا لدوس الديمقراطية وقيمها وللمساس بقواعد اللعبة الديمقراطية هي ساحة البرلمان نفسه، الذي يمثل قلب الديمقراطية ويفترض أن يكون رمزها وحصن الدفاع عنها"، ذلك أنه "لما يُقال ويُنفَّذ في الساحة السياسية ـ الحزبية، خاصة في الكنيست، إسقاطات بعيدة الأثر على الجمهور الإسرائيلي العريض ومواقفه وتوجهاته الديمقراطية، في قضايا حقوق الإنسان، حقوق الأقليات السياسية، الاجتماعية أو الإثنية، سلطة القانون وغيرها".
ثمة قيمة مُضافة لهذا التقرير تكمن في توكيده أن المبادرات والمحاولات التشريعية المشار إليها، حتى وإن لم تكتمل ولم تبلغ منتهاها المرجو بسن قوانين جديدة، ثم بتنفيذها وتطبيقها على أرض الواقع، إلا إن مجرد طرحها وتداولها، سياسيا وإعلاميا وجماهيريا، يُعدّ إجراء كافياً لتحقيق "أثر رادع" على المجتمع الإسرائيلي بأسره، من خلال إحداث أضرار جسيمة للفئات والقطاعات المعنية بها مباشرة، وفي مقدمها الأقلية العربية الفلسطينية، منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني، المحكمة العليا والجهاز القضائي عموماً، النيابة العامة للدولة، وسائل الإعلام، الأكاديميا والوسط الفني والثقافي. ذلك أن طرح هذه المبادرات التشريعية على جدول أعمال الكنيست يضعها أيضا على جدول الأعمال الإعلامي والجماهيري، فيتحقق أثرها على المزاج العام وأنماط التفكير والتوجهات وعلى قراءة الواقع في المجتمع الإسرائيلي.
ومن نافل القول إن ما يهدف إليه اليمين الإسرائيلي من وراء ما يسميه التقرير "تضييق الحيّز الديمقراطي"، هو تحقيق عدة غايات قد تكون أبرزها ما يلي: أولاً، استمرار ضرب مكانة الفلسطينيين في الداخل قوميا ومدنيا وسياسيا؛ ثانياً، تدعيم الأدوات والآليات التي تتيح له إمكان تنفيذ سياسته الخارجية ولا سيما المتعلقة بالقضية الفلسطينية والأراضي المحتلة منذ عام 1967.
وفي هذا الشأن الأخير تحديداً، لا بُد من أن نلفت الأنظار إلى ما طرأ من مستجدات أخيرة على موقف المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية أفيحاي مندلبليت فيما يتعلق بشرعنة الاستيلاء على أراض فلسطينية خاصة لخدمة مشروع الاستيطان الإسرائيلي المتغوّل. وسبق أن توقفنا عند هذا الموضوع في إطار تقرير خاص يمكن مطالعته على الموقع الإلكتروني لمركز "مدار". وقد أشرنا فيه إلى أنه على الرغم من أن موقف مندلبليت يدعم إلغاء ما يسمى "قانون التسوية"، الذي يهدف إلى تنظيم الوضع القانوني للبؤر الاستيطانية العشوائية في الضفة الغربية، فإن موقفه هذا إشكاليّ جداً في مضمونه ويتعارض تماماً مع وجهة نظر القانون الدوليّ، ومع أنّه يعارض سنّ القانون إلا إنّه في تفسيره لذلك يعتبر شرعنة المستوطنات هدفاً مقبولاً ويشدّد على أن معارضته للقانون تأتي لأن إسرائيل تمتلك اليوم الأدوات الكافية لتحقيق هذا الهدف ولمصادرة الأراضي الفلسطينيّة الخاصّة التي أعطيت للمستوطنين. يُضاف إلى هذا أنّ المستشار القانونيّ في موقفٍ قضائيّ آخر أصدره أخيراً، أعطى الضوء الأخضر لاستخدام هذه الأدوات القانونيّة في قضايا كثيرة، ومن ضمنها قضيّة مصادرة أراضٍ فلسطينيّة خاصّة "لصالح الجمهور" من أجل شق طريقٍ إلى بؤرة استيطانيّة عشوائية.
وفيما يختص بالمواطنين العرب نشير، من ضمن أمور أخرى، إلى سعي الحكومة الإسرائيلية الحالية لإتمام إجراءات تشريع القانون الأساس المُسمّى "قانون القومية" الذي يعرّف إسرائيل بأنها "الدولة القومية للشعب اليهودي"، والذي لا تنفكّ جهات متعددة بينها "سيكوي- الجمعية العربية اليهودية لدعم المساواة والشراكة"، تكرّر أن الهدف الأساس منه هو المساس بمكانة المواطنين العرب ولغتهم العربية بدلا من الاعتراف بحقوقهم وخصوصيتهم كأبناء أقلية قومية أصلانية، وتنوّه بأن نص مشروع القانون يستعرض بالتفصيل كل الامتيازات التي يحصل عليها اليهود لمجرّد كونهم كذلك من دون أن يشير إلى أي ضمانة واضحة بشأن صيانة حقوق المواطنين العرب. كما يُشار في سياق ذلك، إلى أن المرة الوحيدة التي ذكرت فيها كلمة "عربي" في مشروع القانون كانت بهدف تكريس المكانة الدونية للغة العربية في إسرائيل.
وبقدر ما إن هذه المُستجدات وما شابهها ترسم ملامح الطريق الذي تمضي إسرائيل نحوه بخُطى متسارعة، بقدر ما إنها توضّح التحديات التي ينبغي أن تكون ماثلة أمامنا فيما يخص التعامل معها ومع سياساتها العامة، الآن وفي المستقبل.