المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تطالعون في الصفحة الثانية من هذا العدد عرضاً تحليلياً مُسهباً لبحث إسرائيليّ جديد أعدّه طاقم من "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" ونُشر في كتاب يقع في 184 صفحة صدر عن المعهد في أوائل تشرين الثاني الجاري تحت عنوان "شراكة محدودة الضمان ـ العرب واليهود في إسرائيل 2017".

ويشير البحث من ضمن أمور عديدة، إلى أن "التوتر بين العرب واليهود في إسرائيل" يحتل المرتبة الأولى في لائحة "التوترات الاجتماعية في إسرائيل"، وإلى أنه بينما كان 47 بالمئة من العرب و50 بالمئة من اليهود يعتقدون في العام 2012 أن هذا التوتر هو الأقوى والأكثر حدة في إسرائيل، ارتفعت نسبة هؤلاء في العام 2016 إلى 50 بالمئة بين العرب و 68 بالمئة بين اليهود.

ويتضح منه أيضاً أن المعسكر الذي يشكّك في فكرة الدمج المتساوي للعرب في إسرائيل بل المُعادي لها، هو المعسكر الأكبر بصورة بيّنة في صفوف مجموعة الأكثرية اليهودية، حتى بالمقارنة مع المعسكر الذي يبدي استعدادا للتنازل عن مكانته التفضيلية لصالح دمج الجمهور العربي في شؤون الدولة والمجتمع على قاعدة المساواة، مع عدم التنازل في معظم الحالات عن تعريف إسرائيل بأنها "الدولة القومية للشعب اليهودي"!

ومثلما يرد في نطاق عرض هذا البحث، فقد انطلق معدوه من نقطة، نفترض بأنها مُسبقة الأدلجة، هي تحميل السكان العرب ونخبهم السياسية والفكرية مسؤولية تصاعد حدّة التوتر المذكور ارتباطاً بوقائع متعدّدة، اختاروا أن يعيدوا إلى الأذهان من بينها وثائق التصور المستقبلي التي نُشرت في منتصف العقد الفائت وعكست "مطلب الأقلية العربية بالاعتراف المؤسساتي الرسمي بها كأقلية قومية أصلانية، إلى جانب المطالبة بالمشاركة الكاملة في السلطة"، وجزموا بأن "نشر هذه الوثائق عمّق التوتر بين العرب واليهود في إسرائيل وزاد من حدته"!.

أشير إلى هذا كله لا في سبيل التمهيد للتساجل معه، وإنما لعكس صورة عن الأفكار المقولبة الجاهزة التي تحكم جلّ المواقف الإسرائيلية إزاء القضايا الفلسطينية والعربية.

وعلى هذه الأفكار المُتجذرة على نحو عميق في التربة الإسرائيلية الرسمية والشعبية، يفتح الباحث والمترجم الإسرائيلي يونتان مندل النار في سياق مقاربة نقدية جديدة نشرها أخيراً في كراسة "دليل العالم العربي" التي صدرت في مناسبة إقامة معرض خاص للفنان تامير تسادوك في متحف تل أبيب للفنون محوره "النظرة الإسرائيلية إلى العالم العربي"، وقدّم فيها قراءة معمقة في وقائع ترسّخ مفهوم "الاستعراب" داخل المجتمع الإسرائيلي في شتى المستويات، وفي مقدمها المستوى الثقافي المؤدلج بالصهيونية، والمستوى الأمني الذي ما يزال المسؤولون عنه يسعون لعسكرة كل مجالات الحياة المدنية في إسرائيل.

ويتوصل مندل إلى خلاصة مثيرة فحواها أن الذين يقدمون أنفسهم بأنهم "يعرفون" العرب بشكل جيّد في إسرائيل، ولا سيما في وسائل الإعلام، هم تحديداً الأكثر مساهمة في القضاء على ما يسميه "الاحتمال الأخير للعيش المشترك" بين الشعبين. وهم، برأيه، ينذرون العرب واليهود على حد سواء باتخاذ الحيطة والحذر من بعضهم البعض، و"العالم الوحيد الذي يسعون إلى تجذيره وتأصيله بيننا هو ذاك الذي يعزز وساطتهم، وفي إطاره تبقى إسرائيل جسماً غريباً في العالم العربي".

وبقدر ما إن الغاية التي ينشدها هؤلاء، بموجب ما يعيد مندل تأكيده مراراً وتكراراً، هي أن يرى الإسرائيليون في العربي لمجرّد كونه كذلك خطراً وجودياً- كما رآه بكيفية ما بحث "المعهد الإسرائيلي للديمقرطية" السالف- بدلاً من أن يرونه إنساناً أولاً، فإنه بموازاة ذلك تُزيّن هذه الغاية نفسها أمام الإسرائيليين سبيل الهروب إلى الأمام من المسؤولية عن استمرار الصراع والحروب ومعاناة الفلسطينيّ، سواء في الأراضي المحتلة منذ 1967 أو في مناطق 1948. وهذا ما يشدّد عليه المدير الأكاديمي لـ"منتدى التفكير الإقليمي" في إسرائيل، عندما يلمح إلى أن منهجية طمس المعلومات المتعلقة بالفلسطينيين في التحليلات الصادرة عن المؤسسة السياسية الإسرائيلية وعن معظم أدبيات المؤسسة الأكاديمية ووسائل الإعلام، تستهدف بالأساس إخفاء المعلومات التي تعطي صوتاً وهيئة إنسانيين لهؤلاء الذين تتحدث عنهم، بما يخدم تطلعها الدائم إلى شيطنتهم.

بناء على ذلك يمكن القول إنه تكرّس وعي إسرائيلي عام إزاء الإنسان الفلسطينيّ. وهذا الوعي آخذ بالانغراز أكثر فأكثر في ظل تواتر الحديث عن هذا الإنسان كخطر من طرف اليمين، من جهة، ومن جهة أخرى في ظل تواطؤ من يُفترض أن يكون معارضة فعلية لهذا اليمين مع ذلك الحديث حدّ استخدامه لمغازلة قواعد اليمين، كما شهدنا مرات يصعب حصرها خلال الأعوام القليلة الفائتة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات